التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2894 3059 - حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استعمل مولى له يدعى: هنيا على الحمى فقال يا هني، اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياى ونعم ابن عوف، ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين. أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وايم الله، إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم فقاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا. [فتح: 6 \ 175 ]


ذكر فيه حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - : أين تنزل غدا؟ في حجته، قال: "وهل ترك لنا عقيل منزلا؟ "... الحديث.

قال الزهري : والخيف الوادي.

وأثر عمر - رضي الله عنه - أنه استعمل مولى له يدعى هنيا... إلى آخره.

[ ص: 295 ] الحديث الأول سلف في الحج في باب: توريث دور مكة، والثاني من أفراده، وقال الدارقطني فيه: غريب صحيح. قال ابن أبي صفرة: لما أسلم أهل مكة عام الفتح من عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك أموالهم ودماءهم، ولم ينزل في شيء منها لمنه عليهم بها ونزل في الوادي، وكذلك كان يفعل بهوازن لو بدرت بإسلامها، فلما استأنت قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغنيمة بين أصحابه، فلما جاءوا بعد القسمة خيرهم في إحدى الطائفتين: المال، أو السبي، فاختاروا النبي، فقضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم واستطاب أنفس أصحابه وقال: "من لم تطب نفسه فليبق إلى أول مغنم يفيئه الله علينا"، وقضى لأهل مكة بأموالهم، ولم يستطب نفوس أصحابه؛ لأنه مال الله على اجتهاده لا شيء للغانمين فيه إلا أن يقسمه لهم لقوله - عز وجل - : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر: 7] فآتاهم بهذه الآية أرض خيبر فقسمها بينهم، ونهاهم في مكة فانتهوا، ونهاهم عمر عن الأرض المغنومة بالشام والعراق بهذه الآية، فلم يقسمها لهم.

قال ابن المنير: وجه مناسبته للترجمة على وجهين: إما أن يكون - صلى الله عليه وسلم - سئل أن ينزل بداره بمكة، وهو مبين في بعض طرقه.

وقوله: ("وهل ترك لنا عقيل منزلا") بين؛ لأنه إذا ملك مستولى عليه في الجاهلية من ملكه - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف لا يملك ما لم يزل له ملكا أصالة، وإما أن يكون سئل هل ينزل من منازل مكة شيئا لأنها فتحت عنوة؟ فبين أنه من على أهلها بأنفسهم وأموالهم فتستقر أملاكهم عليها [ ص: 296 ] كما كانت، وعلى التقديرين فأهل مكة ما أسلموا على أملاكهم ولكنه من عليهم ثم أسلموا، فإذا ملكوا وهم كفار بالمن فملك من أسلم قبل الاستيلاء أولى.

وحديث عمر مطابقته بينة غير أن عبد الرحمن وعثمان لم يكونا من أهل المدينة ولا دخلاها في قوله: (قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام)، والكلام عائد على عموم أهل المدينة لا عليهما، قال المهلب : وإنما أدخل هنيا تحت هذه الترجمة؛ لأن أهل المدينة أسلموا عليها، فكانت لهم أموالهم، ألا ترى أنه ساوم بمكان المسجد بني النجار وقال: "ثامنوني بحائطكم" فأوجبه لهم، وكذلك قال عمر: (إنها لأرضهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام). فأوجبها لهم.

وهذا كله شاهد للترجمة أن من أسلم في أرض الحرب فأرضه له ما لم يغلب عليها، وقد سئل مالك عن إمام قبل الجزية من قوم فأسلم منهم أحد أيكون له أرضه وماله؟ فقال مالك: ذلك يختلف؛

أما الصلح فمن أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله، وأما أهل العنوة فمن أسلم منهم فماله وأرضه فيء للمسلمين؛ لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم فهي لمن عليهم، وأما أهل الصلح فإنهم قوم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صالحوا عليه. وقول مالك في هذا إجماع من العلماء كما قاله ابن بطال .

واختلفوا فيما إذا أسلم في دار الحرب وبقي فيها ماله وولده، ثم خرج إلينا مسلما وغزا مع المسلمين بلده؛ فقال الشافعي وأشهب

[ ص: 297 ] وسحنون : إنه قد أحرز ماله وعقاره حيث كان، وولده الصغار؛ لأنهم تبع لأبيهم في الإسلام، وحجتهم أنه إذا أسلم كان ماله حيث كان من دار الحرب أو غيرها على ملكه، فإذا غنمت دار الحرب كان حكم ماله كحكم مال المسلم ولم تزل الغنيمة ملكه عنه. وقال مالك والليث : أهله وماله وولده على حكم البلد وملكهم، كما كانت دار النبي - صلى الله عليه وسلم - على حكم البلد وملكهم، ولم ير نفسه - صلى الله عليه وسلم - أحق بها. وفرق أبو حنيفة بين حكمه إذا أسلم في بلده أو في (دار) الإسلام؛ فقال: إن أسلم في بلده ثم خرج إلينا فأولاده الصغار أحرار مسلمون، وما أودعه مسلما أو ذميا فهو له، وما أودعه حربيا فهو وسائر عقاره هناك فيء، وإذا أسلم في بلد الإسلام، ثم ظهر المسلمون على بلده فكل ماله فيه فيء لاختلاف حكم الدارين عندهم، ولم يفرق مالك ولا الشافعي بين إسلامه في دار الحرب أو في دار الإسلام.

وفيه: - كما قال المهلب - : أن للإمام أن يحمي أراضي الناس المبورة لتعم الصدقة ومنفعة تشمل المسلمين، كما حمى عمر هذا الحمى لإبل الصدقة وغنمها، وهو الحمى الذي زاد فيه عثمان فأنكر عليه، وليس لأحد أن ينكر هذا على عثمان؛ لأنه لما رأى عمر فعل ذلك جاز لعثمان أن يحمي أكثر إذا احتاج إليه؛ لكثرة (الصدقة) في أيامه.

[ ص: 298 ] تنبيهات:

قول الزهري : الخيف: الوادي. قال جماعة: الخيف: ما ارتفع من مسيل الوادي ولم يبلغ أن يكون جبلا.

وقوله: ("وهل ترك لنا عقيل منزلا؟ ") قيل: كره أن يعود في شيء أصيب به في جنب الله، وقيل: رأى مشتريها لما أسلم أسلم عليها كانت له.

وفيه: دلالة على أن دور مكة تملك وتكرى، وهو مذهب الشافعي، ومذهب مالك خلافه بناء على أنها فتحت عنوة، وكره قوم كراءها أيام المواسم خاصة، ومنعه قوم سائر المدة.

وقوله: (اضمم جناحك عن المسلمين). أي: لا تحمل ثقلك عليهم وكف يدك عن ظلمهم. ومن رواه: (على المسلمين). فمعناه: استرهم بجناحك. وعبارة ابن بطال : (عن المسلمين). لا تشتد على كل الناس في الحمى، فإن ضعفاء الناس القليلي الغنم والإبل الذي لا تنتهك ماشية الحمى، إن حميته عنه كان ظلما، فاتق دعوته فإنها لا تحجب عن الله.

و (الصريمة) تصغير الصرمة، وهي من الإبل نحو الثلاثين، و (الغنيمة): القليلة: وعبارة ابن التين : الصريمة والغنيمة: القطعة الصغيرة.

وفيه: ما كان عمر - رضي الله عنه - من الصلابة في الدين، وأن أقوى الناس عنده الضعيف، وأضعفهم القوي.

[ ص: 299 ] وقوله: (وإياي، ونعم ابن عوف، ونعم ابن عفان). حذره أن يدخل الحمى؛ لأنها كثيرة، فإن دخلته أنهكته، وإن منعت الدخول وهلكت كان لأربابها عوض من أموالهم يعيشون فيه، ومن ليس له غير الصريمة القليلة إن هلكت أن يستغيث أمير المؤمنين في الإنفاق عليه وعلى (بنيه) من بيت المال.

وقوله: (إنهم ليرون أني قد ظلمتهم) يريد أهل المواشي الكثيرة، ويحتمل أن يريد أهل المدينة، واقتدى عمر في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفيه: جواز الحمل على من له مال ينقص المضرة الداخلة عليه في ماله إذا كان في ذلك نظير لغيره من الضعفاء.

وقوله: (لولا المال). يريد الإبل التي يحمل عليها المجاهدين في سبيل الله من نعم الصدقة التي حمى لها لترعى فيه في مدة أيام النظر في الحمل عليها.

وفيه: دليل على أن (مسارح) القرى وعوامرها التي ترعى فيها مواشي أهلها من حقوق أهل القرية وأموالهم، وليس للسلطان بيعه إلا أن تفضل منه فضلة.

ومعنى الحديث السالف: "لا حمى إلا لله ولرسوله" لا حمى لأحد يخص نفسه، وإنما هو لله ولرسوله أو لمن ورث ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - من الخلفاء للمصلحة الشاملة للمسلمين وما يحتاجون إلى حمايته.

التالي السابق


الخدمات العلمية