التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2742 [ ص: 607 ] 77 - باب: لا يقول : فلان شهيد

قال أبو هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الله أعلم بمن يجاهد في سبيله ، الله أعلم بمن يكلم في سبيله " .

2898 - حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا ، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ، ومال الآخرون إلى عسكرهم ، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه ، فقال : ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما إنه من أهل النار " . فقال رجل من القوم أنا صاحبه . قال : فخرج معه كلما وقف وقف معه ، وإذا أسرع أسرع معه قال : فجرح الرجل جرحا شديدا ، فاستعجل الموت ، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل على سيفه ، فقتل نفسه ، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أنك رسول الله . قال : "وما ذاك ؟ " . قال : الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار ، فأعظم الناس ذلك . فقلت : أنا لكم به . فخرجت في طلبه ، ثم جرح جرحا شديدا ، فاستعجل الموت ، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه ، فقتل نفسه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك : "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة " . [4202 ، 4207 ،6493 ، 6607 - مسلم: 112 - فتح: 6 \ 89]


ثم ساق حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا ، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ، ومال الآخرون إلى عسكرهم ، وفي القوم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه ، فقال : ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما إنه من أهل النار . . " فأتبعه رجل إلى أن ذكر

[ ص: 608 ] أنه جرح نفسه ; فقتل نفسه . . الحديث ، وفي آخره : "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة " .

الشرح :

التعليق الأول سلف قريبا مسندا .

وحديث سهل يأتي في غزوة خيبر أيضا ، وقال ابن الجوزي : كان يوم أحد ، (قال ) : واسم الرجل قزمان وهو معدود في المنافقين ، وكان تخلف يوم أحد فعيره النساء ، وقلن له : ما أنت إلا امرأة فخرج ، فكان أول من رمى بسهم ، ثم كسر جفن سيفه ونادى : يا للأوس قاتلوا على الأحساب ، فلما جرح مر به قتادة بن النعمان فقال له : هنيئا لك الشهادة ، فقال : إني والله ما قاتلت على دين ما قاتلت إلا على الحناط ثم قتل نفسه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " .

واعترض المحب الطبري فقال : كذا زعم ابن الجوزي أن اسمه قزمان ، وأنه - عليه السلام - قال : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " ، وذكر أنها كانت بأحد ، ويؤيده سياق ابن إسحاق في "سيرته " ، لعل

[ ص: 609 ] ابن الجوزي وهم في تسميته ذلك بقزمان لتشابه اللفظ .

قال : وفي رواية : كان ذلك بخيبر ، وفي أخرى : بحنين . إذا تقرر ذلك ; فالكلام عليه من وجوه :

أحدها : اعترض المهلب فقال : في الحديث ضد ما ترجم به البخاري أنه لا يقال : فلان شهيد ، ثم أدخل هذا الحديث وليس فيه من معنى الشهادة شيء ، وإنما فيه ضدها ، والمعنى الذي ترجم به قولهم : (ما أجزأ منا اليوم أحد ، ما أجزأ فلان ) ، فمدحوا جزاءه وغناءه ، ففهم منهم (أنهم ) قضوا له بالجنة في نفوسهم بغنائه ذلك ، فأوحى الله إليه بغيب مآل أمره لئلا يشهدوا لحي شهادة قاطعة عند الله ولا لميت كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عثمان بن مظعون : "والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به " ، وكذلك لا يعلم شيئا من الوحي حتى يوحى إليه به ، ويعرف بغيبه فقال : "إنه في النار " بوحي من الله له .

ثانيها : الشاذة والفاذة : بذالين معجمتين ، والشين في الأولى معجمة : ما شذت عن صواحبها ، وكذا الفاذة التي انفردت ، وصفه بأنه لا يبقى شيء إلا أتى عليه ، وأنثها على وجه المبالغة كما قالوا : علامة ونسابة . وعن ابن الأعرابي : فلان لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إذا كان شجاعا لا يلقاه أحد ، وقيل : أنث الشاذة ; لأنها بمعنى النسمة .

وقال الخطابي : الشاذة : هي التي كانت في القوم ثم شذت منهم ، والفاذة : من لم تختلط معهم أصلا ، وقال الداودي : يعني هما ما صغر وكبر ويركب كل صعب وذلول .

[ ص: 610 ] و (أجزأ ) مهموز ، أي : ما أغنى منا ولا كفى . قال القرطبي : كذا صحت روايتنا فيه رباعيا . وفي "الصحاح " أجزأني الشيء : كفاني ، وجزأ عني هذا الأمر ، أي : قضى .

و (ذباب السيف ) طرفه كما قاله القزاز ، (وحده ) كما قاله ابن فارس .

وقوله : (بين ثدييه ) قال ابن فارس : الثدي للمرأة ، والجمع الثدى ، ويذكر ويؤنث ، وثندؤة الرجل كثدي المرأة ، وهو مهموز إذا ضم أوله ، فإذا فتحت لم يهمز ، ويقال : هو طرف الثدي .

ووصفه الرجل بأنه من أهل النار يحتمل أمورا :

أحدها : لنفاقه في الباطن ويؤيده ما أسلفناه .

ثانيها : أنه لم (يكن ليقاتل ) لتكون كلمة الله هي العليا .

ثالثها : أنه ارتاب عند الجزع فمات على شك .

رابعها : أنه لم يبلغ به الجراح إلى أن أنفذت مقاتله ليكون كمن استسرع الموت ، وكمن احترق مركب وهو فيه فرمى بنفسه إلى البحر وإن كان ربيعة يكره ذلك ، قال ابن التين : وذكره أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة يدل أنه لم يكن منافقا ولا قاتل لغير الله ، وإنما ذلك لقتله نفسه .

ثالثها : فيه صدق الخبر عما يكون وخروجه على ما أخبر به المخبر زيادة في زكاته ، وهو من الشارع من علامات النبوة ، وزيادة في يقين

[ ص: 611 ] المؤمنين به ، ألا ترى قول الرجل حين رأى قتله لنفسه : أشهد أنك رسول الله ، وهو قد كان شهد قبل ذلك ، وقد قال ذلك الصديق في غير ما قصة ، حين كان يرى صدق ما أخبر به ، كان يقول : أشهد أنك رسول الله .

وفيه : جواز الإغياء في الوصف لقوله : (ما أجزأ منا اليوم أحد مثل ما أجزأ ) ، ولا شك أن في الصحابة من كان فوقه ، وأنه قد ترك شاذات وفاذات لم يدركها ، وإنما خرج كلامه على الإغياء والمبالغة ، وهو جائز عند العرب .

وقوله : (إلا اتبعها بسيفه ) معناه : يضرب الشيء المتبوع ; لأن المؤنث قد يجوز تذكيره على معنى أنه شيء وأنشد الفراء (للأعرابية ) :

تركتني في الحي ذا غربة



تريد ذات (غربة ) ، لكنها ذكرت على تقدير تركتني في الحي (إنسانا ) ذا غربة أو شخصا ذا غربة ، قال القرطبي في حديث أبي هريرة : "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار فيدخلها " وهو غير حديث سهل ، لأن ذاك لم يكن مخلصا ، وهنا يتأول -على بعد - على من كان مخلصا في أعماله قائما على شروطها ، لكن سبقت عليه سابقة القدر الذي لا محيص عنه فبدل به عند خاتمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية