التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
271 [ ص: 605 ] 17 - باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو ولا يتيمم

275 - حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا عثمان بن عمر قال: أخبرنا يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: " مكانكم". ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه. تابعه عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري. ورواه الأوزاعي، عن الزهري [639، 640 - مسلم: 605 - فتح: 1 \ 383]


حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا عثمان بن عمر، أنا يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: "مكانكم". ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه. تابعه عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري. ورواه الأوزاعي، عن الزهري.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

حديث أبي هريرة هذا أخرجه مسلم أيضا في الصلاة، وأما حديث معمر فأخرجه أبو داود، عن (مخلد بن خالد)، عن إبراهيم بن خالد -إمام مسجد صنعاء- عن رباح بن زيد، عنه.

[ ص: 606 ] وأما حديث الأوزاعي فذكره مسندا في الصلاة في باب: إذا قال الإمام: مكانكم. عن إسحاق، عن محمد بن يوسف، عنه.

وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب. وأبو داود عن المؤمل بن الفضل، كلاهما عن الوليد بن مسلم، عنه.

قلت: وتابعه الزبيدي، وصالح بن كيسان، وابن عيينة كلهم عن الزهري. رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن حرب، عن الزبيدي. ورواه البخاري في الصلاة، في باب: هل يخرج من المسجد لعلة، من حديث إبراهيم بن سعد، عن صالح. ومتابعة ابن عيينة ذكرها الإسماعيلي.

ثانيها:

عبد الله (خ. ت) بن محمد: هو: المسندي الحافظ، مات بعد المائتين.

وعثمان (ع) بن عمر: هو العبدي البصري صالح ثقة. مات سنة تسع ومائتين.

[ ص: 607 ] ويونس: هو ابن يزيد، سلف، وكذا باقي الإسناد.

ثالثها:

قوله: (أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف). وفي رواية: فعدلت الصفوف، قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيه تعديل الصفوف، وهو إجماع، وقال ابن حزم: فرض على المأمومين تعديل الصفوف، الأول فالأول، والتراص فيها، والمحاذاة بالمناكب والأرجل.

رابعها:

قوله: (فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو موافق لرواية: أقيمت الصلاة، فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج. وأما حديث: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني".

فوجهه أن بلالا كان يراقب خروجه من حيث لا يراه غيره، أو إلا القليل، فعند أول خروجه يقيم، فلا يقوم الناس حتى يروه، ولا يقوم مقامه حتى يعدل الصفوف، وأخذ المصاف قبل الخروج لعله كان مرة أو مرتين ونحوهما لبيان الجواز، أو لعذر.

ولعل قوله: "فلا تقوموا حتى تروني" بعد ذلك، والنهي عن القيام قبل أن يروه لئلا يطول عليهم القيام، ولأنه قد يعرض له عارض فيتأخر بسببه.

[ ص: 608 ] وقد اختلف العلماء من السلف فمن بعدهم متى يقوم الناس إلى الصلاة؟ ومتى يكبر الإمام؟ فذهب الشافعي وطائفة إلى أنه يستحب أن لا يقوم أحد حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وكان أنس يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة. وبه قال أحمد.

وقال أبو حنيفة والكوفيون: يقومون في الصف إذا قال: حي على الصلاة، فإذا قال: قد قامت الصلاة. كبر الإمام، وحكاه ابن أبي شيبة، عن سويد بن غفلة، وقيس بن أبي سلمة، وحماد، وقال جمهور العلماء من السلف والخلف: لا يكبر الإمام حتى يفرغ المؤذن من الإقامة.

خامسها:

قوله: (فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب). وفي رواية: قبل أن يكبر. وفي رواية أخرى في البخاري: وانتظرنا تكبيره.

ولابن ماجه: قام إلى الصلاة وكبر، ثم أشار إليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل، وكان رأسه يقطر ماء فصلى بهم، فلما انصرف قال: "إني خرجت إليكم جنبا، وإني أنسيت حتى قمت في الصلاة".

وفي رواية للدارقطني من حديث أنس: دخل في صلاة فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إلى القوم. "كما أنتم". وفي رواية لأحمد من حديث [ ص: 609 ] علي: كان قائما يصلي بهم، إذ انصرف.

وفي رواية لأبي داود من حديث أبي بكرة: دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أن: مكانكم، ثم جاء ورأسه يقطر، فصلى بهم، وفي أخرى له مرسلة: فكبر ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا. وفي مرسل ابن سيرين وعطاء والربيع بن أنس: كبر ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا.

واختلف في الجمع بين هذه الروايات، فقيل: أراد بقوله: (كبر): أراد أن يكبر، عملا بالرواية السالفة: وانتظرنا تكبيره.

وقيل: إنهما قضيتا، أبداه القرطبي احتمالا، وقال النووي: إنه الأظهر.

وأبداه ابن حبان في "صحيحه" فقال بعد أن أخرج الروايتين من حديث أبي هريرة وحديث أبي بكرة: هذان فعلان في موضعين متباينين، خرج صلى الله عليه وسلم مرة فكبر، ثم ذكر أنه جنب، فانصرف فاغتسل، ثم جاء فاستأنف بهم الصلاة، وجاء مرة أخرى: فلما وقف ليكبر ذكر أنه جنب قبل أن يكبر، فذهب فاغتسل، ثم رجع فأقام بهم الصلاة، من غير أن يكون بين الخبرين تضاد ولا تهاتر

قال: وقول أبي بكرة: فصلى بهم، أراد بدأ بتكبير محدث، لا أنه رجع فبنى على صلاته؛ إذ محال أن يذهب صلى الله عليه وسلم ليغتسل ويبقى الناس كلهم قياما على حالتهم من غير إمام إلى أن يرجع.

[ ص: 610 ] سادسها:

يستفاد من رواية الإيماء والإشارة; أن الإمام إذا طرأ له ما يمنعه من التمادي استخلف بالإشارة لا بالكلام، وهو أحد القولين لأصحاب مالك، كما حكاه القرطبي، وجواز البناء في الحدث، وهو قول أبي حنيفة، لكن إنما يتم ذلك إذا ثبت فعلا أنه لم يكبر حين رجوعه، بل الذي في الصحيحين أنه كبر بعدما اغتسل عند رجوعه.

قال القرطبي: والمشكل على هذه الرواية إنما هو وقوع العمل الكثير وانتظارهم له هذا الزمان الطويل بعد أن كبروا.

قال: وإنما قلنا: إنهم كبروا; لأن العادة جارية بأن تكبير المأموم يقع عقب تكبير إمامه، ولا يؤخر عن ذلك إلا القليل من أهل الغلو والوسوسة. ولما رأى مالك هذا الحديث مخالفا لأصل الصلاة قال: إنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وروى عنه بعض أصحابنا أن هذا العمل من قبل اليسير، فيجوز مثله. وقال ابن نافع: إن المأموم إذا كان في الصلاة فأشار إليه إمامه بالمكث، فإنه يجب عليه انتظاره حتى يأتي فيتم بهم؛ أخذا بهذا الحديث.

قال: والصحيح من حديث أبي هريرة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبل أن يكبر وقبل أن يدخل في الصلاة، وعلى هذا فلا إشكال في الحديث، وأقصى ما فيه أن يقال: لم أشار إليهم ولم يتكلم؟ ولم انتظروه قياما؟

والجواب أنه لا نسلم أنه لم يتكلم، بل قد جاء في هذه الرواية أنه [ ص: 611 ] قال لهم: "مكانكم" وفي أخرى: أنه أومأ إليهم. فيجمع بينهما بأنه جمع بين القول والإشارة; تأكيدا لملازمة القيام، أو روى الراوي أحدهما بالمعنى.

وملازمتهم القيام امتثال لأمره، وأمرهم بذلك؛ ليشعر بسرعة رجوعه حتى لا يتفرقوا ولا يزيلوا ما كانوا شرعوا فيه من القيام للقربة، ولما رجع بنى على الإقامة الأولى، أو استأنف إقامة أخرى لم يصح فيه نقل.

والظاهر أنه لو وقعت إقامة أخرى لنقلت، وحينئذ يحتج به من يرى أن التفريق بين الإقامة والصلاة لا يقطع الإقامة وإن طال.

سابعها:

فيه جواز النسيان في العبادات على الأنبياء، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: "إني لأنسى-أو أنسى- لأسن".

ثامنها:

فيه -كما قال ابن بطال- حجة لمالك وأبي حنيفة أن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام، وهو قول عامة الفقهاء.

قال: والشافعي أجاز تكبير المأموم قبل إمامه، أي: فيما إذا أحرم

منفردا، ثم نوى الاقتداء في أثناء صلاة; لأنه روى حديث أبي هريرة على ما رواه مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عطاء بن يسار [ ص: 612 ] أنه صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم بيده أن امكثوا، فلما قدم كبر.

والشافعي لا يقول بالمرسل، ومالك الذي رواه لم يعمل به; لأنه صح عنده أنه لم يكبر.

وزعم ابن حبيب أن هذا خاص به صلى الله عليه وسلم، ولعله أمرهم بنقض إحرامهم الأول، وابتدأ الإحرام بعد إحرامه الثاني، وهكذا فسره مطرف وابن الماجشون وغيرهما، وهو قول مالك أيضا.

تاسعها:

زعم بعض التابعين أن الجنب إذا نسي فدخل المسجد وذكر أنه جنب يتيمم ثم يخرج، وهو قول الثوري وإسحاق.

والحديث يرد عليهما، وكذا قول أبي حنيفة في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء، فإنه يتيمم ويدخل المسجد فيستقي، ثم يخرج الماء من المسجد، والحديث يدل على خلاف قوله; لأنه لما لم يلزمه التيمم للخروج.

وكذا من اضطر إلى المرور فيه جنبا لا يحتاج إلى التيمم; لأن الحديث فيه الخروج لا الدخول، وفي "نوادر ابن دريد" عن بعض أصحابه فيما حكاه ابن التين: من نام في المسجد ثم احتلم ينبغي أن يتيمم لخروجه، وهذا الحديث يرد عليه.

[ ص: 613 ] وقد اختلف العلماء في مرور الجنب في المسجد، فرخص فيه جماعة من الصحابة: علي وابن مسعود وابن عباس، وقال جابر: كان أحدنا يمر في المسجد وهو جنب.

وممن روي عنه إجازة دخوله عابر سبيل ابن المسيب وعطاء والحسن وسعيد بن جبير، وهو قول الشافعي، ورخصت طائفة للجنب أن يدخل المسجد ويقعد فيه، قال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتبون في المسجد وهم جنب.

وروى سعيد بن منصور في "سننه" بسند جيد عن عطاء: رأيت رجالا من الصحابة يجلسون في المسجد وعليهم الجنابة إذا توضئوا للصلاة.

وكان أحمد بن حنبل يقول: يجلس الجنب فيه ويمر فيه إذا توضأ، ذكره ابن المنذر، وقال مالك والكوفيون: لا يدخل فيه الجنب [إلا] عابر سبيل.

وروي عن ابن مسعود أيضا أنه كره ذلك للجنب، وقال المزني وداود: يجوز له المكث فيه مطلقا، فالمسلم لا ينجس، واعتبروه بالمشرك.

[ ص: 614 ] وفي الصحيح: "إن حيضتك ليست في يدك"، وحديث الوليدة التي كان لها حفش في المسجد، وحديث تمريض سعد فيه، وسيلان دمه فيه. وحديث وفد ثقيف من "صحيح ابن خزيمة"، وإنزالهم المسجد، وكان أهل المسجد وغيرهم يبيتون في المسجد.

واحتج من أباح العبور بقوله تعالى: ولا جنبا إلا عابري سبيل تفسيرها [النساء: 43] أي: لا تقربوا مواضعها.

ووردت أحاديث تمنع الجنب منه، وكلها متكلم فيها. وأجاب من منع: بأن المراد بالآية نفس الصلاة، وحملها على مكانها مجازا، وحملها على عمومها، أي: لا تقربوا الصلاة ولا مكانها على هذه الحال، إلا أن تكونوا مسافرين فتيمموا واقربوا ذلك وصلوا.

وقد نقل الرازي عن ابن عمر وابن عباس أن المراد بعابر السبيل: المسافر يعدم الماء، يتيمم ويصلي، والتيمم لا يرفع الجنابة، فأبيح لهم الصلاة به؛ تخفيفا.

قال ابن بطال: ويمكن أن يستدل من هذه الآية لقول الثوري [ ص: 615 ] وإسحاق السالف، وذلك أن المسافر إذا عدم الماء منع دخول المسجد والصلاة فيه، إلا بالتيمم؛ وذلك لضرورة وأنه لا يقدر على ماء، فكذلك الذي يجنب في المسجد لا يخرج إلا بعد التيمم; لأنه مضطر لا ماء معه، فأشبه المسافر العابر سبيل المذكور في الآية لولا ما يعارضه من حديث أبي هريرة المفسر لمعنى الآية لجواز خروجه من المسجد دون تيمم، ولا قياس لأحد مع مجيء السنن، وإنما يفزع إلى القياس عند عدمها.

عاشرها:

فيه طهارة الماء المستعمل; لأنه خرج ورأسه يقطر. وفي رواية أخرى: ينطف، وهي بمعناها.

التالي السابق


الخدمات العلمية