التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2704 2859 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن أبي حازم بن دينار ، عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن " . [5095 - مسلم: 2226 - فتح: 6 \ 60]


حدثنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري : أخبرني سالم بن عبد الله ، عن أبيه قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إنما الشؤم في ثلاثة : في الفرس ، والمرأة ، والدار " .

حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن أبي حازم بن دينار ، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن " .

الشرح :

الحديثان في مسلم أيضا ويأتيان في النكاح [أيضا] .

وفي مسلم عن جابر : "إن كان في شيء ففي الربع والفرس والمرأة " ، يعني : الشؤم . وهو من أفراده .

وروى الترمذي الأول من حديث سفيان عن الزهري ، عن سالم وحمزة عن أبيهما ، قال : ورواه مالك ، عن الزهري فقال : عن سالم

[ ص: 516 ] وحمزة ، ورواه أبو عمر من طريق معمر ، عن الزهري ، فقال : عن سالم أو حمزة أو كليهما -شك معمر - وفي آخره قال : قالت أم سلمة : والسيف . قال أبو عمر : وقد روى جويرية ، عن مالك ، عن الزهري أن بعض أهل أم سلمة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره أن أم سلمة كانت تزيد : السيف . يعني في حديث الزهري ، عن حمزة وسالم في الشؤم .

إذا تقرر ذلك ; فالشؤم نقيض اليمن وهو الفحش ، وروينا في "الحلية " من حديث عائشة مرفوعا : "الشؤم سوء الخلق " قال أبو نعيم : تفرد به عن حبيب بن عبيد أبو بكر بن أبي مريم ، وكانت عائشة تنكر الشؤم وتقول : إنما حكاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجاهلية وأقوالهم .

ثم ذكر بإسناده إلى أبي حسان أن رجلين دخلا عليها فقالا : إن أبا هريرة يحدث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة " فذكرت كلمة معناها أنه غلط ، ولكن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "كان أهل الجاهلية يقولون : الطيرة في ذلك " ، ومن طريق أنس مرفوعا : "لا طيرة ، والطيرة على من تطير ، وإن يكن في شيء ففي المرأة والدار والفرس " .

[ ص: 517 ] وتخيل بعضهم أن التطير بهذه الأشياء من قوله : "لا طيرة " وأنه مخصوص بها ، فكأنه قال : لا طيرة إلا في هذه الثلاثة ، فمن تشاءم بشيء منها نزل به ما كره من ذلك ، وممن صار إلى ذلك ابن قتيبة ، وعضده بحديث أبي هريرة مرفوعا : "الطيرة على من تطير " .

وسئل مالك عن تفسير الشؤم في ذلك فقال : هو كذلك فيما نرى ، كم من دار سكنها ناس فهلكوا ثم آخرون من بعدهم فهلكوا .

ويعضده حديث يحيى بن سعيد : جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، دار سكناها والعدد كثير والمال وافر ، فقل العدد وذهب المال ، فقال : "دعوها ذميمة " ، أي : عندكم لاعتيادكم ذلك ، فالناس يتطيرون بهذه الثلاثة أكثر من سواها ، ولا يظن بهذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الثلاثة الأشياء هو على ما كانت الجاهلية تعتقد فيها فإنها كانت لا تقدم على ما تطيرت به ولا تفعله بوجه ، بناء على أن الطيرة تضر قطعا ، فإن هذا ظن خطأ ، وإنما يعني بذلك أن هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها .

فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما يغلب به نفسه ، ويسكن خاطره له ، ولم يلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه أو امرأة يكرهها بل قد فسح الله له في ترك ذلك كله ، لكن مع اعتقاد أن الله هو الفعال لما يريد . وليس لشيء من هذه الأشياء أثر في الوجود ، وهذا على نحو ما ذكر في المجذوم .

[ ص: 518 ] لا يقال : هذا يجري في كل متطير به ، فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر ؟

لأن الضرورة في الوجود لا بد للإنسان منها ومن ملازمتها غالبا ، وأكثر ما يقع التشاؤم في الثلاثة ، فكذلك خصت بالذكر .

فإن قلت : ما الفرق بين الدار وموضع الوباء الذي منع من الخروج منه ؟

قلت : الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام ، ذكرها بعضهم :

أحدها : ما لا يقع التأذي به ولا اطردت عادة به ، فلا يصغى إليه ، وقد أنكر الشارع الالتفات إليه كتلقي الغراب في بعض الأسفار أو صراخ بومة في داره ، فمثل هذا قال : "لا طيرة ولا تطير " وسيأتي حديث : "لا عدوى ولا طيرة " في الطب ، وأخرجه جمع من الصحابة منهم ابن عمر -وصححه الترمذي - وابن عباس ، أخرجه ابن ماجه ، ورواه أيضا ثلاثة عشر صحابيا أخر ، ذكرهم أبو محمد بن عساكر في "تحقيق المقال في الطيرة والفال " : وهذا هو الذي كانت العرب تعمل به .

ثانيها : ما يقع به الضرر عاما نادرا كالوباء ، فلا يقدم عليه عملا بالجزم والاحتياط ، ولا يفر منه لاحتمال أن يكون وصل الضرر بها إلى الضار ، فيكون سفره زيادة في محنته وتعجيلا لهلكة .

ثالثها : سبب يخص ولا يعم ويلحق منه الضرر بطول الملازمة كالمذكورات في الحديث ، فيباح له الاستبدال والتوكل على الله والإعراض عما يقع في النفوس منها من أفضل الأعمال .

[ ص: 519 ] وثم تأويلات أخر للحديث ، منها : أن شؤم الدار : ضيقها وسوء جيرانها أو أن لا يسمع فيها أذان ، وشؤم المرأة : عدم ولادتها ، وسلاطة لسانها ، وتعرضها للريبة .

قلت : قال عروة : أول شؤمها كثرة مهرها . وشؤم الفرس : ألا يغزى عليها ، وغلاء ثمنها . وشؤم الخادم : سوء خلقه ، وقلة تعهده لما فوض إليه .

ووردت هذه الألفاظ على أنحاء في هذا : إن كان الشؤم ففي كذا الشؤم في كذا ، إنما الشؤم في كذا ، فالأول : معناه : إن خلقه الله فيما جرى في بعض العادة به فإنما يخلقه في الغالب في هذه الثلاثة .

والثاني : حصر للشؤم فيها ، وهو حصر عادة لا خلقة ، فإن الشؤم قد يكون بين الاثنين في الصحبة ، وقد يكون في السفر ، وقد يكون في الثوب يستجده العبد ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : "إذا لبس أحدكم ثوبا جديدا فليقل : اللهم إني أسألك خيره وخير ما صنع له ، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له " .

وقال ابن التين في الأولى : قيل : معناه يكون لقوم دون قوم ، وذلك كله (بقدرة ) الله لا على أنها فعالة بنفسها ، ولكنها سبب للقضاء والقدر . وقيل : إن الراوي لم يسمع أول الحديث ، وهو : الجاهلية تقول : الشؤم في ثلاث . فحكى ما سمع .

وقال الخطابي : المراد : إبطال مذهبهم في التطير والسوانح

[ ص: 520 ] والبوارح ، ويكون مجرى الحديث مجرى استثناء الشيء من غير جنسه ، وسبيله سبيل الخروج من شيء إلى غيره .

قال بعض العلماء : وقد يكون الشؤم هنا على غير المفهوم من معنى التطير ، لكن بمعنى قلة الموافقة وسوء الطباع كما في الحديث : "من سعادة المرء ثلاثة : المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح ، والمركب الصالح ، ومن شقوته : المرأة السوء والمسكن السوء " .

رواه أحمد من حديث إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده .

ومن حديث معاوية بن حكيم عن عمه حكيم بن معاوية : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "لا شؤم ، وقد يكون اليمن في المرأة والفرس والدار " .

وروى يوسف بن موسى القطان : ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه يرفعه : "البركة في ثلاثة : في الفرس ، والمرأة ، والدار " .

وسئل سالم عن معنى هذا الحديث فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا كان الفرس ضروبا فهو مشئوم ، وإذا كانت المرأة قد عرفت زوجا قبل زوجها فحنت إلى الزوج الأول فهي مشئومة ، وإذا كن بغير هذا الوصف فهن مباركات " .

ويحتمل - (كما ) قال أبو عمر - أن يكون قوله : "الشؤم في ثلاث "

[ ص: 521 ] كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك وأبطله قوله تعالى : ما أصاب من مصيبة في الأرض [الحديد : 22] الآية .

وقال المهلب : حقق في ظاهر اللفظ وهو قوله : "إنما الشؤم في ثلاثة " حين لم يستطع أن ينسخ التطير من نفوس الناس ، فأعلمهم أن الذي يتعذبون به من الطيرة لمن التزمها إنما هي في ثلاثة أشياء ، وهي الملازمة لهم مثل دار المنشأ والمسكن ، والزوجة التي هي ملازمة في حال العسر واليسر ، والفرس الذي به عيشه وجهاده وتقلبه ، فحكم بترك هذه الثلاثة الأشياء لمن التزم التطير حين قال في الدار التي سكنت والمال وافر والعدد كثير : "اتركوها ذميمة " خشية أن لا يطول تعذب النفوس مما تكره من هذه الأمور الثلاثة وتتطير بها ، وأما غيرها من الأشياء التي إنما هي خاطرة وطارئة وإنما تحزن بها النفوس ساعة أو أقل ، مثل الطائر المكروه الاسم عند العرب يمر برجل منهم ، فإنما يعرض له في حين مروره به ، فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا وشبهه لا يضر من عرض له .

وأمر في هذه الثلاثة بخلاف ذلك لطول التعذب بها ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاث لا يسلم منهن أحد : الطيرة ، والظن ، والحسد ، فإذا تطيرت فلا ترجع ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقق " ، وسيأتي لنا عودة إلى ذلك في الطب والنكاح إن شاء الله ، وظهر أن لا تعارض بين هذا وبين حديث : "لا طيرة " وإن توهم بعضهم المعارضة ، ولله الحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية