التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2797 2957 - وبهذا الإسناد: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل، فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه". [7137 - مسلم: 1835، 1841 - فتح: 6 \ 116]


ذكر فيه حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نحن الآخرون السابقون ".

وبه: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه ".

الشرح:

معنى قوله: ("فإن عليه منه") أي: من الوزر، وقد جاء في بعض طرقه: "فإن عليه منه وزرا". ووجه مطابقة الترجمة لقوله: ("نحن الآخرون السابقون") أن معنى: ("يقاتل من ورائه") أي: من أمامه، كما قال تعالى: وكان وراءهم ملك [الكهف: 79] أي: أمامهم، فأطلق الوراء على الأمام؛ لأنهم وإن تقدموه في الصورة فهم أتباعه في الحقيقة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - تقدم [ ص: 68 ] عليه غيره بصورة الزمان، لكن المتقدم عليه مأخوذ عليه العهد أن يؤمن به وينصره كآحاد أمته وأتباعه، فهم في الصورة أمامه وفي الحقيقة أتباعه وخلفه، قاله ابن المنير . وهو معنى مناسب، ولكن البخاري مراده بهذا أن يأتي بصيغة روايته لشيخه الأعرج، فإن أول حديث فيها: "نحن الآخرون" فلذلك أتى به فاعلمه، وقد نبه عليه الداودي أيضا.

قال الخطابي : كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة ولا يطيعون غير رؤساء قبائلهم، فلما ولي في الإسلام الأمراء أنكرته نفوسهم وامتنع بعضهم من الطاعة، وإنما قال لهم - صلى الله عليه وسلم - هذا القول ليعلمهم أن طاعة الأمراء مربوطة بطاعته، وأن من عصاهم عصى أمره؛ ليطاوعوا الأمراء الذين كان يوليهم عليهم، وإذا كان إنما وجبت طاعتهم لطاعة رسول الله، فخليق ألا يكون طاعة من كان مخالفا لرسول الله فيما يأمره واجبة، وليس هذا الأمر خاصا بمن باشره الشارع بتولية الإمام به - كما نبه عليه القرطبي - بل هو عام في كل أمير عدل للمسلمين، ويلزم منه نقيض ذلك في المخالفة والمعصية.

وقوله: ("إنما الإمام جنة") بضم الجيم: الدرع، وسمي المجن: مجنا؛ لأنه يستتر به عند القتال، فالإمام كالساتر؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض.

ومعنى: ("يقاتل من ورائه") أي: يقاتل معه الكفار والبغاة وسائر أهل الفساد، فإن لم يقاتل من ورائه وأتي عليه مرج أمر الناس، وأكل [ ص: 69 ] القوي الضعيف، وضيعت الحدود والفروض، وتطاول أهل الحرب إلى المسلمين.

والياء في قوله: ("يتقي به") مبدلة من الواو؛ لأن أصلها من الوقاية ومعنى: "يتقي به": يدفع به الظلم.

وفيه: الدليل أن ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف بأن من أطاعهم في أمر ثم تبين له خطؤهم في ما أمروه من ذلك أنه معذور، وأن التبعة على الآمر، وهو شبيه مما قاله الشعبي، كما سلف. قال الخطابي : ويحتمل أن يكون أراد به جنة في القتال وفيما يكون منه في أمره دون غيره. وقال الهروي : معنى: "الإمام جنة" أنه يقي الإمام الزلل والسهو كما يقي الترس صاحبه من وقع السلاح.

وقال المهلب : معنى: "يتقي به" يرجع إليه في الرأي والفعل وغير ذلك مما لا يجب أن يقضى فيه إلا برأي الإمام وحكمه، ويتقي به الخطأ في الدين والعمل من الشبهات وغيرها، والإمام جنة بين الناس بعضهم من بعض؛ لأن بالسلطان يزع الله تعالى عن المستضعفين من الناس، فهو ستر لهم وحرز للأموال وسائر حرمات المؤمنين أن تنتهك.

وقال غيره: تأويل: "يقاتل من ورائه" عند العلماء على الخصوص وهو في الإمام العدل خاصة، فمن خرج عليه وجب على جميع المسلمين قتاله مع الإمام العدل نصرة له، إلا أن يرى الإمام أن يفعل ما فعل عثمان؛ فطاعة الإمام واجبة، إلا أن الخارجين عليه إن قتلوه في غير قتال اجتمعت فيه الفئتان للقتال، أو قتلوا غيره فإن القصاص يلزمهم، بخلاف قتلهم لأحد في حال الملاقاة للفئتين، ولذلك [ ص: 70 ] استجاز المسلمون طلب دم عثمان إذ لم يكن قتله عن ملاقاة، وإن كان الإمام غير عدل فالواجب عند العلماء من أهل السنة ترك الخروج عليه، وأن يقيموا معه الحدود والصلوات والحج والجهاد وتؤدى إليه الزكوات، فمن قام عليه من الناس متأولا بمذهب خالف فيه السنة أو بجور أو لاختيار إمام غيره سمي فاسقا ظالما عاصيا في خروجه؛ لتفريقه جماعة المسلمين، ولما يكون في ذلك من سفك الدماء فإن قاتلهم الإمام الجائر لم يقاتلوا معه ولم يجز أن يسفكوا دماءهم في نصره.

وقد رأى كثير من الصحابة ترك القتال مع علي، ومكانه من الدين والعلم ما لا يخفى على أحد له مسكة فهم، وسموه قتال فتنة، وادعى كل واحد على صاحبه أنه الفئة الباغية، وهذا الشأن العصبية عند أهل العلم، ولم ير علي على من فر من القتال ذنبا يوجب سخطه حاله، وإن كان قد دعا بعضهم إلى القتال فأبوا أن يجيبوه، فعذرهم، وكذلك يجب على الإمام المفلح الذي يأخذ الأمر عن شورى ألا يعتب من بعد عنه، وسيأتي إيضاح كشف القتال في الفتنة في موضعه في كتاب الفتنة إن شاء الله تعالى.

قال الداودي : إنما يقاتل من ورائه من أراد بظلم إن كان عدلا فأراد طائفة خلعه قوتل من ورائه كما قوتل الخوارج مع علي؛ لقوله: فإن بغت إحداهما [الحجرات: 9] ولما أراد علي الخوارج يوم الجمل قال له أصحاب عبد الله : نحن معتزلون فإن تبين لنا ظلم أحد قاتلناه. قال علي: هذا هو الفقه. وإن كان ظالما غشوما وأراده بعض أهل الإسلام، فإن كان يقدر على خلعه بغير حدث ولا أمر يدخل فيه ظلم خلع، وإن لم يوصل إلى ذلك إلا مما فيه ظلم كف عنه ولم يستعمل الدعاء عليه، والله سائله وسائل أعوانه وأنصاره.

[ ص: 71 ] وقوله: ("وإن قال بغيره") (قال) هنا بمعنى: حكم. نبه عليه الخطابي، يقال: قال الرجل واقتال إذا حكم، وقيل: إنه مشتق من اسم القيل، وهو الملك الذي يقدم قوله وحكمه دون الملك العظيم. وقال ابن فارس : اقتال فلان على فلان تحكم. وفي حديث ذكر فيه رقية النملة: العروس تحتفل وتقتال وتكتحل، تقتال: أي تحتكم على زوجها، ذكره الهروي .

التالي السابق


الخدمات العلمية