التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2660 2815 - حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - يقول : اصطبح ناس الخمر يوم أحد ، ثم قتلوا شهداء . فقيل لسفيان من آخر ذلك اليوم ؟ قال ليس هذا فيه . [4044 ، 4618 - فتح: 6 \ 31]


ثم ساق حديث أنس : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ، وقد سلف قريبا ، ويأتي في المغازي ، وأخرجه مسلم في الصلاة .

وحديث جابر : اصطبح ناس الخمر يوم أحد ، ثم قتلوا شهداء . فقيل لسفيان : من آخر ذلك اليوم ؟ قال : ليس هذا فيه .

قلت : لا شك أنه كان قبل تحريمها ، فما منعهم ذلك من الشهادة ; لأن ما قبل النهي عفو ، وأما الآية فروى الحاكم في "مستدركه " صحيحا من حديث ابن عباس مرفوعا : "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله

[ ص: 404 ] أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد من أنهار الجنة
، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة (في ظل ) العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ، فقالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق ؟ لئلا يزهدوا في الجهاد ، ويتكلوا عن الحرب ، فقال الله -عز وجل - : أنا أبلغهم عنكم " فأنزل الله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية .
[آل عمران : 169] .

وذكره الطبري عن ابن مسعود مرفوعا ، وروى الواحدي من حديث طلحة بن خراش عن جابر أنها نزلت في والد جابر ، وقال سعيد . . بن جبير : نزلت في حمزة ، ومصعب بن عمير ، لما أصيبا يوم أحد ، وقال سعيد بن جبير : نزلت في أهل أحد خاصة ، وقال جماعة منهم : نزلت في شهداء بئر معونة ، وقيل : نزلت تنفيسا لأولياء الشهداء وإخبارا عن حال قتلاهم ، فإنهم كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور تحسروا وقالوا : نحن في النعمة والسرور وأبناؤنا في القبور ، وقال مقاتل : نزلت في قتلى بدر ، وكانوا أربعة عشر شهيدا .

وقوله : ( فرحين ) هو مثل فارحين ، قال الداودي : وقد يقال الفرحين الآمنين في الدنيا ، المغترين بزينتها .

ومعنى ( لم يلحقوا بهم ) أي : في الفضل ، وإن كان لهم فضل وأن الله لا يضيع المعنى : ويستبشرون " بأن الله " وقرأ الكسائي :

[ ص: 405 ] (وإن الله )
، بكسر الألف على أنه مقطوع من الأول المعنى ، وهو لا يضيع أجر المؤمنين ثم جيء بـ (إن ) توكيدا ، وحديث أنس سلف طرف منه أيضا في القنوت ، وسيأتي في غزوة الرجيع أيضا .

وفي "غرائب مالك " للدارقطني يقول في دعائه : "اللهم اشدد وطأتك على مضر الفدادين أهل الوبر ، اللهم سنين كسني يوسف " . تفرد به أحمد بن صالح ، عن ابن نافع ، عن مالك بهذا الإسناد ، وللطبري من حديث أنس : لا أدري أكانوا أربعين أو سبعين ، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري .

وفيه : أن حرام بن ملحان الأنصاري هو الذي بلغ الرسالة ، وأن عامر بن الطفيل قتلهم أجمع ، وأنزل الله ولا تحسبن الآية .

وفي "سير ابن إسحاق " أن بعثهم كان على رأس أربعة أشهر من أحد وكان أبو براء (عامر ) بن مالك ملاعب الأسنة هو الذي طلبهم ، وأنه قال : أنا لهم جار ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنذر بن عمرو في أربعين رجلا من خيار المسلمين ، فيهم الحارث بن الصمة ، وحرام بن ملحان ، وعروة بن أسماء ونافع بن ورقاء وعامر بن فهيرة فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ، واستصرخ عليهم عامر بن الطفيل بني عامر ، فأبوا أن يجيبوه ، وقالوا : لن نخفر أبا براء فاستصرخ تلك القبائل عصية وغيرها فقتلوهم إلا كعب بن زيد فتركوه

[ ص: 406 ] وبه رمق ، فعاش حتى قتل يوم الخندق ، وأسر عمرو بن أمية وكان على سرح القوم ، ثم أطلق لما أخبر أنه من مضر أطلقه عامر ، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما يزعم ، فلما أخبر عمرو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر قال : "هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها " .

وفي "مغازي موسى بن عقبة " فقال : كان أمير السرية مرثد بن أبي مرثد .

ولمسلم : أن ناسا جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة ، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار ، يقال لهم : القراء قال أنس : منهم خالي حرام ، فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان .

وللبيهقي في "دلائله " عن أنس أيضا : لما أصيب خبيب بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا على حي من بني سليم قال : فقال خالي حرام لأميرهم : دعني فلأخبر هؤلاء أنا ليس إياهم نريد ، فيخلون وجوهنا قال : فأتاهم ، فاستقبله رجل منهم برمح فأنفذه به ثم انطووا عليهم فما بقي منهم مخبر .

قال ابن التين : ويقال : إن عامر بن فهيرة لم يوجد ، يرون أن الملائكة وارته .

و (معونة ) بالنون وفتح الميم وضم العين ، بين مكة وعسفان أرض لهذيل ، وعن الكندي هي جبال يقال لها : أبلى في طريق المصعد من

[ ص: 407 ] المدينة إلى مكة وهي لبني سليم ، وقال أبو عبيدة في "كتاب المقاتل " : هي ماء لبني عامر بن صعصعة ، وقال الواقدي : هي أرض لبني سليم وأرض بني كلاب .

و (رعل ) بكسر الراء ثم عين مهملة ساكنة ثم لام ; ابن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة.

و (ذكوان ) هو ابن ثعلبة بن سليم بن منصور ، قال ابن دريد : اشتقاقه من شيئين : إما من الذكاء ممدود ، وهو تمام السن أو من ذكا النار مقصور ، واشتقاق رعل من الرعلة ، وهي النخلة الطويلة ، والجمع رعال ، والرعلة القطعة من الخيل ، والراعل نخل من النخل معروف بالمدينة ، وناقة رعلاء إذا قطعت أذنها فتركت منها قطعة معلقة ، وعصية قال الهجري : هو الخفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور .

تتمات :

أحدها : قال الداودي : قوله : (ثم نسخ بعد ) يريد سقطت عن ذكره ; لتقادم عهده إلا أن تذكر بمعنى الرواية ليس النسخ الذي يبدل مكانه خلافه ; لأن الخبر لا يدخله نسخ ، وعبارة غيره : إن القرآن ربما نسخ لفظه ، وبقي حكمه مثل : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة . فمعنى النسخ هنا أنه أسقط من التلاوة .

وقال السهيلي : هذا المذكور -أعني : ما نزل ونسخ - ليس عليه (رونق ) الإعجاز ، قال : ويقال : إنه لم ينزل بهذا النظم ، ولكن بنظم

[ ص: 408 ] معجز كنظم القرآن ، ولا يقال : إنه خبر ، والخبر لا ينسخ ، إنما نسخ منه الحكم فقط ، فإن حكم القرآن التلاوة ، وأن لا يمسه إلا طاهر وأن يكتب بين الدفتين ، وأن يكون تعلمه من فروض الكفاية ، فكل ما نسخ ، (ورفعت ) منه هذه الأحكام وإن بقي محفوظا فإنه منسوخ ، فإن تضمن حكما جاز أن يبقى ذلك الحكم معمولا به ، وأنكرت ذلك المعتزلة ، وإن تضمن خبرا بقي ذلك الخبر مصدقا به ، وأحكام التلاوة منسوخة عنه ، كما نزل : لو أن لابن آدم واديان من ذهب . فهذا خبر حق ، والخبر لا ينسخ ، لكن نسخ منه أحكام التلاوة له ، وكان قوله : لو أن لابن آدم ، في سورة يونس بعد قوله : كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون [يونس : 24] كذا قال ابن سلام .

ثانيها : فيه دلالة كما قال المهلب : أن من قتل غدرا شهيد ; لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرا بهم .

ثالثها : اختلف الناس في كيفية حياة الشهيد ، وأولاها -كما قال ابن بطال - أن تكون الأرواح ترزق ، وكذا جاء الخبر : "إنما نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة " ، قال أهل اللغة : يعني يأكل منها .

قال صاحب "المطالع " تعلق : بضم اللام أي : تتناوله ، وقيل : نسمة وبالفتح أيضا ، ومعناه : تتعلق وتلزم ثمارها وتأوي إليها ، وقيل : هما

[ ص: 409 ] سواء ، وقد روي تسرح ، وهو يشهد للضم ومن رواه بالتاء على النسمة ، ويحتمل أن يرجع إلى التطير على أن يكون جمعا ، ويكون ذكر النسمة ; لأنه أراد الجنس لا الواحد ، وقد يكون التأنيث للروح ; لأنها تذكر وتؤنث ، وهذا الحديث أنها تعلق عام والقرآن ذكر في الشهداء .

قال الداودي : وقيل : تمثل أرواحهم طيرا تسرح في الجنة ، قال : وذكر بإسناد ضعيف أنها تجعل في حواصل طير ، ولا يصح في النقل ولا الاعتبار ; لأنها إن كانت هي أرواح الطير . فكيف يكون في الحواصل دون سائر الجسد ؟ وإن كان لها أرواح غيرها فكيف يكون لها روحان في جسد ؟ وكيف تصل لهم الأرزاق التي ذكر الله تعالى ; قال : وإنما الصحيح أن أرواحهم طائر تعلق في شجر الجنة ، (أي ) ترعى حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي .

قلت : وما أنكره هو ثابت في "صحيح مسلم " ، وهو معدود من أفراده من حديث مسروق ، قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : ولا تحسبن الذين قتلوا فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : "إن أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربكم إطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا ، ثم نأوي إلى تلك القناديل ، فقال لهم ذلك ثلاثا . فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا " .

[ ص: 410 ] وفي "مستدرك الحاكم " وقال : على شرط مسلم من حديث محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير -زاد ابن أبي عاصم : - وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد من أنهار الجنة وتأكل من ثمارها . . " الحديث .

ومن حديث الحسين بن واقد -عند ابن أبي عاصم - عن الأعمش ، عن شقيق ، عن ابن مسعود أن الثمانية عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر ، وفي لفظ : "أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحت العرش " .

ومن حديث عطية ، عن أبي سعيد مرفوعا : "أرواح الشهداء في طير خضر ترعى في رياض الجنة ، ثم يكون مأواها قناديل معلقة بالعرش " .

ومن حديث موسى بن عبيدة الربذي عن (عبيد الله بن يزيد ) ، عن أم فلانة -أظنها : أم (مبشر ) - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أرواح المؤمنين طير خضر في حجر من الجنة يأكلون من الجنة ، ويشربون من الجنة " .

وبإسناد جيد إلى كعب بن مالك مرفوعا : "أرواح الشهداء في طير خضر " .

[ ص: 411 ] ولمالك في "الموطأ " : "نسمة المؤمن طائر " .

وأول بعض العلماء (في ) بمعنى (على ) أي : أرواحهم على جوف طير خضر ، كما قال تعالى : ولأصلبنكم في جذوع النخل أي : على جذوع ، وجائز أن يسمى الطير جوفا لهم أو هو محيط به ومشتمل عليه كالحامل والجنين ، كما نبه عليه عبد الحق .

التالي السابق


الخدمات العلمية