التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
19 [ ص: 552 ] 12 - باب : من الدين الفرار من الفتن

19 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن". [3300،3600، 6495، 7088 - فتح: 1 \ 69]
نا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن".

(ولما كان الفرار صيانة للدين أطلق عليه البخاري (دينا) ).

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث انفرد به البخاري عن مسلم رواه هنا عن القعنبي، وفي الفتن عن (ابن) يوسف، وفي أثناء الكتاب عن إسماعيل، ثلاثتهم عن مالك به، وفي الرقاق وعلامات النبوة عن أبي نعيم، عن الماجشون، عن عبد الرحمن به، وهو من أحاديث مالك [ ص: 553 ] في "الموطأ".

وزعم الإسماعيلي في "مستخرجه" أن إسحاق بن موسى الأنصاري رواه عن معن، عن مالك فجعله من قول (أبي سعيد) لم يجاوزه.

قال الإسماعيلي: قلت: أسنده ابن وهب والتنيسي وسويد وغيرهم، وأخرج مسلم معناه من حديث أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الناس أفضل؟ قال: "مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله"، قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره".

وفي حديث له: "من خير معاش الناس لهم".

ثم ذكر: "رجلا في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير".

الوجه الثاني: ذكر الخطيب في كتابه: "رافع الارتياب" أن الصواب: عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة.

[ ص: 554 ] قال ابن المديني: ووهم ابن عيينة حيث قال: عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة. وقال الدارقطني: لم يختلف على مالك في اسمه، قلت: في "الثقات" لابن حبان: خالفهم مالك فقال: عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة. وفي "طبقات ابن سعد": عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة.

واسمه: عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج.

الوجه الثالث: في التعريف برواته غير ما سلف.

أما أبو سعيد: فهو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد -وقيل: عبد- بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري، وزعم بعضهم أن خدرة هي أم الأبجر.

استصغر يوم أحد فرد، وغزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة مع [ ص: 555 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستشهد أبوه يوم أحد.

روي له ألف حديث ومائة وسبعون حديثا، اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين. روى عن جماعة من الصحابة منهم: الخلفاء الأربعة، ووالده مالك، وأخوه لأمه قتادة بن النعمان، وعنه: جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر وابن عباس، وخلق من التابعين. وكان من الحفاظ المكثرين (العلماء) الفضلاء، العقلاء، أحد نجباء الأنصار وعلمائهم مع حداثة سنه، وكان يلبس الخز، ويحفي شاربه ولا يخضب، كانت لحيته بيضاء خصلا. وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يأخذه في الله لومة لائم مع جماعة، واستقال غيره. فأقيل، ويقال له: عفيف المسألة; لأنه عف فلم يسأل أحدا، ولما مات والده لم يترك له مالا، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -; ليسأله فقال حين رآه: "من يستغن أغناه الله، ومن يستعفف أعفه الله"، فقال: ما يريد غيري، فرجع. وكذا والده أيضا; لأنه طوى ثلاثا فلم يسأل، فقال عليه السلام: "من أراد أن ينظر إلى [ ص: 556 ] (العفيف) المسألة فلينظر إلى هذا".

في وفاته ثلاثة أقوال: (أحدها: سنة أربع وسبعين. ثانيها: سنة أربع وستين. ثالثها: سنة خمس ).

(ذكره العسكري بالمدينة يوم جمعة، ودفن والده أيضا بالبقيع، وفي سنه -أعني: سن أبي سعيد- قولان: أحدهما: ابن أربع وسبعين، والثاني: ابن ثلاث وسبعين،) ووهم من قال: سنه أربع وتسعين.

[ ص: 557 ] تنبيهات:

أحدها: (ما) ذكرناه من اسم أبي سعيد هو المشهور. وقيل: اسمه سنان، وسنان (والد) مالك يقال له: الشهيد، والخزرج: هو(ابن حارثة) بن ثعلبة بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس ابن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وأسقط أبو عمر عبيدا الأول، وهو الصواب، كما نبه عليه (الرشاطي) ، وخالف ابن الكلبي، [ ص: 558 ] وخليفة بن خياط، فأثبتاه.

الثاني: في الصحابة أيضا سعد بن أبي وقاص مالك، وسعد بن مالك العذري قدم في وفد عذرة.

الثالث: لا خلاف في إهمال دال الخدري، وهو نسبة إلى خدرة كما أسلفناه، وقال ابن حبان في "ثقاته" في ترجمة أبي سعيد: إن خدرة من اليمن، ومراده أن الأنصار من اليمن فهم بطن من الأنصار، وهم نفر قليل بالمدينة. وقال أبو عمر: خدرة وخدارة بطنان من الأنصار، فأبو مسعود الأنصاري من خدارة، وأبو سعيد من خدرة، وهما ابنا عوف بن الحارث، كما سلف.

قلت: وضبط أبو عمر خدارة -بضم الخاء المعجمة- وهو خلاف ما قاله الدارقطني من كونه بالجيم، أي: المكسورة، وصوبه [ ص: 559 ] الرشاطي، وكذا نص عليه العسكري في "الصحابة" والحافظ أبو الحسن المقدسي، قلت: وفي (سلمى) خدرة بن كاهل، قاله ابن حبيب.

الرابع: يشتبه (الخدري) بالخدري -بكسر الخاء وسكون الدال- نسبة إلى (خدرة) بطن من ذهل بن شيبان، وبالخدري -بفتحهما- وهو محمد بن الحسن، متأخر روى عن أبي حاتم، وبالجدري -بفتح الجيم والدال- وهو عمير بن سالم، وبكسر وسكون نسبة إلى جدرة بطن من كعب.

الخامس: قد ذكرنا أن خدرة تشتبه بأربعة أشياء: خدرة وخدرة وجدرة (وجدرة)، وتشتبه أيضا بثلاثة أشياء أخر (ذكرتهم) في "مشتبه النسبة" فراجعها منه.

قال ابن دريد: خدرة فعلة، إما من الخدر أو من الخدرة حكاه [ ص: 560 ] الرشاطي عنه.

السادس: أبو سعيد هذا صحابي (ابن صحابي) أسلم والده، وقتل يوم أحد كما سلف، قتله عرار بن سفيان الكلابي. ولم يرو عنه شيء كما نص عليه العسكري فيما زعم، قال: (وذكر) بعضهم (أن أبا شيبة أخاه) لا يعرف اسمه، وذكره أبو حاتم فيمن لا يعرف اسمه، مات في أيام يزيد بن معاوية غازيا، ودفن في بلاد الروم.

وروى أبو سعيد الأشج حديثا قال فيه: عن أبي سلمة الخدري، -ولست أعرفه- وأحسبه: عن أبي سلمة، عن الخدري فوهم -فهذه مهمات في ترجمة أبي سعيد لا يسأم منها; فإنه يرحل إليها.

وأما عبد الرحمن ووالده عبد الله فأنصاريان مازنيان مدنيان ثقتان، وقد (سقنا نسبهما) فيما مضى، وجد عبد الرحمن الأعلى الحارث، شهد أحدا، وقتل يوم اليمامة شهيدا مع خالد بن الوليد، وكان عمرو [ ص: 561 ] -أبو صعصعة، بفتح الصادين المهملتين- سيد بني مازن بن النجار، قتله برذع بن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر من الأوس غيلة بدل قيس بن الخطيم، وكان قتله قوم من بني النجار وبني سلمة، ثم أسلم بردع وشهد أحدا.

قال ابن سعد: أدرك مالك بن أنس أبا عبد الرحمن وروى عنه (...) وعن ابنيه عبد الرحمن ومحمد البخاري والنسائي وابن ماجه، وروى أبو داود لعبد الله، وابنه عبد الرحمن، ولم يرو(مسلم) عن أحد منهم شيئا.

قال النسائي: عبد الله ثقة وكذا ولده. وذكره ابن حبان أيضا في "ثقاته"، مات عبد الرحمن سنة تسع وثلاثين ومائة، وقال مالك: كان (لبني) أبي صعصعة حلقة في المسجد بين المنبر والقبر، وفيهم رجال أهل علم ورواية ومعرفة كلهم كان يفتي.

[ ص: 562 ] وأما عبد الله: فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن (قعنب) القعنبي الحارثي المدني، سكن البصرة، كان (مجاب) الدعوة، سمع مالكا والليث وحماد بن سلمة، وخلائق لا يحصون من الأعلام، وسمع من شعبة حديثا واحدا، وله معه قصة، وهو: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت".

وإمامته وإتقانه (وثقته) وجلالته وحفظه وصلاحه وورعه وزهده مجمع عليه، قال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجل في عيني منه.

وقال أبو حاتم: لم أر أخشع منه وقيل لمالك: إن عبد الله قدم، فقال: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض، وقال عبد الله: اختلفت إلى [ ص: 563 ] مالك ثلاثين سنة، ما من حديث في "الموطأ" إلا لو شئت قلت: سمعته مرارا من مالك، ولكني (اقتصرت) على قراءتي عليه; لأن مالكا كان يذهب إلى أن القراءة على الشيخ أثبت من قراءة العالم.

[ ص: 564 ] وقال أبو سبرة الحافظ: قلت للقعنبي: حدثت ولم تكن تحدث! قال: رأيت كأن القيامة قد قامت فصيح بأهل العلم فقاموا، فقمت معهم، فصيح بي: اجلس، فقلت: إلهي، ألم أكن معهم أطلب؟ قال: بلى ولكنهم نشروا وأخفيته; فحدثت.

روى عنه البخاري ومسلم فأكثرا، ومسلم عن عبد بن حميد عنه حديثا واحدا في الأطعمة، والترمذي (والنسائي) عن رجل عنه.

مات سنة إحدى وعشرين ومائتين.

فائدة:

هذا الإسناد فيه لطيفة مستطرفة وهي أن رجاله كلهم مدنيون.

الوجه الرابع: في ضبط ألفاظه ومعانيه:

قوله: "يوشك" هو -بكسر الشين وبضم الياء- أي: يسرع ويقرب، ويقال في ماضيه: أوشك، ومن أنكر استعماله ماضيا فغلط، فقد كثر استعماله.

قال الجوهري: أوشك فلان، يوشك إيشاكا أي: أسرع.

قال جرير:

[ ص: 565 ]

إذا جهل الشقي ولم يقدر ببعض الأمر أوشك أن يصابا

قال: والعامة (تقول) : يوشك -بفتح الشين وهي لغة رديئة- قال أبو يوسف -يعني: ابن السكيت: واشك يواشك وشاكا، مثل أوشك، ويقال: إنه مواشك، أي: مسارع.

ويوشك أحد أفعال المقاربة، يطلب اسما مرفوعا وخبرا (منصوب المحل) لا يكون إلا فعلا مضارعا مقرونا بأن، وقد يسند إلى أن والفعل المضارع فيسد ذلك مسد اسمها وخبرها، كما جاء في هذا الحديث. ومثله قول الشاعر:


يوشك أن يبلغ منتهى الأجل     فالبر لازم برجاء (ووجل)

وقوله: ("خير مال المسلم غنم") يجوز فيه وجهان:

أحدهما: نصب "خير" وهو الأشهر في الرواية، وهو خبر يكون مقدما ولا يضر كون الاسم -وهو"غنم"- نكرة; لأنها وصفت بـ "يتبع (بها).

وثانيهما: رفعه على أن (يكون في) "يكون" ضمير الشأن; لأنه كلام تضمن تحذيرا وتعظيما لما يتوقع. ويكون: "خير مال المسلم غنم" مبتدأ وخبرا، وقد روي: "غنما" بالنصب وهو ظاهر، وقوله:

[ ص: 566 ] "يتبع" هو بتشديد التاء، وقوله: "شعف الجبال" هو بشين معجمة مفتوحة ثم عين مهملة، وهي رءوس الجبال، وشعف كل شيء: أعلاه، والواحدة: شعفة.

وقوله: ("يفر بدينه من الفتن") أي: من (فساد ذات البين) وغيرها، وخصت الغنم بذلك; لما فيها من السكينة والبركة -وقد رعاها الأنبياء والصالحون صلوات الله عليهم وسلامه- مع أنها سهلة الانقياد، خفيفة المؤنة، كثيرة النفع.

وقال أبو الزناد: إنما خص الغنم حضا على التواضع والخمول وترك الاستعلاء.

وقد قال -عليه السلام-: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم" وقال: "السكينة في أهل الغنم".

وقال غيره: إنما ذكر شعف الجبال لفراغها من الناس غالبا، وشبهها مثلها، وقد ذكر في حديث مسلم بطن الوادي معه كما سلف.

الوجه الخامس: في فوائده:

وهي كثيرة منها:

فضل العزلة في أيام الفتن; لإحراز الدين; ولئلا تقع عقوبة فتعم، [ ص: 567 ] إلا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها، إما فرض عين، وإما فرض كفاية بحسب (الحال) والإمكان.

وأما في غير أيام الفتنة (فاختلف) العلماء أيها أفضل: العزلة أم الاختلاط؟ فذهب الشافعي والأكثرون إلى تفضيل الخلطة; لما فيها من اكتساب الفوائد، وشهود الشعائر، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال الخير إليهم ولو بعيادة (المرضى)، وتشييع الجنائز، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وإعانة المحتاج، وحضور (جماعاتهم)، وغير ذلك مما يقدر عليه كل أحد. فإن كان صاحب (علم) أو سليك في الزهد ونحو ذلك تأكد فضل اختلاطه.

وذهب آخرون إلى تفضيل العزلة; لما فيها من السلامة المحققة لمن [ ص: 568 ] لا يغلب على ظنه الوقوع في المعاصي، ومنها الاحتراز من الفتن.

وقد أخرج البخاري في الفتن: حديث سلمة بن الأكوع، أنه لما قتل عثمان خرج سلمة إلى الربذة، فتزوج هناك امرأة وولدت له أولادا، فلم يزل بها حتى كان قبل أن يموت بليال; فنزل المدينة.

وفي حديث آخر: أنه دخل على الحجاج فقال له: يا ابن الأكوع، ارتددت على عقبيك، وتعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لي في البدو.

التالي السابق


الخدمات العلمية