التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2973 3142 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلا من المشركين علا رجلا من المسلمين، فاستدرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه". فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله

[ ص: 508 ] سلبه". فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال الثالثة مثله، فقال رجل: صدق يا رسول الله، وسلبه عندي فأرضه عني. فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه: لاها الله إذا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يعطيك سلبه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "صدق". فأعطاه فبعت الدرع، فابتعت به مخرفا في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.
[انظر: 2100 - مسلم: 1751 - فتح: 6 \ 247]


وذكر فيه حديث عبد الرحمن بن عوف، في قتل الغلامين من الأنصار أبا جهل وفي آخره: سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. وكانا معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح.

وفي حديث أبي قتادة في أخذه سلب المشرك.

والحديثان في مسلم أيضا، والأول يأتي في المغازي، وفي فضل من شهد بدرا والثاني سلف في البيوع وفي بعض النسخ في آخر حديث عبد الرحمن بن عوف: قال محمد: سمع يوسف صالحا، يعني: سمع يوسف بن الماجشون صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - الراوي - عن أبيه عن جده، ويشبه أن يكون منقطعا فيما بينهما.

والبخاري قال فيه: حدثنا مسدد، ثنا يوسف بن الماجشون، عن صالح،... إلى آخره بالعنعنة، يوضحه رواية البزار له عن محمد بن

[ ص: 509 ] عبد الملك القرشي،
وعلي بن مسلم قالا: ثنا يوسف بن أبي سلمة الماجشون، ثنا عبد الواحد بن أبي عون حدثني صالح بن إبراهيم به ثم قال: الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.

وعبد الواحد بن أبي عون (رجل من المشهورين ثقة).

قلت: ويجوز أن يكون سمعه عن صالح، ومرة من صالح، ويؤيده: أن عفان بن مسلم لما رواه عن يوسف قال: أنا صالح.

قلت: وصالح هذا كنيته أبو عمران، مات بالمدينة في ولاية إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بالمدينة في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان إبراهيم خاله.

وابن الماجشون: أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة دينار.

ويقال: ميمون مولى لآل المنكدر بن عبد الله بن الخدير التيمي.

والماجشون: هو يعقوب، وهو بالفارسية: الورد، وقيل: كان من أصبهان، نزل المدينة فكان يلقى الناس فيقول: شوني شوني، فلقب بالماجشون.

[ ص: 510 ] وفي حديث أبي قتادة : ابن أفلح، وهو عمر بن كثير أخو ( محمد وعبد الرحمن )، ابني (أفلح) مولى آل أبي أيوب، أصيب كثير يوم الحرة.

وفيه أيضا: أبو محمد، واسمه نافع .

ووقع في حديث أبي قتادة في غزوة حنين من حديث الليث، عن يحيى بن سعيد : كلا والله لا يعطيه أصيبغ من قريش ويدع أسدا من أسد الله... الحديث.

إذا تقرر ذلك فقد اختلف العلماء في السلب، هل يخمس؟ فقال الشافعي في مشهور قوليه: كل شيء من الغنيمة يخمس إلا السلب فإنه لا يخمس، وهو قول أحمد وابن جرير وجماعة من أهل الحديث.

وعن مالك: أن الإمام مخير فيه إن شاء خمسه على الاجتهاد - كما فعل عمر في سلب البراء بن مالك - وإن شاء لم يخمسه، واختاره القاضي إسماعيل بن إسحاق.

وفيه قول ثالث: أنها تخمس إذا كثرت الأسلاب، قاله عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهويه.

[ ص: 511 ] وقول رابع: أنه يخمس، قاله مكحول والثوري وحكي عن مالك أيضا والأوزاعي وهو قول ابن عباس . قال الزهري عن القاسم بن محمد عنه: السلب من النفل والنفل يخمس. احتج من رأى تخميسها بقوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء الآية. [الأنفال: 41] ولم يستثن سلبا ولا غيره.

وحجة الأول حديثا الباب، فإنه ليس في واحد منهما تخميس الأسلاب، وعموم: ("من قتل قتيلا فله سلبه")، فملكه السلب، ولم يستثن شيئا منه، وإلى هذا ذهب البخاري .

وصح في "سنن أبي داود" من حديث عوف بن مالك وخالد بن الوليد، أنه - عليه السلام - قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" من طريق عوف.

وحجة الثالث ما رواه سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزأرة فقتله، فقوم سلبه ثلاثين ألفا، فلما صلينا الصبح غدا علينا عمر بن الخطاب، فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس الأسلاب، وإن سلب البراء بلغ مالا ولا أرانا إلا خامسيه، فقدمناه ثلاثين ألفا، فدفعنا إلى عمر ستة آلاف، فكان أول سلب خمس في الإسلام.

فدل فعل عمر - رضي الله عنه - أن لهم أن يخمسوا إذا رأى الإمام ذلك.

[ ص: 512 ] فصل:

واختلف العلماء في حكم السلب: فقال مالك: لا يستحقه القاتل إلا أن يرى ذلك الإمام بحضرة القتال، فينادي به ليحرص الناس على القتال، ويجعله مخصوصا لإنسان إذا كان جهده، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وحملوا الحديث على هذا، وجعلوا هذا إطلاقا منه، وليس بفتوى، وإخبارا عاما.

واحتج مالك بأنه - عليه السلام - إنما قال: "من قتل قتيلا فله سلبه" بعد أن برد القتال يوم حنين، ولم يحفظ ذلك عنه في غير يوم حنين، ولا بلغني ذلك عن الخليفتين، فليس السلب للقاتل إلا أن يقول ذلك الإمام، وإلا فالسلب غنيمة وحكمه حكم الغنائم؛ لأن الأخماس الأربعة للغانمين والنفل زيادة على الواجب، فلا تكون تلك الزيادة من الواجب بل من غيره وهو الخمس.

وعن مالك: يكره أن يقول الإمام قبل القتال: من قتل قتيلا فله سلبه؛ لئلا يفسد نيات المجاهدين، حكاه القرطبي .

قالوا: وإنما قال - عليه السلام - هذا القول بعد أن برد القتال.

وقال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور: السلب للقاتل على كل حال وإن لم يقله الإمام؛ لأنها قضية قضى بها الشارع في مواطن شتى فلا يحتاج إلى إذن الإمام فيها، وقد أعطى الشارع سلب أبي جهل يوم بدر لمعاذ بن عمرو، فثبت أن ذلك قبل يوم حنين، خلاف قول مالك.

[ ص: 513 ] واحتج أصحابنا بحديث معاذ بن عمرو أنه - عليه السلام - كان أعطاه السلب؛ لأنه كان أثخنه، ومعاذ ابن عفراء أجاز عليه.

قالوا: وعندنا أنه إذا أثخن واحد بالضرب وذبح آخر كان السلب للأول، ونظره - عليه السلام - لسيفهما، واستدلاله منهما على أيهما قتله دليل يقويه، فإن من أثخن له مزية في القتل.

وموضع الاستدلال منه أنه رأى في سيفيهما مبلغ الدم من جانبي السيفين ومقدار عمق دخولهما في جسم أبي جهل، ولذلك سألهما: (هل مسحاهما؛ ليعتبر) مقدار ولوجهما في جسمه.

وقوله: ("كلاكما قتله") وإن كان الواحد المثخن ليطيب نفس الآخر ولا يكسره.

واحتج المالكيون والعراقيون في أن السلب لا يجب للقاتل بقوله لهما: "كلاكما قتله" فلو كان مستحقا بالقتل لجعله بينهما لاشتراكهما فيه، فلما قال ذلك وقضى به لأحدهما دون الآخر، دل ذلك على ما قلناه، ألا ترى أن الإمام لو قال: من قتل قتيلا فله سلبه، فقتل رجلان قتيلا، أن سلبه لهما نصفين، وأنه ليس للإمام أن يحرمه أحدهما ويدفعه إلى الآخر؛ لأن كل واحد منهما له فيه من الحق مثل ما لصاحبه، وهما أولى به من الإمام، فلما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سلبأبي جهل أن يعطيه لأحدهما دل على أنه كان أولى به منهما؛ لأنه لم يكن يومئذ من قتل قتيلا فله سلبه، قاله الطحاوي .

[ ص: 514 ] وقال ابن القصار : لما خص به - عليه السلام - أحدهما علم أنه غير مستحق إلا بعطية الإمام؛ لأن إعطاء الإمام عندنا من الخمس فيكون معنى قوله: "من قتل قتيلا فله سلبه" يعني: من الخمس لا من مال الغانمين.

واحتج أصحابنا فقالوا: إنما أعطى السلب لأحدهما وإن كان قال: "كلاكما قتله" لأنه استطاب نفس صاحبه، ولم ينقل ذلك. ويشهد لصحة هذا ما ثبت عنه - عليه السلام - أنه جعل السلب للقاتل يوم بدر وغيره.

روي ذلك من حديث عبد الرحمن بن عوف، وعوف بن مالك، وأبي قتادة، وابن عباس، قالوا: لأنه محال أن يقول: "كلاكما قتله"، ويقول: "من قتل قتيلا فله سلبه"، ثم يعطيه لأحدهما إلا عن إذن صاحبه، كما فعل في غنائم هوازن. وبهذا التأويل يجمع بين الأحاديث.

قالوا: وحديث أبي قتادة يدل أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس؛ لأن إعطاءه له قبل القسمة؛ لأنه نفله حين برد القتال، ولم يقسم الغنيمة إلا بعد أيام كثيرة بالجعرانة، فأجابهم أصحاب مالك والكوفيون، وقالوا: هذا حجة لنا؛ لأنه إنما قال ذلك في حديث أبي قتادة بعد تقضي الحرب، وقد حيزت الغنائم. وهذه حالة قد سبق فيها مقدار حق الغانمين، وهو الأربعة الأخماس على ما أوجبها الله تبارك وتعالى لهم، فينبغي أن يكون من الخمس.

وإذا تقرر أنه ابتدأ فأعطى القاتل السلب بعد أن قال: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود فيكم" علم أن عطية ذلك وغيره من الخمس المضاف إليه، ولا يكون الخمس إلا بعد حصول الأربعة الأخماس للغانمين، وما رأى الإمام أن يعطيه من أبلى، واجتهد في نكاية العدو فهو ابتداء عطية منه ينبغي ألا يكون من حقوق الغانمين،

[ ص: 515 ] وأن يكون مما إليه صرفه على وجه الاجتهاد وهو الخمس، كما ينفل من الخمس لا من حقوق الغانمين.

وقال القرطبي : الحديث أدل دليل على صحة مذهب مالك وأبي حنيفة .

وزعم من خالفنا أن هذا (الحديث) منسوخ مما قاله يوم (حنين)، وهو فاسد لوجهين: الأول: أن الجمع بينهما ممكن فلا نسخ. الثاني: روى أهل السير وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: "من قتل قتيلا فله سلبه" كما قال يوم حنين، وغايته أن يكون من باب تخصيص العموم.

فصل:

واختلفوا في الرجل يدعي أنه قتل (قتيلا) بعينه، ويدعي سلبه، فقالت طائفة: لابد من البينة، فإن جاء بواحد حلف معه وأخذه، واحتجوا بحديث أبي قتادة، وبأنه حق يستحق مثله بشاهد ويمين، وهو قول الليث والشافعي وجماعة أهل الحديث

وقال الأوزاعي : لا يحتاج إليها ويعطى بقوله.

وقال ابن القصار وغيره: إنه - عليه السلام - شرط البينة، وأعطى أبا قتادة سلبه بدونها، وذلك بشهادة رجل واحد دون يمين، فعلم أنه لم يعطه؛ لأنه استحقه بالقتل؛ لأن المغانم له أن يعطي منها من شاء ما شاء، ويمنع من شاء، قال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه [الحشر: 7].

[ ص: 516 ] والمغانم خلاف الحقوق التي لا تستحق إلا بإقرار أو شاهدين، وأجاب أصحابنا بأنه - عليه السلام - لم يعطه أبا قتادة إلا بالبينة؛ لأنه أقر له به من كان حازه لنفسه في القتال (فصدق أبا) قتادة. وقال الصديق ما قال وأضاف السلب إليه، فحصل شاهدان له، وأيضا فإن كل من في يده شيء فإقراره به لغيره يقوم مقام البينة.

فصل:

في حديث أبي قتادة من الفقه جواز كلام الوزير ورد سائل الأمير قبل أن يعلم جواب الأمير كما فعل أبو بكر حين قال: (لاها الله).

فصل:

قوله: (لاها الله إذا)، كذا الرواية بالتنوين. قال الخطابي : والصواب فيه: لاها الله ذا من غير ألف قبل الذال، ومعناه: لا والله، يجعلون الهاء مكان الواو، يعني: والله لا يكون ذا.

وقال المازني: معناه: لاها الله ذا يميني أو ذا قسمي.

قال أبو زيد: ذا زائدة، وفي (ها) لغتان: المد والقصر قالوا: ويلزم الجزم بعدها، وتلزم اللام بعدها كما تلزم بعد الواو، قالوا: ولا يجوز الجمع بينهما، فلا يقال: لاها والله.

وقال ثابت في "غريب الحديث": قال أبو عثمان المازني: من قال: لاها الله إذا فقد أخطأ، إنما هو: لاها الله ذا، أي: ذا يميني أو ذا قسمي.

[ ص: 517 ] وقال الداودي : معناه: لا والله، أو لا بالله، إن رفع الاسم.

فرع:

(لاها الله) عندنا كناية، إن نوى بها اليمين كانت يمينا وإلا فلا، وظاهر الحديث دال على أنها يمين.

فصل:

المخرف بكسر الميم: البستان، سمي مخرفا لما يخترف فيه من ثمار نخيله، وأصله: الزنبيل الذي يخترف فيه والخارف: اللاقط والحافظ للنخل.

قال أبو حنيفة اللغوي: إذا اشترى الرجل نخلتين أو ثلاثا إلى العشر يأكلهن، قيل: قد اشترى مخرفا جيدا. والخرائف: النخل التي تخترفن. واحدها خروفة، وخريفة.

وقال ابن فارس : المخرف بفتح الميم: جماعة النخل.

قال الجوهري: بفتح الراء. وأنكر ابن قتيبة على أبي عبيد أن يكون المخرف: التمر، وإنما هي النخل، والتمر الخروف.

وروي: مخرافا، ومعنى (تأثلته): جمعته إليه، أو اتخذته أصل مال، وأصل كل شيء أثلته.

فصل:

في حديث عبد الرحمن بن عوف: (تمنيت أن أكون بين أصلح منهما). فيه أن الكهل أصبر في الحروب، وفي بعض النسخ: أضلع،

[ ص: 518 ] بالضاد بدل: أصلح، ورجحها ابن بطال فقال: هكذا روى مسدد عن ابن الماجشون بالصاد والحاء، وروى الثانية إبراهيم بن حمزة فيما رواه الطحاوي عن ابن أبي داود عنه، وموسى بن إسماعيل فيما رواه ابن سنجر عنه، وصفان فيما رواه ابن أبي شيبة عنه عن ابن الماجشون، وهو أشبه بالمعنى. ورواية ثلاثة حفاظ أولى من رواية واحد خالفهم. وقال القرطبي : الذي في مسلم : (أضلع)، ووقع في بعض رواياته: (أصلح) والأول: الصواب، ومعناه من الضلاعة وهي القوة، وكأنه استضعفهما لصغر أسنانهما.

وقوله: (لا يفارق سوادي سواده)، يعني: شخصي شخصه. وأصله: أن الشخص يرى على البعد أسود.

وقوله: (حتى يموت الأعجل منا)، أي: الأقرب أجلا، وهو كلام مستعمل يفهم منه أن يلازمه ولا يتركه إلى وقوع الموت بأحدهما، وصدور هذا الكلام في حال الغضب والانزعاج، يدل على صحة العقل الوافر والنظر في العواقب، فإن مقتضى الغضب أن يقول: حتى أقتله، لكن العاقبة مجهولة.

وفيه: أن اليمين لفعل الخير.

[ ص: 519 ] ومعنى: (فلم أنشب): لم ألبث، ولم أشتغل بشيء، وهو من نشبت بالشيء: إذا دخلت فيه وتعلقت به.

وقوله: (يجول): هو بالجيم، وفي مسلم : يزول، بمعناه. أي: يضطرب في المواضع ولا يستقر على حال. وفي رواية ابن ماهان كما في البخاري . ومعنى (ابتدرا): استبقا.

وفيه: بشرى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل عدو الله.

وقوله: ("أيكما قتله؟ ") فيه سؤاله عن قاتله، وتداعيا قتله على ما خيل إليهما.

وفي مسلم : ضربه ابنا عفراء حتى برك. بالكاف، أي: سقط على الأرض.

وفي أخرى: حتى برد، بالدال، أي: مات. ونظره إلى سيفيهما يحتمل أن يكون عنده في ذلك علم. أو يكون الملك أخبره عند نظره.

وقال هنا: ("وسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح") وفي غير هذا الموضع: فنفلهما سلبه. وقيل: إنما نفله لأحدهما؛ لأنه رأى ذلك، وقيل: كان أكثر قتله من فعل معاذ بن عمرو المذكور.

وفي مسلم : أن ابني عفراء ضرباه حتى برد. وكذا في البخاري في باب: قتل أبي جهل، وادعى القرطبي أنه وهم، التبس على بعض الرواة معاذ بن الجموح بمعاذ بن عفراء ومعوذ أخيه عند السلوب عند

[ ص: 520 ] ذكر عمرو والد معاذ بن عمرو بن الجموح. وقال أبو الفرج: ابن الجموح ليس من ولد عفراء، ومعاذ بن عفراء ممن باشر قتل أبي جهل، فلعل بعض إخوته حضره أو أعمامه، أو يكون الحديث: ابنا عفراء فغلط الراوي فقال: ابن عفراء.

قال أبو عمر: أصح من هذا حديث أنس بن مالك : أن ابني عفراء قتلاه. وعن ابن التين : يحتمل أن يكونا أخوين لأم، أو يجوز أن يكون بينهما رضاع.

وقال الداودي : ابنا عفراء: سهل وسهيل، ويقال: معوذ ومعاذ.

وفي السيرة: ضرب معاذ بن عمرو بن الجموح أبا جهل ثم ضربه وهو عقير معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق، فمر به ابن مسعود حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلتمس في القتلى، فعلى هذا يصح قول من قال: ابنا عفراء معاذ ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وعفراء أمه ابنة عبيد بن ثعلبة النجارية، عرف بها بنوها. وذكر أبو عمر: أن معوذا قتل ببدر وكذا أخوه عوف.

وذكر الواقدي : أن معاذا أخاها شارك في قتل أبي جهل، وتوفي أيام صفين، وقد أسلفناه أن بعضهم أجاب: بأنه استطاب نفس أحدهما، وكيف يستطيب نفس هذا بإفساد الآخر. وعند بعضهم أنه رأى بسيف أحدهما من الأثر ما لم ير على الآخر، وفيه نظر.

[ ص: 521 ] وروى الحاكم في "إكليله" من حديث الشعبي عن عبد الرحمن بن عوف: وحمل رجل كان مع أبي جهل على ابن عفراء فقتله، فحمل ابن عفراء الثاني على الذي قتل أخاه فقتله، ومر ابن مسعود على أبي جهل فقال: الحمد لله الذي أخزاك وأعز الإسلام، فقال أبو جهل: تشتمني يا رويعي هذيل؟ فقال: نعم والله وأقتلك. فحذفه أبو جهل بسيفه وقال: دونك هذا. فأخذه عبد الله فضربه حتى قتله، وقال: يا رسول الله، قتلت أبا جهل فقال: "آلله الذي لا إله غيره؟ " فحلف له، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده، ثم انطلق معه حتى أراه إياه فقام عنده وقال: "الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله" ثلاث مرات.

فائدة: لم يجرد قرشي يوم بدر غير أبي جهل، جرده ابن مسعود، ذكره الواقدي في "مغازيه".

وفي "مغازي موسى بن عقبة" عن ابن شهاب : أن ابن مسعود وجد أبا جهل جالسا لا يتحرك ولا يتكلم، فسلبه درعه، فإذا في بدنه نكتة سوداء فحل بسيفه البيضة وهو لا يتكلم، فاخترط سيفه، يعني: سيف أبي جهل فضرب به عنقه، ثم سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين احتمل رأسه إليه عن تلك النكتة. فقال: "قتلته الملائكة، وتلك آثار ضربهم إياه".

فصل:

في أبي داود: أن ابن مسعود لما أجهز على أبي جهل نفله رسول الله سيفه. ولما ذكر البيهقي هذا الحديث في باب السلب للقاتل.

[ ص: 522 ] قال: الاحتجاج به في هذه المسألة غير جيد؛ لأنا أسلفنا كيفية الغنيمة يوم بدر حتى نزلت: يسألونك عن الأنفال [الأنفال: 1]، وإنما الحجة في إعطائه - عليه السلام - للقاتل السلب بعد وقعة بدر.

وذلك بين في حديث أبي قتادة، عن مسروق - فيما حكاه يونس عن أبي العميس - قال: أراني القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق سيف ابن مسعود، وقال: هذا سيف أبي جهل، أخذه حين قتله، فإذا سيف عريض قصير فيه قبائع فضة وحلق فضة.

فرع:

قال القرطبي : إذا التقى الزحفان فلا سلب له، إنما النفل قبل أو بعد ونحوه.

قال نافع والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأبو بكر بن أبي مريم والشافعيون. وقال أحمد: السلب للقاتل على كل حال.

قلت: وروى الواقدي من حديث عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي فروة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عامر بن عثمان السلمي، عن جابر بن عبد الله قال: أخبرني عبد الرحمن بن عوف (أن رسول - صلى الله عليه وسلم - سأل) عكرمة بن أبي جهل قال: "من قتل أباك؟ " قال: الذي قطعت يده، فدفع رسول - صلى الله عليه وسلم - سيفه لمعاذ بن عمرو بن الجموح فهو عند آله.

[ ص: 523 ] فرع:

الأصح: أن القاتل لو كان ممن رضخ له (ولا سهم له) كالمرأة والصبي والعبد يستحق السلب لا الذمي. وقال مالك: لا يستحقه إلا المقاتل، فإن قتل امرأة أو صبيا أو شيخا فانيا أو ضعيفا مهينا ونحوه فلا يستحق سلبه.

قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافا.

فصل:

وفي قوله: "كلاكما قتله" دلالة على أن السلب لو كان مستحقا بالقتل لكان يجعله بينهما لأنهما اشتركا في قتله، ولا ينزعه من أحدهما، فلما قال: "كلاكما قتله" ثم قضى بالسلب لأحدهما دون الآخر، دل على وجود أمر آخر مرجح، وأن المستحق له هو المثخن، أو أن الإمام كان لم يناد به قبل، على من يقول به. وإن قتله اثنان فأثخناه فاستحقاه، وسيأتي أن أبا جهل قال: هل فوق رجل قتلتموه، أي: لا عار علي من قتلكم إياي.

وفي مسلم : لو غير أكار قتلني، يعرض بابني عفراء؛ لأنهما من الأنصار أصحاب الزرع والنخل، يعني: لو كان قاتلي غير فلاح، وهو الأكار، كان أحب إلي وأعظم لشأني، ولم يكن علي نقص، وسيأتي إيضاح ذلك في غزوة بدر.

[ ص: 524 ] فصل:

قوله في حديث أبي قتادة : (كانت للمسلمين جولة). هو بفتح الجيم أي: خفة ذهبوا فيها، يقال: جال واجتال: إذا ذهب وجاء، ويعني به: انهزام من انهزم من المسلمين يوم حنين، وعبارة ابن التين، أي: اختلطوا وتزحزحوا عن صفوفهم وهو بمعناه.

وقوله: (علا رجلا)، أي: ظهر عليه، وأشرف على قتله، أو صرعه، وجلس عليه ليقتله. وقال ابن التين : قيل: أشرف عليه، وقيل: صرعه. يقال: علاه في المكان يعلوه، في المكان يعلى. وحبل العاتق: بين العنق والكاهل. وقيل: هو حبل الوريد، والوريد: عرق بين الحلقوم والعلباوين والعاتق يذكر ويؤنث.

وقوله: (فضمني ضمة وجدت فيها ريح الموت)، أي: ضمني ضمة شديدة أشرفت بسببها على الموت، وذلك أن من قرب من الشيء وجد ريحه، ويحتمل أنه أراد شدة كشدة الموت.

فصل:

وقوله: ("له عليه بينة") قد سلف الكلام عليه، قال ابن قدامة: ويحتمل أن يقبل شاهد بغير يمين؛ لظاهر الحديث، وهو أنه - عليه السلام - قبل من شهد لأبي قتادة من غير يمين، قال: ويجوز أن نسلب القتلى ونتركهم عراة. قاله الأوزاعي، وكرهه الثوري وابن المنذر .

فصل:

وقوله: (لا يعمد): ضبطوه بالياء والنون، وكذا قوله: (فيعطيك): بالياء والنون.

[ ص: 525 ] فصل:

كلام أبي بكر في حديث أبي قتادة لم يكن لأحد فعله بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره على كثرة المفتين في زمنه: فمنهم باقي الخلفاء الأربعة، وعبد الرحمن، وابن أم عبد، وعمار، وأبي بن كعب، ومعاذ، وحذيفة، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وسلمان، وأبو موسى الأشعري.

فصل:

وأما رواية الليث السالفة في حديث أبي قتادة : (كلا والله لا نعطيه أصيبغ من قريش). أصيبغ: بالصاد المهملة، والغين المعجمة. قيل: معناه: أسيود كأنه عيره بلونه.

وقيل: بالضاد المعجمة والعين المهملة كأنه تصغير: ضبع على غير قياس؛ تحقيرا له، وهو أشبه بسياق الكلام؛ إذ تصغيره: ضبيع.

ويمكن أن يكون معناه - والله أعلم - ما ذكره الخطابي : أن عتبة بن ربيعة نهى يوم بدر عن القتال، وقال: يا قوم اعصبوها برأسي، وقولوا: جبن عتبة، وقد تعلمون أني لست بأجبنكم، فقال أبو جهل: والله لو غيرك قالها لأعضبته، قد ملئ جوفك رعبا. فقال عتبة: إياي تعني يا مصفر استه، ستعلم أينا اليوم أجبن. في حديث طويل ذكره في السيرة.

قال الخطابي : قيل: إنه نسبة إلى التوضيع والتأنيث. وقيل: لم يرد به ذلك، وإنما هي كلمة تقال للرجل المترف الذي يؤثر الراحة ويميل إلى التنعيم.

[ ص: 526 ] قال ابن بطال : وقال لي بعض أهل اللغة: إنما سمي أصيبغ؛ لأنه كانت له شامة يصبغها. وقال ابن التين في غزوة حنين: هو وصف بالمهانة والضعف، والأصيبغ: نوع من الطير. ويجوز أن يكون شبهه بنبات ضعيف يقال له: الصبغاء، وذلك أول ما يطلع من الأرض، فيكون ما يلي الشمس منه أصفر.

فصل:

قوله في حديث أبي قتادة : (حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه).

ظاهره: أنهما لم يتبارزا، وإنما التقيا بالتقاء الجيش، ولو كانا تبارزا، فاختلف أصحاب مالك في جواز دفع المشرك إذا خيف أن يقتل المسلم، فقال أشهب وسحنون : يدفع عنه، ولا يقتل الكافر؛ لأن مبارزته عهد، فلا يقتله غير من بارزه. وقال سحنون مرة: لا يعان بوجه، وقاله ابن القاسم في "كتاب محمد".

فرع:

إذا قتل المشرك غير من بارزه، فقال ابن القاسم : عليه ديته. وخالف أشهب.

فرع:

بارز ثلاثة ثلاثة، فلا بأس لمن قتل صاحبه من المسلمين أن يعين صاحبه في القتل والدفع كما فعل علي وحمزة في معونة عبيدة بن الحارث يوم بدر. ووجهه: أنهم رضوا بمعونته، فهم كجماعة الجيش تلقى جماعة جيش آخر فلا بأس بمعاونتهم.

[ ص: 527 ] فصل:

قوله: (ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) يحتمل أن يريد: فرجعوا من جولتهم، ويحتمل أن يريد: رجعوا بعد الفراغ من القتال. وإليه ذهب مالك أن قوله: "من قتل قتيلا" إلى آخره، كان بعد أن برد القتال ويبينه قوله: (وجلس) كما سلف. ولا يجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد فراغ القتال.

فصل:

تكراره - عليه السلام - قوله: "من قتل قتيلا" إلى آخره ثلاثا. يحتمل أن يكون قالها في ثلاث ساعات متفرقة، لكي يسمع من يأتي بعد مقالته الأولى.

التالي السابق


الخدمات العلمية