التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2692 [ ص: 489 ] 41 - باب: هل يبعث الطليعة وحده

2847 - حدثنا صدقة أخبرنا ابن عيينة ، حدثنا ابن المنكدر ، سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس -قال صدقة : أظنه - يوم الخندق فانتدب الزبير ، ثم ندب فانتدب الزبير ، ثم ندب الناس فانتدب الزبير ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن لكل نبي حواريا ، وإن حواري الزبير بن العوام " . [انظر : 2846 - مسلم: 2415 - فتح: 6 \ 53]


ذكر فيه حديث محمد بن المنكدر أيضا ، عن جابر المذكور : ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس -قال صدقة : أظنه يوم الخندق - فانتدب الزبير ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن لكل نبي حواريا ، وإن حواري الزبير بن العوام " .

الشرح :

حديث جابر هذا يأتي في الخندق أيضا ، وفي النسائي : قال وهب بن كيسان : أشهد لسمعت جابرا يقول : لما اشتد الأمر يوم بني قريظة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من يأتينا بخبر القوم " فلم يذهب أحد فذهب الزبير ، فجاء بخبرهم ثم اشتد الأمر ، أيضا قال : "من يأتينا بخبرهم " فلم يذهب أحد ، فذهب الزبير ثم اشتد الأمر أيضا فقال : "إن لكل نبي حواري وإن حواري الزبير " ، ورواه ابن أبي عاصم من حديث وهب هذا ، وفيه أن ذلك يوم الخندق . وفي الترمذي : الحواري : الناصر . وقال عبد الرزاق عن معمر : قال قتادة : الحواري : الوزير .

[ ص: 490 ] وله من طريق ثان من حديث علي مرفوعا : "إن لكل نبي حواري وإن حواري الزبير " أخرجه ابن أبي شيبة عن حسين بن علي ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن زر ، عنه ، (به ) .

ثم اعلم أنه وقع هنا ما ذكرنا ، والمشهور كما قاله شيخنا فتح الدين اليعمري أن الذي توجه ليأتي بخبر القوم حذيفة بن اليمان ، كما روينا عنه من طريق ابن إسحاق وغيره قال -يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع " يشترط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجعة : "أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة " فما قام رجل من القوم من شدة الخوف والجزع والبرد ، فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن (لي ) بد من القيام حين دعاني فقال : "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم " وذكر الحديث .

وذكر ابن عقبة وغيره خروج حذيفة إلى المشركين ومشقة ذلك عليه إلى أن قال له - صلى الله عليه وسلم - : "قم فحفظك الله من أمامك ومن خلفك ، وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا " فقام حذيفة مستبشرا بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه احتمل احتمالا فما شق عليه شيء مما كان فيه . وعند ابن عائذ : فقبض حذيفة على يد رجل عن يمينه فقال : من أنت ؟ وعلى يد آخر عن يساره فقال : من أنت ؟ فعل ذلك خشية أن يفطن له فبدرهم بالمسألة ، وقد روينا في خبر ابن مسعود غير ما ذكرناه .

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من وجوه :

[ ص: 491 ] أحدها : ما ترجم له وهو فضل الطليعة وبعثها وحدها ، وأن الطليعة تستحق اسم النصرة ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - سماه حواري .

والطليعة : من يبعث ليطلع على العدو .

والحواري : الناصر أو الوزير كما سلف ، وهو بمعناه ، وهو اسم لكل من نصر نبيا ، وبه سمي أصحاب عيسى بذلك فإنه لما قال لقومه : من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله [آل عمران : 52] فلم يجب غيرهم فكذلك لما قال - صلى الله عليه وسلم - : "من يأتيني بخبر القوم ؟ " مرتين أو ثلاثا فلم يجبه غير الزبير ، فشبهه بالحواريين أنصار عيسى ، وسماه باسمهم ، وإذا اتضح أنه ناصر فأجره أجر المقاتل المدافع .

ومن ثم قال مالك : إن طليعة اللصوص تقتل معها وإن لم تقتل ولم تسلب ، ولذلك قال عمر : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به .

وقيل : الحواري : الخالص من الأصحاب وقيل : سمي أصحاب عيسى بذلك لشدة بياض ثيابهم . وقيل : كانوا قصارين ، وكل ما بيضته فقد حورته ، قال أبو بكر : ومعنى

"حواري الزبير "

أنه مختص من بين أصحابي ومفضل ; وسمي خبز الحواري لأنه أشرف الخبز ، أو لبياضه .

قال الداودي : ولا أعلم رجلا جمع له النبي - صلى الله عليه وسلم - أبويه إلا الزبير وسعد بن أبي وقاص كان يقول له : "ارم فداك أبي وأمي " ، وإنما كان يقول لغيرهما : "ارم فداك أبي " أو "فدتك أمي " وهي كلمة تقال للتبجيل ليس على الدعاء ولا على الخبر .

[ ص: 492 ] وكان الزبير من أول من أسلم ، وكان ممن استجاب لله من بعد ما أصابهم القرح ، مات يوم الجمل ; قتل وهو منصرف ، وهو ابن أربع وستين سنة ، قتله ابن جرموز من بني تميم ، وقال له علي : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "بشر قاتل ابن صفية بالنار " ، كنيته : أبو عبد الله ، وهو يلتقي في النسب الشريف في قصي ، وليس أحد من العشرة بعد عثمان وعلي أقرب نسبا منه .

ثانيها : فيه شجاعة الزبير وتقدمه وفضله ، واختلف في ضبطه كما قال القاضي ، فضبطه جماعة من المحققين بفتح الياء من (حواري ) كمصرخي ، وضبطه أكثرهم بكسرها .

ومعنى : (انتدب ) : أجاب ، ففيه الأدب من الإمام في الندب إلى القتال والمخاوف ; لأنه كان له أن يقول لرجل بعينه : قم فأتني بخبر القوم . فيلزم الرجل ذلك لقوله تعالى : استجيبوا لله وللرسول الآية [الأنفال : 24] .

ثالثها : زعم بعض المعتزلة أن هذا الحديث يعارضه حديث "الراكب شيطان " ونهيه أن يسافر الرجل وحده ، وليس كما زعم فلا تعارض ; كما نبه عليه المهلب ; لأن النهي إنما جاء في المسافر وحده ; لأنه لا يأنس بصاحب ولا يقطع طريقه بمحدث يهون عليه مؤنة السفر ،

[ ص: 493 ] كالشيطان الذي لا يأنس بأحد ويطلب الوحيد ليغويه بتذكار قتلة و (تزيين ) شهوة ، حضا منه - صلى الله عليه وسلم - على الصحبة والمرافقة ; لقطع المسافة وطي بعيد الأرض بطيب الحكاية وحسن المعاونة على المؤنة ، وقصة الزبير بضد هذا بعثه طليعة متجسسا على قريش ما يريدونه من حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلو أمكن أن يتعرف ذلك منهم بغير طليعة لكان أسلم وأخف ، ولكن أراد أن يسن لنا جواز الغرر في ذلك لمن احتسب نفسه وسخى بها في نفع المسلمين وحماية الدين ، ومن خرج في مثل هذا الخطير من أمر الله لم يعط الشيطان أذنه فيصغي إلى خدعه ، بل عليه من الله حافظ ومؤنس ، وهذا .

ألا ترى تثبيت الله تعالى له حين نادى أبو سفيان في المشركين ليعرف كل إنسان منهم جليسه (قال الزبير لمن قرب : [من] أنت ؟ فسبق بحضور ذهنه إلى ) ما لو سبقه إليه جليسه لكان سبب فضيحته ، كذا قال : إنه الزبير ، وإنما هو حذيفة حين سار إلى قريش في الأحزاب متحسسا -كما ذكره ابن سعد وغيره كما سلف - ولو أرسل معه غيره لكان أقرب إلى أن يعثر عليهما ، فالوحدة في هذا هي الحكمة البالغة ، وفي المسافر هي العورة البينة ، ولكل وجه من الحكمة غير وجه الآخر لتباين القصص واختلاف المعاني . وحمله الطبري على من لا يهوله هول ، ألا ترى أن عمر لما بلغه أن سعدا بنى قصرا أرسل شخصا وحده ليهدمه . - وذكر ابن أبي عاصم أنه

[ ص: 494 ] - صلى الله عليه وسلم - أرسل عبد الله بن أنيس سرية وحده ، وبعث عمر وابن أمية وحده عينا ، ولابن سعد : أرسل سالم بن عمير سرية وحده ، فإن لم يكن الرجل كذلك فممنوع من السفر وحده خشية على عقله أو يموت فلا يدري خبره أحد ولا يشهده أحد ، كما قال عمر : أرأيتم إذا سار وحده ومات من أسأل عنه ؟

ويحتمل أن يكون النهي نهي تأديب وإرشاد إلى ما هو الأولى .

وحديث "الواحد شيطان ، والاثنان شيطانان ، والثلاثة ركب " أخرجه الترمذي وحسنه ، وعزاه ابن التين إلى رواية الشيخ أبي محمد في "جامع مختصره " ، قال : وذكره مالك في "موطئه " عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : وقيل : أخبار عمرو عن أبيه عن جده واهية لم يسمع بعضهم من بعض .

قلت : معاذ الله من ذلك .

وسفر الواحد مباح لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - العيون والطوالع وحدانا ، قال : وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الشيطان يهم بالواحد والاثنين ، وإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم " ، ثم نقل عن الشيخ : أبي محمد أنه يريد في السفر الذي تقصر فيه الصلاة .

وقد ترجم البخاري فيما سيأتي باب : السير وحده ، وذكر فيه حديث

[ ص: 495 ] ابن عمر : "لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده " ، واعترض الإسماعيلي في دخوله فيه فقال : لا أعلم هذا الحديث كيف يدخل في هذا الباب وهو عجيب ، فدخوله ظاهر ، وفي "مستدرك الحاكم " من حديث ابن عباس : خرج (رجلان ) من خيبر فتبعه رجلان ورجل يتلوهما يقول : ارجعا حتى أدركهما فردهما ثم قال : إن هذين شيطانان فأقرأ على رسول الله السلام ، وأعلمه أن في جمع صدقاتنا لو كانت تصلح له لبعثناها إليه . فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدثه نهى عند ذلك عن الوحدة ، ثم قال : صحيح على شرط البخاري .

قلت : فيجوز أن يكون النهي بعد فتح خيبر .

وعنده أيضا من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده السالف ، وقال لرجل قدم من سفر وقال له : "ما صحبت ؟ " فقال : ما صحبت أحدا . . ذكره ثم قال : صحيح الإسناد .

فائدة أجنبية لغوية : في حقيقة السرية والغزو وغيرهما ذكرها المسعودي في كتاب "التنبيه والإشراف " : فالسرايا : ما بين الثلاث إلى الخمسمائة ، والسرية التي تخرج ليلا ، وبالنهار ساربة ومنه : وسارب بالنهار [الرعد : 10] .

وما زاد على الخمسمائة فهي المناسر .

وما بلغ ثمانمائة فهو الجيش القليل .

وما زاد على الأربعة آلاف فهو الجحفل .

[ ص: 496 ] وما بلغ اثني عشر ألفا فهو الجيش الجرار .

وإذا افترقت السرايا والسوارب بعد خروجها فما كان دون الأربعين فهي الجرائد ، وما كان من الأربعين إلى دون الثلاثمائة فهي المقانب ، وما كان من الثلاثمائة إلى دون الخمسمائة فهي الجمرات .

وكانوا يسمون الأربعين إذا توجهوا العصبة ورأى قوم أن المقنب مثل المنسر ، وأن كل واحدة منهما ما بين الثلاثين رجلا إلى الأربعين وذكروا له شاهدا .

والكتيبة : ما جمع ولم ينتشر .

والحصيرة : يغزى بهم دون العشرة فمن دونهم .

والهبطة : جماعة يغزى بهم وليسوا بجيش .

والأرعن : الجيش الكبير الذي مثل الجبل .

والخميس : الجيش العظيم .

والجرار : الذي لا يسير إلا زحفا .

والبحر : أكبر ما يكون من الجيش إذا عظم وثقل .

التالي السابق


الخدمات العلمية