التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2753 [ ص: 634 ] 84 - باب: من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة

2910 - حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أخبر أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد ، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قفل معه ، فأدركتهم القائلة في واد كتير العضاه ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرق الناس يستظلون بالشجر ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سمرة وعلق بها سيفه ، ونمنا نومة ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال : " إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صلتا ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقلت : الله " ، ثلاثا ; ولم يعاقبه وجلس [2913 ، 4134 ، 4135 ، 4136 - مسلم: 843 - فتح: 6 \ 96]


ذكر فيه حديث جابر أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد ، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قفل معه ، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ، ثم ذكر أنه علق سيفه بشجرة وذكر قصة الأعرابي معه .

ثم ترجم له بعد باب : تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر ، ثم ساقه أيضا . وفي لفظ : كان قتادة يذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأرسلوا هذا الأعرابي (ويتلو ) واذكروا نعمة الله عليكم الآية [المائدة : 11] .

[ ص: 635 ] قال البخاري : قال مسدد ، عن أبي عوانة ، عن أبي بشر : اسم الرجل غورث بن الحارث . ورواه ابن أبي شيبة عن أسود بن عامر ، ثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : كنا إذا نزلنا طلبنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم شجرة وأظلها ، قال : فنزلنا تحت شجرة ، فجاء رجل وأخذ سيفه وقال : يا محمد من يعصمك مني ؟ قال : "الله " فأنزل الله تعالى : والله يعصمك من الناس [المائدة : 67] ولم يذكر فيه أن أحدا كان يحرسه ، بخلاف ما كان عليه في أول (أمره ) ، فإنه كان يحرس حتى نزل : والله يعصمك من الناس .

وروى الواحدي من حديث الحماني عن النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس ، فكان عمه أبو طالب يرسل معه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه ، فلما نزل عليه : والله يعصمك من الناس قال : "يا عماه ، إن الله عصمني من الجن والإنس " قال : وقالت عائشة : سهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقال : "ألا رجل صالح يحرسني " فجاء سعد وحذيفة ، فنام حتى سمعت غطيطه ، فنزلت هذه الآية ، فأخرج رأسه من قبة أدم فقال : "انصرفا فقد عصمني الله " .

وعند البيهقي : فسقط السيف من يد الأعرابي ، فأخذه رسول الله

[ ص: 636 ] - صلى الله عليه وسلم - من يده وقال : "من يمنعك مني ؟ " فقال : كن خير آخذ . قال : "فتسلم ؟ " قال : لا ، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك . فخلى سبيله ، فأتى أصحابه ، فقال :
جئتكم من عند خير الناس
.

إذا تقرر ذلك ; فهنا أمور :

أحدها : كانت هذه الواقعة قبل نجد كما سلف وعند الإسماعيلي : قبل أحد . وذكر ابن إسحاق أن ذلك كان في غزوته إلى غطفان لثنتي عشرة مضت من صفر . وقيل : في ربيع الأول سنة اثنتين ، وهي غزوة ذي أمر ، وسماها الواقدي غزوة أنمار ، ويقال : كان ذلك في ذات الرقاع ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - نزع ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا من مطر كان أصابه ، واضطجع تحتها ، فقال الكفار لدعثور -وكان سيدهم وكان شجاعا - قد انفرد محمد فعليك به . فأقبل ومعه صارم حتى قام على رأسه ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الله " فدفع جبريل في صدره ، فوقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : "من يمنعك أنت اليوم مني ؟ " فقال : لا أحد . فقال : "قم فاذهب لشأنك " فلما ولى قال : أنت خير مني . فقال - صلى الله عليه وسلم - : "أنا أحق بذلك منك " ثم أسلم بعد . وفي لفظ : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك محمد رسول الله . ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام .

[ ص: 637 ] قلت : فيجوز تعدد الواقعة . وذكرها الحاكم في غزوة خيبر من حديث جابر ، ولعله أشبه ; لأنه قيل : (إن [نزول] ) آية العصمة كان بعد بنائه بصفية أو ليلة البناء .

ثانيها : (اسمه ) غورث بن الحارث كما سلف ، وسماه الخطيب غورك بالكاف بدل الثاء ، وللخطابي : غويرث بالتصغير . وذكر القاضي عياض أنه مضبوط عند بعض رواة البخاري بعين مهملة ، قال : وصوابه بالمعجمة . وقال الجياني : هو فوعل من الغرث ، وهو الجوع .

ثالثها : قد أسلفنا أن جبريل - صلى الله عليه وسلم - دفعه في صدره فوقع السيف . وعند الخطابي : لما هم بقتله أخذته الزلخة : يعني : رجفا في صلبه ، فندر السيف من يده .

رابعها : معنى : "اخترط سيفي وأنا نائم " أي : استله بسرعة ، وأصله من خرطت العود أخرطه وأخرطه خرطا ، ذكره القزاز . وقال الداودي : معناه : سله .

وقوله : ("وهو في يده صلتا " ) أي : جرده ، ومثله مصلت : مخرج من جفنه . وقال القرطبي في "شرح مختصره " : قوله : "والسيف صلت في يده " روي برفع : "صلت " ونصبه ، فمن رفعه جعله خبر المبتدأ الذي هو

[ ص: 638 ] السيف ، و"في يده " متعلق به ، ومن نصب جعل الخبر في المجرور ونصب صلتا على الحال أي مصلتا ، والمشهور فتح لام "صلت " . وذكر القتبي أنها تكسر في لغة . وقال ابن عديس : ضربه بالسيف صلتا وصلتا بالفتح والضم . أي : مجردا . يقال : سيف صلت و (منصلت ) وإصليت : متجرد ماض .

وقوله : ("فشام السيف " ) أي : أغمده ، ويطلق أيضا في اللغة على سله ، والمراد هنا : أغمده ، وغمده وأغمده بمعنى . قال المبرد : هو من الأضداد ، سله وأغمده ، وبه جزم ابن بطال أيضا .

خامسها : في هذا نزل : اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم الآية [المائدة : 11] كما سلف . وقيل : فيه نزلت : وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة [الفتح : 24] (وعورض هذا بقوله : ببطن مكة ) ولم تكن هذه القصة في بطن مكة ، وهذا ظاهر .

وقوله : ("من يمنعك مني ؟ " ) استفهام مشوب بالنفي ، كأنه قال : لا مانع (لي منك ) . فلم يبال بقوله ، ولا عرج عليه ثقة بالله وتوكلا عليه .

سادسها : في فوائده فيه كما قال المهلب : أن تعليق السيف والسلاح في الشجر صيانة لها من الأمر المعمول به .

[ ص: 639 ] وفيه : أن تعليقها على بعد من صاحبها من الغرر لا سيما في القائلة والليل ، لما وصل إليه هذا الأعرابي من سيفه - صلى الله عليه وسلم - .

وفيه : تفرق الناس عن الإمام في القائلة ، وطلبهم الظل والراحة ، ولكن ليس ذلك في غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد أن يبقى معه من يحرسه من أصحابه ; لأن الله تعالى كان قد ضمن لنبيه العصمة ، قاله ابن بطال ، قال : وقيل : إن هذه القصة كانت سبب نزول هذه الآية . ثم ساق ما أسلفناه عن ابن أبي شيبة .

وفيه : أن حراسة الإمام في القائلة والليل من الواجب على الناس ، وأن تضييعه من المنكر والخطأ .

وفيه : جواز نوم المسافر إذا أمن ، وفي تبويب البخاري هنا ما يشعر بأن المجاهد إذا أمن نام ووضع سلاحه ، وإن خاف استوفز .

وفيه : دعاء الإمام لأتباعه إذا أنكر شخصا ، وشكوى من أنكره إليهم .

وفيه : ترك الإمام معاقبة من جفا عليه وتوعده إن شاء ، والعفو عنه إن أحب .

وفيه : صبر سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلمه وصفحه عن الجهال .

وفيه : شجاعته وبأسه وثبات نفسه ويقينه أن الله ينصره على الدين كله ، فلما شاهد الرجل تلك القوى التي فارق بها عادة الناس في مثل

[ ص: 640 ] تلك الحالة تحقق صدقه وعلم أنه لا يصل إليه بضرر ، وهذا من أعظم الخوارق للعادة ، فإنه عدو متمكن ، بيده سيف مشهور ، وموت حاضر ، ولا تغير له - صلى الله عليه وسلم - حال ، ولا جزع ، وهذا من معجزاته - عليه أفضل الصلاة والسلام - .

فائدة :

الدؤلي في إسناد البابين بضم الدال وفتح الهمزة (نسبة إلى ) [الديل من كنانة ، واسمه :] سنان بن أبي سنان . قال الأخفش فيما حكاه أبو حاتم السجستاني : جاء حرف واحد شاذ على وزن فعل وهو الدؤل ، وهو دويبة صغيرة تشبه ابن عرس ، وبها سميت قبيلة أبي الأسود الدؤلي ، وهي من كنانة ، إلا أنك تقول : الدؤلي فتفتح ، استثقلوا كسرتين بعد ضمة وياء النسب . وقال سيبويه : ليس في كلام العرب في الأسماء ولا في الصفات بنية على وزن فعل ، وإنما ذلك من بنية الفعل .

التالي السابق


الخدمات العلمية