التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2786 2946 - حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثنا سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله، إلا بحقه، وحسابه على الله". [ مسلم: 21 - فتح: 6 \ 111] رواه عمر وابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . [1399، 25]


ذكر فيه حديث ابن عباس : كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وقد سلف بطوله أول الكتاب.

وحديث سهل بن سعد، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم خيبر : "لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه". فأعطاها عليا..... الحديث.

وحديث حميد عن أنس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قوما لم يغر حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار بعد ما يصبح... الحديث.

[ ص: 38 ] وفي رواية: كان إذا غزا بنا.

وفي رواية أنه - عليه السلام - خرج إلى خيبر فجاءها ليلا، وكان إذا جاء قوما بليل لا يغير عليهم حتى يصبح... الحديث.

وحديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله".

رواه عمر وابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

الشرح:

فيه الدعاء إلى الإسلام بالمكاتبة وبعثه الرسول، وأحاديثه متفرقة في أبوابها، واستحب العلماء أن يدعى الكافر إلى الإسلام قبل القتال، وقال مالك: أما من قربت داره منا فلا يدعون لعلمهم بالدعوة ولتلتمس غرتهم، ومن بعدت داره وخيف أن لا تبلغه، فالدعوة أقطع للشك، وذكر ابن المنذر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى جعونة وأمره على الدروب أن يدعوهم قبل أن يقاتلهم، وأباح أكثر أهل العلم قتالهم قبل أن يدعوا؛ لأنهم قد بلغتهم الدعوة، هذا قول الحسن البصري والنخعي وربيعة والليث وأبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور . قال الثوري : ويدعون أحسن. واحتج الليث والشافعي بقتل ابن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف، وعن أبي حنيفة : إن بلغتهم الدعوة فحسن أن يدعوهم الإمام إلى الإسلام وأداء الجزية قبل القتال، ولا بأس أن يغيروا عليهم بغير دعوة.

[ ص: 39 ] وقال الشافعي : لا أعلم أحدا من المشركين لم تبلغه الدعوة اليوم إلا أن يكون خلف الجزر، والترك أمة لم تبلغهم فلا يقاتلوا حتى يدعوا، ومن قتل منهم قبل ذلك فعلى قاتله الدية. وقال أبو حنيفة : لا شيء عليه. قال ابن القصار : وهو ما أراه، ولا أحفظ عن مالك فيه نصا.

قال الطحاوي : قد لبث الشارع بعد النبوة سنين يدعو الناس إلى الإسلام ويقيم عليهم الحجج والبراهين كما أمره الله تعالى بقوله: ادفع بالتي هي أحسن [المؤمنون: 96] وقوله: فاعف عنهم واصفح [المائدة: 13] ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه [البقرة: 191] فأباح الله قتال من قاتله ولم يبح قتال من لم يقاتله، وكان الإسلام ينتشر في ذلك وتقوم الحجة على من لم يكن علمه، فأنزل الله تعالى بعد ذلك: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار [التوبة: 123] قاتلوكم قبل ذلك أم لا، فكان في ذلك زيادة في انتشار الإسلام، ثم أنزل عليه: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [التوبة: 36] فأمر بقتالهم كافة حتى يكون الدين كله لله، وقد تقدمت معرفة الناس جميعا بالإسلام وعلموا ما منابذته سائر أهل الأديان، ولم يذكر في شيء من الآي التي أمر فيها بالقتال دعاء من أمر بقتالهم؛ لأنهم قد علموا خلافهم له وما يدعوهم إليه.

واحتج لهذا القول بحديث أنس أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار بعد ما أصبح، فهذا يدل على أنه كان لا يدعو.

[ ص: 40 ] وذهب من استحب دعوتهم قبل القتال إلى حديث سهل بن سعد في الباب أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي : "على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم". وقال أهل القول الأول: هذا يحتمل أن يكون في أول الإسلام في قوم لم تبلغهم الدعوة ولم يدروا ما يدعون إليه (فأمر بالدعاء) ليكون ذلك تبليغا لهم وإعلاما، ثم أمر بالغارة على آخرين، فلم يكن ذلك إلا لمعنى لم يحتاجوا معه إلى الدعاء؛ لأنهم قد علموا ما يدعون إليه، وما لو أجابوا إليه لم يقاتلوا، فلا معنى للدعاء.

واحتجوا بحديث ابن عون : كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فقال: إنما كان ذلك في أول الإسلام قد أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارون، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية، حدثني بذلك ابن عمر، وكان في ذلك الجيش. وسيأتي في موضعه، وبما رواه الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أغر على أبنى صباحا وحرق".

وقال ابن التين : في حديث أنس يحتمل أنه دعاهم ولم (ينقل)، وفي حديث أنس أيضا الحكم بالدليل في الأبشار والأموال، ألا ترى أنه [ ص: 41 ] حقن دماء من سمع من دارهم الأذان، واستدل بذلك على صدق دعواتهم للإيمان.

وفيه أيضا: البيان عن صحة قول من أنكر على غزاة المسلمين بيات من لم يعرفوا حاله من أهل الحصون حتى يصبحوا، فتبين حالهم بالأذان ويعلموا هل بلغتهم الدعوة أم لا، وإن كانوا ممن بلغتهم الدعوة، ولم يعلموا أمسلمين هم أم أهل صلح أو حرب لهم فلا يغيروا حتى يصبحوا، فإن سمعوا أذانا من حصنهم كان من الحق عليهم الكف عنهم، وإن لم يسمعوا الأذان، وكانوا أهل حرب أغاروا عليهم إن شاءوا.

وأما حديث الصعب بن جثامة أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال: "هم منهم" - وسيأتي حيث ذكره البخاري - فهو محمول على من بلغته الدعوة ولا يشك في حاله من أهل الحرب، فيجوز بياته.

وحديث أنس محمول على من لم يعلم، هل بلغته فينظرهم الصباح ليستبرئ حالهم بالأذان وغيره من الشعائر.

وقال ابن التين : الدعوة تجب لمن بعدت داره، واختلف في الغريب، قال: وقال الحسن وغيره: لا يجب على كل أحد.

وأما حديث ابن عباس فقد أوضحنا الكلام عليه أول الكتاب، ولا بأس بإعادة قطعة لطيفة منه مختصرا، فمعنى (شكرا لما أبلاه الله) يقال: بلاه الله بلاء حسنا، والبلاء: الاختبار، يكون للخير والشر إذا كان ثلاثيا، وفيه: أنه كان على دين عيسى؛ فلذلك تبرر بالمشي إلى بيت المقدس .

[ ص: 42 ] وقوله: (لكذبته ). وفي نسخة: لحدثته. أي: بالكذب، و (يأثر): يحدث. وقال ابن فارس : أثرت الحديث: إذا ذكرته عن غيرك.

وقوله: (وكذلك الرسل تبتلى) ، أي: تختبر بالغلبة عليها ليعلم صبرهم.

وقوله: (يوشك) أي: يسرع ذلك، ومعنى: (سيظهر): سيغلب.

وأما حديث سهل فقوله: (فبصق في عينيه فبرأ). يقال: برأت من المرض، وبرئت أيضا.

وقوله: "على رسلك". هو بكسر الراء. قال ابن التين : ضبطه بفتح الراء وكسرها وهو بالفتح التؤدة، وبالكسر: الهينة.

و ("حمر النعم"): أعزها وأحسنها. يريد خير من أن تكون لك فتتصدق بها، وقيل: تنشئها وتملكها. والنعم: الإبل. وقيل: يطلق على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمعن.

و (المساحي) - بفتح الميم - جمع: مسحاة، وهي مفعلة مما يفعل بها، يقال: سحا وجه الأرض بالمسحاة يسحوه إذا قشره، وأصل المسحاة مسحوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا.

و (مكاتلهم): جمع مكتل، وهو الزنبيل الذي يحملون فيه ما يريدون على دوابهم ورقابهم، و (الخميس): الجيش، والمعنى: هذا محمد وجيشه، أو قد جاء محمد وجيشه، وإنما سمي خميسا؛ لأنه يخمس ما يجد من شيء.

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم أيضا، وسلف في الإيمان من حديث ابن عمر، وشرحه هناك واضحا.

[ ص: 43 ] قال الطحاوي : واختلف في تأويله، فذهب قوم إلى أن من قال: لا إله إلا الله فقد صار بها مسلما، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، واحتجوا به.

وخالفهم آخرون فقالوا: لا حجة لكم عليه فيه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما يقاتل قوما لا يوحدون الله تعالى، فكان أحدهم إذا وحد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه، وخروجه منه، ولم يعلم بذلك دخوله في الإسلام أو في بعض الملل التي توحد الله وتكفر بجحدها رسله وغير ذلك من الوجوه التي تكفر بها مع توحيدهم الله تعالى، كاليهود والنصارى يوحدون الله تعالى ولا يقرون برسوله، وفي اليهود من يقول: إن محمدا رسول الله إلى العرب خاصة، فكان حكم هؤلاء ألا يقاتلوا إذا وقعت هذه الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم بوجوب قتالهم.

وقد أمر الشارع عليا حين وجهه إلى خيبر وأهلها يهود بما رواه ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دفع الراية إلى علي حين وجهه إلى خيبر قال: "امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك" فقال علي: علام أقاتلهم؟ قال: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"، ففي هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أباح له قتالهم وإن شهدوا أن لا إله إلا الله حتى يشهدوا أن محمدا رسول الله، وحتى يعلم علي خروجهم من اليهودية، كما أمر بقتال عبدة الأوثان حتى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه، وقد أتى قوم من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 44 ] فأقروا بنبوته ولم يدخلوا في الإسلام فلم يقاتلهم على إبائهم الدخول في الإسلام إذ لم يكونوا بذلك الإقرار عنده مسلمين.

وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي، فقال له الآخر: لا تقل له نبي، فإنه إن سمعها صارت له أربعة أعين، (فأتاه) فسأله عن هذه الآية ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات... [الإسراء: 101] فقال: "لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم - خاصة (اليهود) - ألا تعدوا في السبت" فقبلوا يده وقالوا: نشهد أنك نبي. قال: "فما يمنعكم أن تتبعوني؟ " قالوا: نخشى أن تقتلنا اليهود، فأقروا بنبوته مع توحيد الله تعالى، ولم يكونوا بذلك مسلمين، فثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعاني التي تدل على الدخول في الإسلام وترك سائر الملل.

وروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا بذلك وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها" قال: وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه. فالحديث الأول [ ص: 45 ] فيه التوحيد خاصة هو المعنى الذي يكف به عن القتال حتى يعلم ما أراد به قائله، الإسلام أو غيره حتى لا تتضاد هذه الآثار.

وقال الطبري نحوا من ذلك، وزاد: أما قوله: "فإذا قالوا: لا إله إلا الله فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم... " الحديث. فإنه قاله في حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بالتوحيد، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون [الصافات: 35] فدعاهم إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان في الظاهر داخلا في صبغة الإسلام، ثم قال لآخرين من أهل الكفر، كانوا يوحدون الله تعالى غير أنهم ينكرون نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال - صلى الله عليه وسلم - في هؤلاء: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويشهدوا أن محمدا رسول الله" فإسلام هؤلاء: الإقرار مما كانوا به جاحدين، كما كان إسلام الآخرين إقرارهم بالله أنه واحد لا شريك له، وعلى هذا تحمل الأحاديث.

فصل:

حديث أنس في الباب أخرجه من ثلاث طرق عن حميد، عن أنس . الأول: عن أبي إسحاق، والثاني: عن إسماعيل بن جعفر، والثالث: عن مالك، كلهم عن حميد به.

وقد أخرج بالطريق الأول عدة أحاديث غيرها، منها: فضل الغدوة كما سلف، ومنها حديث العضباء، ومنها هنا، وفي المغازي [ ص: 46 ] حديث حفر الخندق، ومنها في المغازي، وصفة الجنة: أصيب حارثة... إلى آخره، وذكره خلف وأغفله أبو مسعود، ومنها هنا: "ما من عبد يموت له عند الله خير... " الحديث. سلف، وذكره يحيى بن عبد الوهاب بن منده فيما استدركه على أبي مسعود، وأخرج الثالث هنا وفي المغازي، وكذا أخرجه أبو داود والترمذي وقال: صحيح.

التالي السابق


الخدمات العلمية