التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2709 [ ص: 541 ] 52 - باب: من قاد دابة غيره في الحرب

2864 - حدثنا قتيبة ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال رجل للبراء بن عازب - رضي الله عنهما - : أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ؟ قال : لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر ، إن هوازن كانوا قوما رماة ، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا ، فأقبل المسلمون على الغنائم ، واستقبلونا بالسهام ، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يفر ، فلقد رأيته وإنه لعلى بغلته البيضاء وإن أبا سفيان آخذ بلجامها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :


أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب



[2874 ، 2930 ، 3042 ، 4315 ، 4316 ، 4317 - مسلم : 1776 - فتح: 6 \ 69]


ذكر فيه حديث أبي إسحاق قال : قال رجل للبراء بن عازب : أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ؟ قال : لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر ، إن هوازن كانوا قوما رماة ، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا ، فأقبل المسلمون على الغنائم ، واستقبلونا بالسهام ، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يفر ، فلقد رأيته وإنه لعلى بغلته البيضاء وإن أبا سفيان آخذ بلجامها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :


أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب



هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا ، وفي لفظ : كنا والله إذا احمر البأس نتقي به .

وذكره البخاري في موضع آخر : فنزل واستنصر .

[ ص: 542 ] وفي موضع آخر : قال إسرائيل وزهير : نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بغلته ، وفي رواية قال البراء : رجل من قيس .

ثم الكلام عليه من وجوه :

أحدها : (حنين ) بالحاء المهملة : واد بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف قاله الواقدي .

وقال البكري : بضعة عشر ميلا ، والأغلب فيه التذكير ; لأنه اسم ماء ، وربما أنثته العرب جعلته اسما للبقعة ، وهو وراء عرفات ، سمي بحنين بن قانية بن مهلاييل .

وقال الزمخشري : هو إلى جنب ذي المجاز ، وتأتي في الغزوات ، وكانت سنة ثمان ، وسببها أنه لما أجمع - عليه السلام - على الخروج من مكة لنصرة خزاعة أتى الخبر إلى هوازن أنه يريدهم ، فاستعدوا للحرب حتى أتوا سوق ذي المجاز فسار - عليه السلام - حتى أشرف على وادي حنين مساء ليلة الأحد ، ثم صابحهم يوم الأحد نصف شوال .

ثانيها : قوله : (ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر ) هذا معلوم من حاله وحال الأنبياء ; لفرط إقدامهم وشجاعتهم وثقتهم بوعد الله في رغبتهم في الشهادة ولقائه ، ولم يثبت عن واحد منهم -والعياذ بالله - أنه فر ، ومن قال ذلك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل ، ولم يستتب عند مالك ; لأنه صار بمنزلة من قال : إنه كان أسود أو أعجميا ; لإنكاره ما علم من وصفه قطعا وذلك كفر .

[ ص: 543 ] قال القرطبي : وحكي عن بعض أصحابنا الإجماع على قتل من أضاف إليه نقصا أو عيبا ، وقيل : يستتاب فإن تاب وإلا قتل .

وقال ابن بطال : من زعم أنه انهزم فقد رماه بأنه كذب وحي الله بالعصمة من الناس ، فإن تاب وإلا قتل ; لأنه كافر إن لم يتأول ويعذر بتأويله ، وستكون لنا عودة إليه قريبا في باب : من صف أصحابه عند الهزيمة .

والذين فروا يومئذ إنما فتحه عليهم من كان في قلبه مرض من مسلمة الفتح المؤلفة ومشركيها ، والذين لم يكونوا أسلموا ، والذين خرجوا لأجل الغنيمة ، وإنما كانت هزيمتهم فجأة .

ثالثها : ركوبه يومئذ بغلته البيضاء هو النهاية في الشجاعة والثبات ، لا سيما في نزوله عنها وتقدمه يركض على بغلته إلى جمع المشركين حين فر الناس ، وليس معه إلا اثنا عشر نفرا ، وكان العباس وأبو سفيان -كما ذكر هنا ، وهو ابن الحارث كما سيأتي - آخذين بلجامها يمنعانها ، ففي مسلم : كانت بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة ، وفي لفظ : كانت شهباء .

وعند ابن سعد : كان راكبا دلدل التي أهداها له المقوقس .

[ ص: 544 ] فيجوز أن يكون ركوبه متعددا بعد أن نزل .

رابعها : قوله : ("أنا النبي لا كذب " ) كان بعض العلماء يرويه "لا كذب " بنصب الباء ليخرجه عن وزن الشعر ، حكاه ابن التين ، وقد قيل : إنما قيل :

أنت النبي لا كذب     أنت ابن عبد المطلب

فقال حكايته قولهم "أنا النبي لا كذب " .

وفيه : إثبات النبوة، أي : أنا ليس بكاذب فيما أقول ، فيجوز على الانهزام ، وإنما ينهزم من ليس على يقين من النصرة وهو على خوف من الموت ، والشارع على يقين من النصرة مما أوحى الله إليه في كتابه وأعلمه أنه لا بد له من كمال هذا الأمر ، فمن زعم بعد هذا أنه انهزم فقد رماه بأنه كذب وحي الله أن الله يعصمه ، وقد سلف حكمه .

خامسها : إن قلت : نهى عن الافتخار بالآباء وقال هنا ما قال ، قلت : عنه قولان :

أحدهما : أنه أشار بذلك إلى رؤية رآها عبد المطلب دالة على نبوته مشهورة عند العرب فأخبر بها قريشا ، فعبرت بأن سيكون له ولد يسود الناس ويهلك أعداؤه على يديه ، وكان أمر تلك الرؤيا مشهورة في قريش ، فذكرهم بقوله هذا أمر تلك الرؤيا ; ليقوى بذلك من انهزم من أصحابه فيرجعوا وليثقن بأن الظفر لهم .

ثانيها : أنه أشار بذلك إلى خبر نقل عن سيف بن ذي يزن أنه أخبر عبد المطلب وقت وجوده ، وأنه في جماعة قريش وهو أن يكون في ولده .

وعنه : جواب ثالث : لشهرة جده فإنها أكبر من شهرة والده ; لأنه توفي شابا في حياة أبيه ، وكان كثيرا ما ينسب إليه عملا بالعادة في الشهرة ; ولهذا قال ضمام بن ثعلبة لما وفد عليه قال : أيكم ابن

[ ص: 545 ] عبد المطلب
؟

سادسها : فيه : خدمة السلطان في الحرب ، وسياسة دوابه لأشراف الناس من قرابته وغيرهم .

وفيه : جواز الانتماء في الحرب ، وإنما كره من ذلك ما كان على وجه الافتخار في غير الحرب ; لأنه رخص في الخيلاء فيه مع نهيه عنهما في عرفنا ، وفي الترمذي محسنا عن ابن عمر : لقد رأيتنا يوم حنين وإن الفئتين موليتين وما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مائة رجل .

ولعله عند البلاء حق كما قال ابن إسحاق ، وعند الزبير ممن ثبت منهم يومئذ عتبة ومعتب ابنا أبي لهب . ولابن إسحاق : وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وأبو بكر وعمر وعلي والفضل بن العباس وأسامة وقثم بن العباس وأيمن بن أم أيمن -وقتل يومئذ - وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وعقيل بن أبي طالب فيما ذكره ابن الأثير ، وأم سليم أم أنس بن مالك . قال العباس :


نصرنا رسول الله في الحرب تسعة     وقد فر من قد فر عنه وأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه     لما مسه في الله لا يتوجع



ويروى : سبعة وثامننا .

وقال العباس -فيما رواه ابن أبي عاصم في "الجهاد " - شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وما معه إلا أنا وأبو سفيان .

[ ص: 546 ] فإن قلت : كيف فر القوم ، وهو كبيرة ؟

قلت : ذاك أن ينوي عدم العود عند وجدان القوة ، وأما من تحيز إلى فئة أو كان فراره لكثرة عدد العدو أو نوى العود إذا أمكنه فلا محذور فيه ولا داخل في الوعيد ، ولقد قال تعالى في حق هؤلاء : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين [الفتح : 26] .

وفيه : جواز الأخذ بالشدة ، والتعرض للهلكة في سبيل الله ; لأن الناس فروا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا ، والمشركون في أضعافهم عددا جرارا كثيرا فلزموا مكانهم ومصافهم ، ولم يأخذوا بالرخصة من الفرار .

وفيه : ركوب البغال في الحرب للإمام كما سلف ; ليكون أثبت له ; ولئلا يظن به الاستعداد للفرار والتولي ، وهو من باب السياسة لنفوس الأتباع ; لأنه إذا ثبت ثبت أتباعه ، وإذا رئي منه العزم على الثبات عزم معه عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية