التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2730 2887 - وزادنا عمرو قال : أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع " . قال أبو عبد الله لم يرفعه إسرائيل ومحمد بن جحادة عن أبي حصين وقال تعسا . كأنه يقول فأتعسهم الله . طوبى: فعلى من كل شيء طيب ، وهي ياء حولت إلى الواو ، وهي من يطيب . [انظر : 2886 - فتح: 6 \ 81]


ذكر فيه حديث عائشة في حراسة سعد بن أبي وقاص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وحديث أبي بكر -يعني ابن عياش - عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط لم يرض " .

[ ص: 582 ] وزاد لنا عمرو أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "تعس عبد الدينار . . " الحديث أو قال : "تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع " . قال أبو عبد الله : لم يرفعه إسرائيل ومحمد بن جحادة ، عن أبي حصين .

الشرح :

قال الإسماعيلي : تابع أبا بكر شريك وقيس .

وعمرو شيخ البخاري هو ابن مرزوق ، وقد أسنده أبو نعيم من حديث يوسف القاضي عنه به ، وابن عساكر من حديث أبي (مسلم ) عنه ، ورواه ابن ماجه عن ابن كاسب ، عن إسحاق بن إبراهيم بن سعيد المدني ، عن صفوان بن سليم ، عن عبد الله بن دينار .

ورواه الإسماعيلي من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه به .

ثم الكلام من وجوه :

أحدها : (التعس ) : الكب أي : عثر فسقط لوجهه ، قاله ابن التين ، قال : وضبط بكسر العين ، وذكره بعض أهل اللغة بفتحها . وقال ابن الأنباري ، عن أبي العباس أحمد بن يحيى : التعس : الشر قال تعالى : فتعسا لهم [محمد : 8] وقيل : هو البعد ، وذكر ابن التياني ،

[ ص: 583 ] عن قطرب فتح العين وكسرها : شقي . وعن علي بن حمزة : بالكسر والفتح : هلك .

وفي "البارع " : تعسه الله وأتعسه : نكسه . وقال شمر في "التهذيب " : لا أعرف تعسه الله ، ولكن يقال : تعس (بنفسه ) وأتعسه الله ، قال : وقال الفراء : يقال : تعست إذا خاطبت الرجل فإذا صرت إلى أن تقول : فعل قلت : تعس بالكسر ، وقال بعض الكلابيين : تعس هو أن يخطئ حجته إن خاصم ، وبغيته إن طلب ، وقال الرستمي : التعس : أن يخر على وجهه ، والنكس : أن يخر على رأسه .

وقال الليث : التعس ألا ينتعش من عثرته وأن ينكس في سفال ، والتعس في اللغة : الانحطاط ، ذكره الزجاج ، (وقال صاحب "المحكم " : هو السقوط على أي وجه كان ) ، وقال ابن السكيت : هو أن يخر على وجهه ، ومنه : نكست الشيء : نكبته على رأسه ، قال ابن فارس : ويقال : تعسا له ونكسا ، وقد يضم الثاني .

ثانيها : معنى : "تعس عبد الدينار والدرهم " : أي : إن طلب ذلك قد استعبده وصار عمله كله في طلبها كالعبادة لهما .

وقوله : ("إن أعطي رضي " ) أي : إن أعطي ما له عمل رضي عن معطيه ، وهو خالقه تعالى وإن لم يعط سخط ما قدر له خالقه ، ويسر له من رزقه ، فصح بهذا أنه عبد في طلب هذين ، فوجب الدعاء عليه

[ ص: 584 ] بالتعس ; لأنه أوقف عمله على متاع الدنيا الفاني ، وترك العمل لأجل نعيم الآخرة الباقي ، والتعس : أن لا ينتعش ولا يفيق من عثرته ، "وانتكس " أي عاوده المرض كما بدأه ، هذا قول الخليل .

قال صاحب "المطالع " : وذكره بعضهم بالشين المعجمة ، وفسره بالرجوع ، وجعله دعاء له لا عليه .

وقوله : ("وإذا شيك " ) : أي : أصابته شوكة . وعن المروزي : "شيب " ، وهو خطأ قبيح ، ومعنى الأول : إذا أصابته الشوكة في قدمه فلا يقدر على إخراجها ، يقال : انتقش الرجل إذا سل الشوكة من قدمه بالمنقاش . قال الخطابي : يقال : نقشت الشوك ، إذا استخرجته ، وبه يسمى المنقاش . وقال ابن التين : معناه عند الهروي : لا أخرجه من الموضع الذي أدخله ، وعند الخطابي : لا قدر على إخراجها ولا استطاعه .

و ("الخميصة " ) كساء مربع له أعلام أو خطوط ، قاله الخطابي ، وقال ابن فارس : كساء أسود معلم ، فإن لم يكن معلما فليس بخميصة . زاد القزاز ويكون من خز أو صوف ، قال : ولذلك أمر الشارع أن يذهب بها إلى أبي جهم ، ويأتوا بأنبجانية ، وقال الداودي : هي كساء من صوف .

ثالثها : قوله : ("طوبى " ) هي فعلى من الطيب ، أصلها : طيبى ، قلبت ياؤه واوا لانضمام ما قبلها ، وقيل : هي الشجرة التي في الجنة .

[ ص: 585 ] وقوله : ("إن كان في الحراسة " ، "وإن كان في الساقة " ) يعني : أنه خامل الذكر لا يقصد السمو فأي موضع اتفق له كان ممن لزم هذه الطريقة ، كان حريا إن استأذن ألا يؤذن له ، وإن شفع ألا يشفع .

رابعها : قوله : في حديث عائشة : ("ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة " ) .

إن قلت : كيف طلب الحراسة مع توكله ويقينه بالقدر ؟

قلت : له ثلاثة أجوبة نبه عليها ابن الجوزي :

أحدها : أنه سن هذه الأشياء لا لحاجته إليها ، كما ظاهر بين درعين ، ويدل على غنائه أنهم كانوا إذا اشتد البأس قدموه واتقوا به العدو .

ثانيها : الثقة بالله لا تنافي العمل على الأسباب ، بدليل "اعقلها وتوكل " وهذا ; لأن التوكل يخص القلب ، والتعرض بالأسباب أفعال تخص البدن فلا تناقض .

ثالثها : وساوس النفس وحديثها لا يدفع إلا بمراعاة الأسباب ، ومنه قول إبراهيم : ولكن ليطمئن قلبي [البقرة : 260] ومنه أن سليمان رئي يحمل طعاما ويقول : إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت .

وأجاب ابن بطال بأن قال : في الحديث دليل أن ذلك كان قبل أن تنزل آية العصمة ، وقبل نزول : إنا كفيناك المستهزئين [الحجر : 95] ; لأنه جاء في الحديث أنه لما نزلت هذه الآية ترك الاحتراس بالليل ; ولأن في حديث عائشة في بعض الروايات أن ذلك كان عند أول قدومه المدينة .

[ ص: 586 ] قلت : نزول : إنا كفيناك المستهزئين كان قبله ، وزعم القرطبي أن آية العصمة ليس فيها ما يناقض الحراسة من الناس ولا ما يمنعه ، كما أن إخبار الله عن نصره وإظهار دينه ليس فيه ما يمنع الأمر بالقتال وإعداد العدد والعدة والأخذ بالحزم والحذر ، وسبب ذلك أن هذه أخبار عن عاقبة الحال ومآله ، ولكن هل تحصل تلك العاقبة عن سبب معتاد أو غير سبب ، ووجدنا الشريعة طافحة بالأمر له ولغيره بالتحصن ، وأخذ الحذر من الأعداء ، والإعداد لهم ، وقد عمل بذلك - صلى الله عليه وسلم - وأخذ به فلا تعارض في ذلك .

خامسها : في فوائده :

فيه : كما قال المهلب : التزام السلطان للحذر ، والخوف على نفسه حضرا وسفرا ، ألا ترى فعله مع ما عرفه الله أنه يستكمل به دينه ويعلي به كلمته ، التزم الحذر خوف فتك الفاتك وأذى المؤذي بالعداوة في الدين والحسد في الدنيا .

وفيه : أن على الناس أن يحرسوا سلطانهم ويحفوا به خشية الفتك وانخرام الأمر .

وفيه : أن من شرع بشيء من الخير أن يسمى صالحا لقوله : "ليت رجلا صالحا " أي : يبعثه صلاحه على حراسة سلطانه فكيف بنبيه .

وفيه : أنه متى سمع الإنسان حس سلاح في الليل أن يقول : من هذا ، ويعلم أنه ساهر ; لئلا يطمع فيه أهل الطلب للغرة والغفلة ، فإذا علموا أنه مستيقظ ردعهم بذلك .

[ ص: 587 ] وفيه : تأكيد الدعاء بقوله : "وإذا شيك فلا انتقش " أي : إذا أصابته شوكة فلا أخرجها بمنقاشها ، فيمتنع السعي للدينار والدرهم .

وفيه : الحض على الجهاد حيث قال : "طوبى لعبد ممسك بعنان فرسه . . " إلى آخره ، فجمع في هذا الذي مدح من العمل خير الدنيا والآخرة لقوله : "الخيل معقود في نواصيها الخير الأجر والمغنم " ، ونعيم الآخرة لقوله : إن الله اشترى من المؤمنين الآية [التوبة : 111] .

وفيه : ترك حب الرئاسة والشهرة ، وفضل الخمول ، ولزوم التواضع لله بأن يجهل المؤمن في الدنيا ولا تعرف عينه ، فيشار إليه بالأصابع وبهذا أوصى - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر قال له : "يا عبد الله ، كن في الدنيا كأنك غريب " ، والغريب مجهول العين غالبا فلا يؤبه لصلاحه فيلزم من أجله .

فائدة :

جاء في الحراسة عدة أحاديث :

أحدها : من حديث سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فقال : "من يحرسنا الليلة ؟ " فقال ابن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله . أخرجه أبو داود .

ثانيها : من حديث عثمان مرفوعا : "حرس ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها " رواه ابن ماجه .

[ ص: 588 ] ثالثها : من حديث عقبة بن عامر : "رحم الله حارس الحرس " .

رابعها : من حديث أنس : "من حرس ليلة على ساحل البحر كان أفضل من عبادة ألف سنة " أخرجه ابن ماجه أيضا .

خامسها : من حديث سهل بن معاذ عن أبيه : "من حرس من وراء المسلمين متطوعا لا تأخذه ناجزة سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم " أخرجه أحمد ، وللطبراني : "بعث مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " .

سادسها : من حديث يحيى بن صالح الوحاظي ، ثنا جميع بن ثوب ، ثنا خالد بن معدان ، عن أبي أمامة مرفوعا : "لأن أحرس ثلاث ليال مرابطا من وراء بيضة المسلمين أحب إلي من أن تصيبني ليلة القدر في مسجد المدينة ، أو بيت المقدس " ، رواه ابن عساكر ثم قال : حديث حسن ، وعن قيس بن الحارث مثله . قال الحاكم : (حديث ) غريب من حديث عمر بن عبد العزيز عن قيس ، وهو صحابي معمر . قلت : فهذا سابع .

ثامنها : من حديث أبي ريحانة : "حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله " رواه النسائي .

[ ص: 589 ] تاسعها : من حديث أبي هريرة : "حرم الله عينا سهرت في طاعة الله على النار " أخرجه في "الخلعيات " من حديث سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، ومن حديث بهز بن حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن جده : "ثلاثة لا ترى أعينهم النار يوم القيامة : عين حرست في سبيل الله " الحديث أخرجه أيضا ، ولابن عساكر من حديث إسماعيل بن عياش ، عن ثعلبة بن مسلم ، عن أبي عمران الأنصاري : "ثلاث أعين لا تحرقهم النار " ، فذكر مثله ، وللترمذي من حديث عطاء الخراساني عن (ابن أبي رباح ) عن ابن عباس : "حرم على عينين أن تنالهما النار : عين باتت تحرس في سبيل الله " الحديث ، ولعبد بن حميد في "مسنده " من حديث أبي عبد الرحمن عن أبي هريرة مثله ، ولابن عساكر من حديث الفضل بن عباس وعطية عن أبي سعيد الخدري وابن عمر نحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية