التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2621 [ ص: 280 ] 29 - باب: الوقف للغني والفقير والضيف

2773 - حدثنا أبو عاصم ، حدثنا ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه وجد مالا بخيبر ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، قال : " إن شئت تصدقت بها " . فتصدق بها في الفقراء والمساكين وذي القربى والضيف . [انظر : 2313 - مسلم: 1632 - فتح: 5 \ 399]


ذكر فيه حديث ابن عمر أن عمر وجد مالا بخيبر ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال : "إن شئت تصدقت بها " . فتصدق بها في الفقراء والمساكين وذي القربى والضيف .

وذكر قبله : باب الوقف كيف يكتب ثم ساق فيه الحديث المذكور . وأخره ابن بطال بعده ، ولا شك أنه ليس من شرط الوقف أن يكون للفقراء والمساكين خاصة ، ألا ترى أن عمر شرط في وقفه معهما ذا القربى والضيف وقد يكون فيهم أغنياء ، وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة : "إني أرى أن تجعلها في الأقربين " فجعلها لحسان (بن ثابت ) وأبي بن كعب ولم يكونوا فقراء ، ولم يحرم الله على الأغنياء من الصدقات إلا الزكاة وصدقة الفطر خاصة ، وأحل لهم الفيء والجزية وصدقات التطوع كلها ، فجائز للواقف أن يجعل وقفه لمن شاء من أصناف الناس أغنياء كانوا أو فقراء ، قرباء كانوا أو بعداء له شرط في ذلك وهذا لا خلاف فيه .

وحديث عمر هذا أصل في إجازة الحبس والوقف ، وهو قول أهل

[ ص: 281 ] المدينة والبصرة ومكة والشام والشعبي من أهل العراق ، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي . وقال أبو حنيفة وزفر : الحبس باطل ولا يخرج عن ملك الذي وقفه ويرثه ورثته ، ولا يلزم الوقف عنده إلا أن يحكم به حاكم وينفذه ، أو يوصي به بعد موته ، وإذا أوصى به اعتبر من الثلث ، فإن جمله الثلث جاز وإلا رد .

وحجة الجماعة قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر : "إن شئت حبست أصلها " وهذا يقتضي أن الشيء إذا حبس صار محبوسا ممنوعا منه لا يجوز الرجوع فيه ; لأن هذا حقيقة الحبس ألا ترى أن عمر لما أراد التقرب بفعل ذلك رجع في صفته إلى بيان الشارع ، وذلك قوله : (فتصدق بها عمر أنها لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث ) ، وعند المخالف أن هذا باطل وليس في الشريعة صدقة بهذه الصفة ، وأيضا فإن المسألة إجماع من الصحابة ، وذلك أن الخلفاء الأربعة وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاصي وابن الزبير وجابرا كلهم وقفوا الوقوف ، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة .

واحتجاج أبي حنيفة بما رواه عطاء عن ابن المسيب قال : سألت شريحا عن رجل جعل داره حبسا على الآخر فالآخر من ولده . وقالوا : لا حبس على فرائض الله قالوا : فهذا شريح قاضي عمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدين حكم بذلك وبما رواه ابن لهيعة عن أخيه عيسى ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بعدما أنزلت سورة النساء وأنزل الله فيها الفرائض :

[ ص: 282 ] "نهي عن الحبس "
وفي لفظ : "لا حبس بعد سورة النساء " فلا حجة فيه لضعف ابن لهيعة ، -يعني : عبد الله - ونسب إلى الاختلاط ، وأخوه لا يعرف ووقع في العقيلي : عثمان بدل عيسى .

ولا حجة أيضا في قول شريح ; لأن من تصدق بماله في صحة بدنه فقد زال ملكه عنه ، ومحال أن يقال لمن زال ملكه عنه قبل موته بزمان : حبسه عن فرائض الله . ولو كان حابسا عن فرائض الله من أزال ملكه عما ملكه لم يجز لأحد التصرف في ماله ، وفي إجماع الأمة أن ذلك ليس كذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول شريح أنه بمعنى إبطال الصدقات المحرمات ، وثبت أن الحبس عن فرائض الله إنما هو لما يملكه في حال موته ، فبطل حبسه كما قال شريح ويعود ميراثا بين ورثته .

مثاله أن يحبس مالا على إنسان بعينه فيجعل له غلته دون رقبته ، أو على قوم بأعيانهم ولا يجعل لحبسه مرجعا في السبل التي لا يفقد أهلها بحال ، فإن ذلك يكون حبسا (عن ) فرائض الله .

[ ص: 283 ] وليس في حديث عطاء أن الرجل جعل لحبسه مرجعا بعد انقراض ورثته ولا أخرجها من يده إلى من حبسها عليه ولا إلى (ناقض ) حتى يحدث به الوفاة ، فكانت لا شك أن صاحبها هلك وهي في ملكه ولورثته بعد وفاته ، فيكون هذا من الحبس عن فرائض الله إذ كانت الصدقة لا تتم لمن تصدق بها عليه إلا بقبضه لها ، وأما الصدقة التي أمضاها المتصدق بها في حياته على ما أذن الله به على لسان رسوله وعمل بها الأئمة الراشدون فليس من الحبس عن فرائض الله .

ولا حجة في قول شريح ولا أحد مع مخالفة السنة وعمل أئمة الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق ، ويقال لمن احتج بقولشريح في إبطال الصدقات المحرمات في الصحة إن شريحا لم يقل : لا حبس عن فرائض الله في الصحة ، فكيف وجب أن تكون صدقة المتصدق في حال الصحة من الحبس عن فرائض الله ، ولا يجب أن تكون صدقته في مرضه الذي يموت فيه أو في وصيته من الحبس عن فرائض الله ، ومعنى الصدقتين واحد ، وكما أن في مرضه يتصدق في ثلثه كيف شاء كذا في صحته في كل ماله ، فلما كان ما يفعله في ثلثه لا يدخل في "لا حبس " كذا ما كان في صحته من باب أولى .

وحديث ابن عباس مؤول بأولى من تأويل شريح ، وهو أن المراد نفي ما كانت الجاهلية تفعله من السائبة ونحوها ، فإنهم كانوا يحبسون ما يجعلونه كذلك ، ولا يورثونه أحدا فلما نزلت آية المواريث قال :

[ ص: 284 ] "لا حبس " وهو مروي عن مالك ، فإن قلت : مقتضاه نفي كل حبس فعل في الإسلام وكان في الجاهلية . قلت : هو نفي لما كانوا يفعلونه وهم كفار بعد الإسلام ، فإن قلت : كيف تخرج من ملك أربابها لا إلى ملك مالك ؟ قلت : لا إنكار فيخرج عن ملك مالكه إلى المالك الحقيقي ، وهو الرب جل جلاله بدليل المسجد . قال الطحاوي : وتأوله بعضهم على ما كان من الأحباس منقطع بانقطاع ما حبس عليه وبموت من حبس عليه ، فيرجع جانبا من الحبس .

تنبيهات :

أحدها : قوله : (وجد مالا بخيبر ) . المال هنا هو الأرض المذكورة في أوله في الرواية الأخرى ، وفي الباب بعده . وذكر الطحاوي في كتابه "اختلاف العلماء " أن المال كان مائة سهم اشتراها (استجمعها ) وفي "المحلى " لابن حزم : وتصدق بمائة وسق حبسها بوادي القرى .

ثانيها : فيه أن خيبر قسمت و (أخذ ) كل أحد ماله . والأنفس : الأجود . قال الداودي : اشتقاقه أنه يأخذ بالأنفس من جلالته قال : وفيه : أن مفهوم الخطاب يجري مجرى الخطاب لقوله : كيف تأمرني به ؟

ثالثها : الحبس : المنع . وحكى الداودي عن الكوفي وأصحابه وشريح أن الأحباس تورث ، وإنما يجوز ما قبض في حياته ، قال :

[ ص: 285 ] وهم يقولون : يرجع في صدقته ما لم يقبض . والذي حكاه في "المعونة " عن الكوفي أنه لا يزول الوقف عن اسم ملك مالكه قبض أو لم يقبض ، ويرجع فيه بالبيع والهبة ، ويورث عنه إلا أن يحكم به حاكم أو يكون الوقف مسجدا أو سقاية أو يوصي به فيكون في ثلثه ، وأتى أبو (سفيان ) البصرة فذكر له أمر الحبس فأخبر بحديث ابن عمر في حبس والده عمر وقيل له : أيوب يرويه عن نافع عن ابن عمر . قال : فمن يحدثنا به عن أيوب ؟ فحدثه ابن علية ، فرجع وقال : هذا شيء لم يكن عندنا . وروي عن عيسى بن أبان أن أبا يوسف لما قدم بغداد من الكوفة كان على رأي أبي حنيفة في بيع الأوقاف ، فلما أخبر بحديث ابن عون عن نافع وحديث عمر قال : هذا لا يسع أحدا خلافه ولو تناهى إلى أبي حنيفة لقال به ، ولما خالفه ، وسمعت بكارا أيضا يقول : قدم أبو يوسف البصرة وهو على مذهب أبي حنيفة في بيع الوقف ، فجعل لا يرى أرضا نفيسة إلا وجدها وقفا عن الصحابة ، ثم صار إلى المدينة فرأى بها أوقافا كثيرة عن الصحابة وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدفع كلام أبي حنيفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية