التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2672 2827 - حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري قال : أخبرني عنبسة بن سعيد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بعد ما افتتحوها ، فقلت : يا رسول الله ، أسهم لي . فقال بعض بني سعيد بن العاص : لا تسهم له يا رسول الله . فقال أبو هريرة : هذا قاتل ابن قوقل . فقال ابن سعيد بن العاص : واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن ، ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهني على يديه . قال : فلا أدري أسهم له أم لم يسهم له . [4237 ، 4238 ، 4239 - فتح: 6 \ 39]


قال سفيان : وحدثنيه السعيدي ، عن جده ، عن أبي هريرة .

قال أبو عبد الله : السعيدي عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص .

ذكر فيه حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد " .

وحديثه أيضا قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بعد ما افتتحها ، فقلت : يا رسول الله ، أسهم لي . فقال بعض بني سعيد بن العاصي : لا تسهم له يا رسول الله . فقال أبو هريرة : هذا قاتل ابن قوقل . فقال

[ ص: 440 ] ابن سعيد بن العاصي : واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن ، ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهني على يديه . قال : فلا أدري أسهم له أم لم يسهم له .


قال سفيان : وحدثنيه السعيدي ، عن جده ، عن أبي هريرة .

قال أبو عبد الله : السعيدي هو : عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو ابن سعيد بن العاص .

الشرح :

الحديث الأول : أخرجه مسلم ; والثاني : من أفراده .

وللنسائي في الأول "يعجب من رجلين " ، وذكره أبو داود وقال : لم يسهم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر أنه أبان بن سعيد بن العاصي .

وخرج البخاري الثاني في المغازي عاليا عن موسى ، عن عمرو بن يحيى بن سعيد ، عن جده .

ولأبي داود : أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث أبان وسعيد بن العاص على سرية من المدينة قبل نجد ، فقدم أبان وأصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر بعد أن فتحها ; فقال أبان : اقسم لنا يا رسول الله .

قال أبو هريرة : فقلت لا تقسم لهم يا رسول الله فقال : (أبان ) : أنت (بها ) يا وبر تحدر علينا من رأس (ضأل ) ; فقال - صلى الله عليه وسلم - :

[ ص: 441 ] "اجلس يا أبان " ولم يقسم لهم
، وفي لفظ فقال سعيد بن العاصي : يا عجبا لوبر .

قال الخطيب : كذا عند أبي داود فقال سعيد : وإنما هو ابن سعيد ، واسمه أبان . قال : والصحيح أن أبا هريرة هو السائل كما تقدم .

قلت : ويجوز أن يكونا سألا جميعا ، وأن أحدهما جاز الآخر بقوله : لا تقسم له .

إذا تقرر ذلك ; فالكلام على ما أوردناه من وجوه بعد أن يعلم أن ترجمة الباب صحيحة ، ومعناها عند العلماء : أن القاتل الأول كان كافرا وتوبته إسلامه :

أحدها :

(الضحك ) مفسر برواية النسائي السالفة "يعجب من رجلين " ونقل ابن الجوزي عن أكثر السلف أنهم كانوا يمنعون من تفسير مثل هذا ويمرونه كما جاء ، قال : وينبغي أن تراعى قاعدة في هذا قبل الإمرار وهي : أنه لا يجوز أن يحدث لله صفة ولا تشبه صفاته صفات الخلق فيكون والعياذ بالله معنى إمرار الحديث الجهل بتفسيره .

قال الخطابي : الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح ، أو يستفزهم الطرب غير جائز على الله تعالى ، وإنما هو مثل مضروب لهذا الصنيع الذي يحل محل التعجب عند البشر ، فإذا رأوه أضحكهم ، ومعنى الضحك في صفة الله : الإخبار عن الرضا بفعل أحد هذين والقبول من الآخر ومجازاتهما (على صنيعهما ) الجنة مع تباين

[ ص: 442 ] مقاصدهما .

وقال ابن حبان في "صحيحه " : يريد أضحك الله ملائكته وعجبهم من وجود ما قضى .

وقال ابن فورك : أن يبدي الله من فضله ونعمه توفيقا لهذين الرجلين كما تقول العرب : ضحكت الأرض بالنبات إذا ظهر فيها ، وكذلك قالوا للطلع إذا انفتق عنه كافره الضحك ; لأجل أن ذلك يبدو منه البياض الظاهر كبياض الثغر .

وقال الداودي : أراد قبول أعمالهما ورحمتهما والرضا عنهما . وكذا قال ابن بطال : المعنى : يتلقاهما بالرحمة والرضوان ، والضحك منه على المجاز ; لأنه لا يكون منه تعالى على ما يكون من البشر ; لأنه ليس كمثله شيء .

ثانيها :

فيه : أن الرجل قد يوبخ مما سلف إلا أن يتوب فلا توبيخ عليه ، ولا تثريب ألا ترى أن أبا هريرة لما وبخ ابن سعيد على قتل ابن قوقل كيف رد عليه أقبح الرد ، وصارت له عليه الحجة كما صارت لآدم على موسى ; من أجل أنهما وبخا بعد التوبة من الذنب .

وفيه : أن التوبة تمحو ما سلف قبلها من الذنوب القتل وغيره ; لقوله : (أكرمه الله على يدي ولم يهني على يديه ) لأن ابن قوقل

[ ص: 443 ] وجبت له الجنة بقتل ابن سعيد له ، ولم تجب لابن سعيد النار ; لأنه تاب وأسلم ، ويصحح ذلك سكوته - صلى الله عليه وسلم - على قوله ، ولو كان غير صحيح لما لزمه السكوت ، لأنه بعث للبيان .

قال ابن الجوزي : وقوله : (قاتل ابن قوقل ) بقافين لا أدري من يعني قال العباس بن عبادة والنعمان بن مالك بن ثعلبة ، وهو قوقل قتلهما صفوان بن أمية .

قلت : قوله : (ابن ) قوقل ليس كذلك ، إنما قوقل اسمه غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج كذا ذكره الكلبي وأبو عبيد وابن دريد وغيرهم .

ثالثها :

(الوبر ) بإسكان الباء قال صاحب "المطالع " : كذا لأكثر الرواة ، وهي دويبة غبراء ، ويقال بيضاء ، على قدر السنور ، حسنة العينين من دواب الجبال ، وإنما قال له ذلك احتقارا به ونسبة إلى قلة المقدرة على القتال ، وضبطه بعضهم بفتح الباء وتأوله ، وهو جمع وبرة ، وهو شعر الإبل ، أي : إن شأنه كشأن الوبرة ; لأنه لم يكن لأبي هريرة عشيرة .

قال القزاز : هي ساكنة الباء دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون ، يعني : تشبه الطحال لا ذنب لها ، وهي من دواب الغور والجمع وبار ، وعن الخطابي أحسب أنها تؤكل لأني وجدت بعض السلف يوجب فيها الفدية .

[ ص: 444 ] وقال ابن سيده في "محكمه " : الوبر على قدر السنور ، والأنثى وبرة ، والجمع وبر . ووبور ووبار ، ووبارة ، وأبارة .

وقال الجوهري : (تدجن ) في البيوت . أي : تقيم بها وتألفها .

وثالثها : وقال أبو موسى المديني في "مغيثه " : في قتلها على المحرم شاة ; لأنها تجتر كالشاة ، وقيل : لأن لها كرشا مثل الشاة ، وقال مجاهد فيما حكاه في "مجمع الغرائب " مثله ، وفي "البارع " لأبي علي ، عن أبي حاتم : الطائفيون يقولون لما يكون في الجبال من الحشرات : الوبر ، جمعها الوبارة ، ولغة أخرى الوبارة ، وأخرى الإبارة بالكسر والهمز .

وذكر ابن دحية في "مرج البحرين " : وكلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان - بسكون الباء وهي دويبة كالسنور ، ووهم الجواليقي حيث فتح (الواو ) .

قلت : لكن وافق النسابين وأهل اللغة .

وقال ابن بطال : روي رأس بدل قدوم قال : ومن روى بفتح الباء من وبر فمعناه تشبيه أبي هريرة بالوبر الذي لا خطب له ولا مقدار ; لأنه لم يكن لأبي هريرة عشيرة ولا قوم يمتنع بهم ، ولا يغني في قتال ولا لقاء عدو ، كان ابن سعيد وأبو هريرة قدما عليه بخيبر ، وقد سلف .

[ ص: 445 ] ومن رواه بإسكانها فمعناه أنه شبهه بالوبر وهي دويبة على قدر السنور في السباع ; وإنما سكت - صلى الله عليه وسلم - عن الإنكار على أبي سعيد ; لأنه لم يرم أبا هريرة بحد ولا تنقصه في دين ، إنما تنقصه في قلة العشيرة والقدر ، أو بضعف (المنة ) ، وجمع الخلاف ابن التين فقال : الوبر دويبة يقال : إنها تشبه السنور قاله الخطابي . وقال الهروي : على قدره ، وقال ابن فارس : الوبر دابة ، والجمع وبار .

وقوله : (تدلى علينا ) أي : انحدر ولا يخبر بهذا إلا عمن جاء من موضع عال هذا الأشهر عند العرب .

قال أبو ذر الهروي : (ضأن ) : جبل بأرض دوس ، وهو بلد أبي هريرة ، وقال ابن التين : شبهه في قدومه بتدلي الوبر من موضعه ، قال : و (قدوم ضأن ) : اسم موضع . قال الخطابي : وهو في أكثر الروايات ضأل باللام ، وهو جبل أو ثنية أو نحوها ، وذكر عن الشيخ أبي الحسن أنه قال : شبهه مما يعلق -بزند الشاة - أي : هو ملصق من قريش وليس منهم ، ويلزم على هذا أن تقرأ (وبر ) بفتح الباء ولم نسمعه كذلك ، إنما هو بالإسكان . قلت : قد حكي كما سلف ، وقال صاحب "المطالع " : هو بفتح القاف وتخفيف الدال اسم موضع ، وضم المروزي القاف ، والأول أكثر وتأوله بعضهم : قدوم ضأن أي : المتقدم فيها ، وهي رءوسها ، وهو وهم بين .

[ ص: 446 ] وقال ابن بطال : يحتمل أن يكون قدوم : جمع قادم مثل راكع وركوع وساجد وسجود ، ذكر ذلك سيبويه ، فيكون المعنى تدلى (علينا ) من جملة القوم القادمين ، أقام الصفة مقام الموصوف ، ويكون (من ) في قوله : (من قدوم ) تبيينا للجنس كما لو قال تدلى من علينا من ساكني ضأن ، ولا تكون من مرتبطة بتدلى كما هي مرتبطة بالفعل في قولك : تدليت من الجبل ; لاستحالة تدليه من قوم ، ولا يقال : تدليت من بني فلان .

ويحتمل أن يكون قدوم مصدرا وصف به الفاعلون ويكون في الكلام حذف وتقديره : تدلى علينا من ذوي قدوم ، فحذف الموصوف وأقام المصدر مقامه ، كما قالوا رجل صوم ورجل فطر ، أي ذو صوم وذو فطر ، و (من ) على هذا التقدير تبيين للجنس كما كانت في الوجه الأول قال : ويحتمل أن يكون معناه تدلى علينا من مكان قدوم ضأن ثم حذف المكان وأقام القدوم مكانه ، كما قالت العرب : ذهب به مذهب وسلك به مسلك ، يريد المكان الذي يسلك فيه ويذهب ، ويشهد لهذا رواية من رأس ضأن .

وفيه قول يحتمل أن يكون (قدوم ) اسما لمكان من الجبل متقدم منه ولا يكون مصدرا ولا جمعا ويدل على هذا رواية من روى : (تدلى علينا من رأس ضأن ) .

ويحتمل أن يكون (اسم ) المكان قدوم بفتح القاف دون الضم لقلة الضم في هذا البناء في الأسماء وكثرة الفتح .

[ ص: 447 ] ويحتمل أن يكون (قدوم ضأن ) بتشديد الدال ، وفتح القاف لو ساعدته رواية ; لأنه من بناء أسماء المواضع ، وطرف القدوم موضع بالشام .

قلت : الحازمي ضبط القرية التي اختتن بها إبراهيم والجبل الذي بقرب المدينة بتخفيف الدال ، ثم ذكر عن ثعلب أنه قال : بتشديد الدال اسم موضع فإن أراد أحد هذين فلا يتابع عليه ; لاتفاق أئمة النقل على خلافه ، وإن أراد موضعا ثالثا فالله أعلم .

وقال أبو موسى في "مغيثه " عن ابن دريد : (قدوم ) ثنية لسراة أرض دوس ، وقال أبو عبيد : رواه الناس عن البخاري ضأن بالنون إلا الهمداني فإنه رواه باللام ، وهو الصواب إن شاء الله ، والضأل : السدر البري .

وأما إضافة هذه الثنية إلى الضأن فلا أعلم لها معنى ، وقد قدمنا من عند أبي داود أنه باللام ، وقال ابن الجوزي : كذا هو في أكثر الروايات ، وزعم أبو ذر الهروي أنه بالنون جبل بأرض دوس ، بلد أبي هريرة ، وقيل : ثنية .

قال صاحب "المطالع " : وتأوله بعضهم على أنه الضأن من الغنم ، وجعل قدومها ، أي : رءوسها -يعني : المتقدم منها - ، والوبر بفتح (الباء ) : شعر رءوسها . قال : وهذا تكلف وتحريف . فتحصلنا إسكان الباء وفتحها وضأن بالنون واللام ، وقدوم بفتح القاف وضمها .

[ ص: 448 ] رابعها :

فيه حجة على الكوفيين في قولهم في المدد يلحق بالجيش في أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم في الغنيمة . وسائر الفقهاء إنما تجب عندهم الغنيمة لمن شهد الوقعة ، واحتجوا بحديث أبي هريرة هذا ; لأنه لم يسهم له ، كما أخرجه أبو داود كما سلف ، وأبو حنيفة إنما يسهم لمن غاب عن الوقعة لشغل شغله الإمام من أمور المسلمين ، كما فعل بعثمان حين قسم له من غنائم بدر بسهمه ولم يحضرها ; لأنه كان غائبا في حاجة الله ورسوله فكان كمن حضرها ، أو مثل أن يبعثه الإمام لقتال قوم آخرين فتصيب الإمام غنيمة بعد مفارقة ذلك الرجل إياه ، أو يبعث رجلا ممن معه في دار الحرب إلى دار الإسلام ; ليمده بسلاح ورجال فلا يعود ذلك الرجل إلى الإمام حتى يغتنم غنيمة فهو شريك فيها ، وهو كمن حضرها ، وكذلك من أراد الغزو فرده الإمام ، وشغله شيء من أمور المسلمين فهو كمن حضرها .

قال الطحاوي : وأما حديث أبي هريرة فإنما ذلك والله أعلم ; لأنه وجه أبان إلى نجد قبل أن يتهيأ خروجه إلى خيبر ، فتوجه أبان ثم حدث خروجه إليها فكان ما غاب فيه أبان ليس هو شغل شغل به عن حضورها بغير إرادته إياها ، فيكون كمن حضرها .

وقال الكوفيون : لا حجة في حديث أبي هريرة ; لأن خيبر حين فتحت سارت دار إسلام ، وهذا لا شك فيه ، قالوا : وقد روى حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة قال : ما شهدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغنما إلا قسم لي ، إلا خيبر

[ ص: 449 ] فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها ; لأن الله تعالى كان وعدهم بها بقوله :
وأخرى لم تقدروا عليها [الفتح : 21]


واحتجوا بما رواه أبو أسامة ، عن بريد ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى قال : قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جعفر من أرض الحبشة بعد فتح خيبر بثلاث ، فقسم لنا ، ولم يقسم لأحد لم يشهد فتحها غيرنا ، قال الطحاوي : وهذا يحتمل أن يكون ; لأنهم كانوا من أهل الحديبية ، أو يكون استطاب أنفس أهل الغنيمة ، وعلى قوله لا حجة لأصحابهم في حديث أبي موسى ، وسيأتي قريبا تمام هذه المسألة في باب : إذا بعث الإمام رسولا في حاجة .

وقوله : (ينعى علي قتل رجل مسلم ) : أي يعيبني ويوبخني .

وقوله : (أكرمه الله على يدي ) يعني : للشهادة و (لم يهني على يديه ) يعني : لم يقدر موتي بقتله إياي كافرا فأدخل النار .

وقوله : (قال : فلا أدري أسهم له ، أو لم يسهم له ) هو من قول عنبسة ، أو من دونه إلى شيخ البخاري ، قاله ابن التين .

التالي السابق


الخدمات العلمية