التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
[ ص: 419 ] 23 - باب: من طلب الولد للجهاد

2819 - وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز قال : سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "قال سليمان بن داود - عليهما السلام - لأطوفن الليلة على مائة امرأة -أو تسع وتسعين - كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : إن شاء الله . فلم يقل : إن شاء الله ، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة ، جاءت بشق رجل ، والذي نفس محمد بيده ، لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " . [3424 ، 5342 ، 6639 ، 6720 ، 7469 - فتح: 6 \ 34]


ذكر فيه حديث أبي هريرة -معلقا - فقال : "قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على مائة امرأة -أو تسع وتسعين - كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه إن شاء الله . فلم يقل : إن شاء الله ، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة ، جاءت بشق رجل ، والذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " .

هذا الحديث كذا أخرجه البخاري هنا معلقا وأسنده في (ستة ) مواضع منها في الأيمان والنذور عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج .

وفي لفظ : "ستين امرأة " ، وفي لفظ : "سبعين " ، وفي آخر : "مائة " ; من غير شك ، وفي آخر : "تسعة وتسعين " ; من غير شك ، ولا منافاة بين هذه الروايات ; لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير ، وهو من باب مفهوم العدد ، ولا يعمل به جمهور أهل الأصول ، وفي آخر : "فقال له الملك : قل : إن شاء الله ، فلم يقل ونسي " ، وطريق الليث أخرجها أبو نعيم من

[ ص: 420 ] حديث يحيى بن بكير عنه ، وكذلك مسلم في "صحيحه " من حديثه .

إذا تقرر ذلك ; فالكلام عليه من وجوه :

أحدها : فيه : الحض على طلب الولد بنية الجهاد في سبيل الله ، وقد يكون الولد بخلاف ما أمله فيه فيكون كافرا ، ولكن قد تم له الأجر في نيته وعمله .

ثانيها : أن من قال : إن شاء الله وتبرأ من المشيئة إلا لله ولم يعط (الخاصة ) لنفسه في أعماله أنه حري بأن يبلغ أمله ويعطي أمنيته ، ألا ترى أن سليمان لما لم يرد المشيئة إلى الله ولم يستثن ما لله في ذلك حرم أمله ، ولو استثنى بلغ أمله . كما أخبر الصادق ، وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة فواجب ألا يبلغ أمله ، بل منهم من يشاء الله إتمام أمله ، ومنهم من لا يشاء بسابق علمه ، ولكن هذه التي أخبر عنها الصادق أنها مما لو استثنى المشيئة لتم له أمله ، فدل هذا على أن الأقدار في علم الله على ضروب ، فقد يقدر للإنسان الولد والرزق والمنزلة إن فعل كذا ، أو قال أو دعا ، فإن لم يفعل ولا قال لم يعط ذلك الشيء وأصل هذا في قصة يونس - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى : فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [الصافات :143 - 144] فبان بهذه الآية أن تسبيحه كان سبب خروجه من بطن الحوت ، ولو لم يسبح ما خرج منه .

ثالثها : أن الاستثناء قد يكون بإثر القول ، وإن كان فيه سكوت يسير لم تنقطع به دونه الأفكار الحائلة بين الاستثناء واليمين ، وستعلم ذلك في موضعه .

[ ص: 421 ] رابعها : أن الأنبياء يعتريهم السهو ، نبه عليه ابن التين .

خامسها : قوله : ("لأطوفن " ) كذا روي هنا ، وفي رواية أخرى : "لأطيفن " ، وكلاهما صحيح كما قال المبرد ، يقال : طاف بالشيء وأطاف به وأصله : الدوران حول الشيء ، وهو (هنا ) كناية عن الجماع ، وهو قال على ما خص الله به أنبياءه من صحة البنية ، وكمال الرجولية مع ما كانوا عليه من الجد والاجتهاد في العبادة ، والعادة في مثل هذا لغيرهم الضعف عن الجماع ، لكن خرق الله تعالى لهم العادة في أبدانهم ، كما خرقها لهم في معجزاتهم وأحوالهم ، فحصل لسليمان من الإطاقة أن يطأ في ليلة مائة امرأة ينزل في كل واحدة منهن .

وسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطي (فيه ) أكثر من ذلك قوى ثلاثين رجلا ، وفي "الطبقات " : أربعين . قال مجاهد : أعطي قوة أربعين رجلا كل رجل من أهل الجنة .

وقد أوضحت الكلام عليه في "الخصائص " ، وكان إذا صلى الغداة دخل على نسائه فطاف عليهن بغسل واحد ثم يبيت عند التي هي ليلتها ، وإن روي من حديث عائشة طوافه عليهن من غير مسيس ولا مباشرة .

[ ص: 422 ] واللام في "لأطوفن " داخلة على جواب القسم ، وكثيرا ما تحذف معها العرب المقسم به اكتفاء بدلالتها على المقسم به ، لكنها لا تدل على مقسم معين ، ويؤيده قوله : "لو قال إن شاء الله لم يحنث " لأن عدم الحنث ووجوده لا يكون إلا عن قسم ، ويبعد أن يكون ابتدأ به ، وأن ذلك حكايته عن قول سليمان من غير قسم .

سادسها : قوله : ("بفارس " ) وفي رواية : "بغلام " ظاهره الجزم على أن الله تعالى يفعل ذلك لصدق رجائه في حصول الخير ، وظهور الدين والجهاد ، ولا يظن به أنه قطع بذلك على الله تعالى إلا من جهل حال الأنبياء في معرفتهم بالله وتأدبهم معه .

وقوله : ("فقال له صاحبه " ) يعني : الملك ، كما ذكره في النكاح ، وفي مسلم : "فقال له صاحبه أو الملك " وهو شك من (واحد من ) رواته ، وفي رواية له : "فقال لصاحبه " بالجزم من غير تردد .

قال القرطبي : فإن كان صاحبه فيعني به وزيره من الإنس أو من الجن ، وإن كان الملك فهو الذي كان يأتيه بالوحي ، قال : وقد أبعد من قال هو خاطره .

وقال النووي : قيل : المراد بصاحبه ، الملك ، وهو الظاهر من لفظه ، وقيل : القرين ، وقيل : صاحب له آدمي .

قلت : الصواب الأول كما أسلفناه عن رواية البخاري في أثناء النكاح .

[ ص: 423 ] سابعها : قوله : ("فلم يقل إن شاء الله " ) أي : بلسانه ، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله بقلبه ، فإنه لا يليق بمنصب النبوة ، وإنما هذا كما اتفق لنبينا - عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام - لما سئل عن الروح والخضر وذي القرنين ؟ فوعدهم أن يأتي بالجواب غدا جازما مما عنده من معرفة الله وصدقه وعده في تصديقه وإظهار كلمته ، لكنه ذهل عن النطق بها لا عن التفويض بقلبه ، فاتفق أن تأخر الوحي : عنه ورمي مما رمي لأجل ذلك ، ثم علمه الله بقوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله الآية [الكهف : 23 - 24] . فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة حتى في الواجب . وهذا لعلو مناصب الأنبياء وكمال معرفتهم بالله تعالى يعاتبون على ما لا يعاتب عليه غيرهم .

ثامنها : قوله : ("لو قال : إن شاء الله لم يحنث " ) فيه دلالة على أنه أقسم على شيئين : الوطء والولادة ، فإنه فعل الوطء حقيقة والاستيلاد لم يتم ، إذ لو تم (الاستيلاد ) لم يقل فيه ذلك ، وهذا محمول على أنه - عليه السلام - أوحي إليه بذلك في حق سليمان ، لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا ، وهذا من خصائص نبينا في اطلاعه على أخبار الأنبياء السالفة والأمم الماضية .

تاسعها : فيه دلالة على جواز قول : لو ولولا بعد وقوع المقدور ، و (قد ) جاء في القرآن كثير وفي كلام الصحابة والسلف ، وسيأتي ترجمة البخاري على هذا : باب ما يجوز من اللو ، وأما النهي عن ذلك وأنها تفتح عمل الشيطان فمحمول على من يقول ذلك معتمدا على الأسباب معرضا عن المقدور أو متضجرا منه وقد أوضحت ذلك

[ ص: 424 ] في "شرح العمدة " ، فإني أمعنت في شرح هذا الحديث فيه ، وهنا اقتصرنا على أطراف خشية الطول .

العاشر : إن قلت من أين لسليمان أن الله تعالى يخلق من مائه في تلك الليلة مائة غلام لا جائز أن يكون بوحي لأنه ما وقع ، ولا أن يكون الأمر في ذلك إليه ; لأنه لا يكون إلا ما يريد ؟

فالجواب ما ذكره ابن الجوزي : أنه من جنس التمني على الله ، والسؤال له جل وعز أن يفعل والقسم عليه ، كقول أنس بن النضر : والله لا تكسر ثنية الربيع .

قلت : الشارع سماه قسما فقال : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبر قسمه " .

الحادي عشر : قوله : ("فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل " ) وفي رواية : "بشق غلام " ، وفي أخرى : "نصف إنسان " ، وفي أخرى له : "فلم يحتمل شيئا إلا واحدا ساقطا إحدى شقيه " .

الثاني عشر : قوله : ("فلم يقل " ) قد فسر في الرواية الأخرى : "فنسي " وقيل : صرف عن الاستثناء ليتم سابق حكمه تعالى ، وقيل : هو على التقديم والتأخير ، أي : فلم يقل إن شاء الله ، فقيل له : قل : إن شاء الله .

تتمات :

أحدها : سليمان أحد المؤمنين اللذين ملكهما الله الدنيا كلها ، والآخر ذو القرنين ، وملكها كافران : نمروذ وبختنصر . ويقال : إنه

[ ص: 425 ] ملك بعد أبيه وله اثنتا عشرة سنة من عمره ، وسخر (الله ) له الجن والإنس والطير والريح ، وكان إذا جلس في مجلسه عكفت عليه الطير ، فقام له الإنس والجن ، عاش ثلاثا وخمسين سنة .

ثانيها : قال بعض المتكلمين : نبه - صلى الله عليه وسلم - هنا على آفة التمني والإعراض عن التسليم والتفويض ، قال : ومن آفته نسيانه الاستثناء ; ليمضي فيه القدر السابق كما سبق .

ثالثها : في رواية للبخاري ستأتي : "وكان أرجى لحاجته " ، وفي أخرى في "الصحيح " : "وكان دركا لحاجته " ، وهو -بفتح الراء - اسم من الإدراك ، أي : لحاقا قال تعالى : لا تخاف دركا ولا تخشى [طه : 77] والمعنى أنه كان يحصل له ما أراد .

رابعها : فيه أن الاستثناء لا يكون إلا باللفظ ولا تكفي فيه النية ، وهو قول الأربعة والعلماء كافة ، وادعى بعضهم أن قياس قول مالك : أن اليمين تنعقد بالنية صحت الاستثناء بها من غير لفظ ومنع .

خامسها : جواز الإخبار عن الشيء ، ووقوعه في المستقبل بناء على الظن فإن هذا الإخبار راجع إلى ذلك ، وأجاز أصحابنا الحلف على الظن الماضي ، وقالوا : يجوز أن يحلف على خط مورثه إذا وثق بخطه ، وأمانته ، وجوزوا العمل به واعتماده .

سادسها : فيه استحباب التعبير باللفظ الحسن عن غيره ، فإنه عبر عن الجماع بالطواف كما سلف ، نعم لو دعت ضرورة شرعية إلى التصريح به لم يعدل عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية