التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2986 3155 - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الشيباني قال: سمعت ابن أبي أوفى - رضي الله عنهما - يقول: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اكفئوا القدور، فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا. قال عبد الله: فقلنا: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنها لم تخمس. قال: وقال آخرون حرمها البتة. وسألت سعيد بن جبير فقال: حرمها البتة. [4220، 4222، 4224، 5526 - مسلم: 1937 - فتح: 6 \ 255]


ذكر فيه حديث حميد بن هلال عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فاستحييت منه.

وحديث نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه.

وحديث الشيباني عن ابن أبي أوفى قال: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اكفئوا القدور، ولا تطعموا [ ص: 548 ] من لحوم الحمر شيئا. قال عبد الله: فقلنا: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنها لم تخمس. قال: وقال آخرون: حرمها البتة. وسألت سعيد بن جبير، فقال: حرمها البتة.

الشرح:

حديث عبد الله بن مغفل : بضم الميم وفتح الغين والفاء المشددة، أخرجه مسلم أيضا ويأتي في المغازي والذبائح، وفي رواية لأبي داود الطيالسي في "مسنده": فاستحييت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هو لك".

قال ابن القطان : إسنادها صحيح، وحديث ابن عمر من أفراده، ولأبي داود، وابن حبان في "صحيحه" بلفظ: إن جيشا غنموا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما وعسلا، فلم يؤخذ منهم الخمس.

وللإسماعيلي من حديث جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: أصبنا يوم اليرموك طعاما وأغناما فلم تقسم، ولأبي نعيم من حديث يونس بن محمد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا نصيب في مغازينا العنب والعسل والفواكه.

ولأبي داود من حديث عبد الله بن أبي المجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قلت: هل كنتم تخمسون - يعني: الطعام - في عهد رسول

[ ص: 549 ] الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينصرف،
قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، وقال مرة: على شرط الشيخين. وللطحاوي من حديث أبي يوسف، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي المجالد عن ابن أبي أوفى قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر يأتي أحدنا إلى الطعام من الغنيمة فيأخذ منه حاجته.

قال أبو جعفر: وقد خالف هذا حديث آخر رواه ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي مرزوق، عن حنش، عن رويفع بن ثابت، يرفعه: أنه قال يوم خيبر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم يركبها حتى إذا أعجفها ردها إلى المغانم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من المغانم حتى إذا أخلقه رده في المغانم".

وقال أبو يوسف: من فعل ذلك وهو عنه غني يقي بذلك ثوبه أو دابته أو بخيانة، وأما المحتاج فلا بأس له أن يأخذ من ذلك ما احتاج إليه، وقاله أيضا محمد.

وحديث ابن أبي أوفى يأتي في المغازي، وأخرجه مسلم أيضا.

[ ص: 550 ] فصل:

عبد الله بن مغفل: اختلف في كنيته على أقوال: أبو سعيد، أو أبو زياد، أو أبو عبد الرحمن، مات بالبصرة في ولاية عبيد الله بن زياد في آخر خلافة معاوية.

وحميد بن هلال: الراوي عنه عدوي بصري، كنيته: أبو نصر، مات بها في ولاية خالد بن عبد الله.

والشيباني اسمه: سليمان بن أبي سليمان فيروز أبو إسحاق الكوفي مولى بني شيبان بن ثعلبة، مات سنة تسع وثلاثين ومائة، وقيل: سنة تسع وعشرين ومائة وقال ابن سعد: لسنتين خلتا من خلافة أبي جعفر، وقيل: سنة ثمان وثلاثين، وقيل: بعد الأربعين، وهو من شيبان الأكبر.

وأبو عمرو الشيباني من شيبان الأصغر بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة، واسمه: سعد بن إياس بن عمرو بن الحارث بن سدوس بن سنان بن عم بن قتادة بن دعامة بن عزير بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن سدوس، سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يرعى إبلا لأهله بكاظمة.

قال إسماعيل بن خالد : رأيت أبا عمرو الشيباني، وقد أتى عليه تسع عشرة ومائة سنة، سمع عليا وغيره.

فصل:

جمهور العلماء متفقون على أنه لا بأس بأكل الطعام والعلف في دار الحرب بغير إذن الإمام، والإجماع قائم - كما حكاه القاضي - على إباحة أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب، فيأكلون منه قدر

[ ص: 551 ] حاجتهم، والجمهور - كما قلناه - أنه لا يحتاج في ذلك إلى إذن الإمام.

ولا بأس بذبح البقر والغنم بعد أن يقع في المقاسم، هذا قول الليث والأربعة والأوزاعي وإسحاق .

قال مالك: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يقسم بينهم أضر ذلك بهم. قال: وإنما يأكلون ذلك على وجه المعروف والحاجة ولا يدخر أحد منهم شيئا يرجع به إلى أهله.

وقد احتج الفقهاء في هذا بحديث ابن مغفل في قصة الجراب التي ذكرها البخاري، وقالوا: ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه فعله؟ وفي بعض طرقه: فالتفت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبسم إلي.

ورواية أبي داود التي أسلفناها: "هو لك" أصرح من ذلك، وشذ الزهري في هذا الباب، فقال: لا يجوز أخذ الطعام في دار الحرب إلا بإذن الإمام.

وأظنه رأى أن الخلفاء والأمراء كانوا يأذنون لهم في ذلك، وهذا لا حجة فيه؛ لأن ما أذنوا فيه مرة علمت به الإباحة؛ لأنهم لا يأذنون في استباحة غير المباح.

وحديث ابن عمر في الباب هو كالإجماع من الصحابة، وحديث ابن أبي أوفى حجة فيه أيضا، فإن العادة كانت عندهم في المغازي إطلاق الأيدي في المطاعم، ولولا ذلك ما تقدموا إلى شيء إلا بأمر الشارع.

[ ص: 552 ] وكره جمهور العلماء أن يخرج بشيء من الطعام إلى دار الإسلام إذا كانت له قيمة، وكان للناس فيه رغبة، وحكموا له بحكم الغنيمة، فإن أخرجه رده في المقاسم إن أمكنه، وإلا باعه وتصدق بثمنه.

قال مالك: وإن كان يسيرا أكله. وقال الأوزاعي : ما أخرجه إلى دار الإسلام فهو له أيضا.

قال ابن المنذر : وليس لأحد أن ينال من مال العدو أيضا سوى الطعام للأكل، والعلف للدواب، وكل مختلف فيه بعد ذلك من ثمن طعام أو فضلة طعام يقدم به إلى أهله، أو جراب، أو حبل، أو غير ذلك مردود إلى قوله - عليه السلام - : "أدوا الخيط والمخيط" وإلى قوله: "شراك أو شراكان من نار".

وذهب قوم منهم الأوزاعي : أنه لا بأس أن يأخذ الرجل السلاح من الغنيمة فيقاتل به في معمعة القتال ما كان إلى ذلك محتاجا، ولا ينتظر برده الفرار من الحرب، فيعرضه للهلاك وانكسار الثمن في طول مكثه في دار الحرب، واحتجوا بحديث رويفع السالف.

وخالفهم آخرون منهم أبو حنيفة فقالوا: لا بأس أن يأخذ السلاح من الغنيمة إذا احتاج إليه بغير إذن الإمام، فيقاتل به حتى يفرغ من الحرب، ثم يرده في المغنم.

وقال أبو يوسف: سكوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له معنى لا يفهمه إلا من

[ ص: 553 ] أعانه الله عليه وقد أسلفناه عنه، وحديث ابن أبي أوفى يبين أنه إذا كان الطعام لا بأس بأخذه واستهلاكه لحاجة المسلمين كذلك لا (بأس) بأخذ الدواب والثياب واستعمالها للحاجة إليها، حتى يكون الذي أريد من حديث ابن أبي أوفى غير الذي أريد من حديث رويفع حتى لا (يتضادا)، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. قال الطحاوي : وبه نأخذ.

فرع:

يجوز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم، واستعمال سلاحهم في الحرب بالإجماع، ولا يفتقر إلى إذن الإمام خلافا للأوزاعي.

فائدة:

الجراب: المزود ونحوه، قال الداودي : قال القزاز : هو بفتح الجيم: وعاء من جلود، وبكسرها جراب الركبة، وهو ما حولها من أعلاها إلى أسفلها.

وفي "غريب المدونة": الجراب، بفتح الجيم وكسرها، وقال صاحب "المنتهى": الجراب بالكسر والعامة تفتحه، والجمع أجربة وجرب بإسكان الراء وفتحها.

وقال في "المحكم": هو الوعاء، وقيل: المزود، ومما نسمعه على الألسنة: لا تفتح الجراب، ولا تكسر القصعة.

[ ص: 554 ] فائدة:

معنى (نزوت): وثبت، ومعناه: أن رامي الجراب لم يرمه ليكون له أو رماه لعبد الله بن مغفل.

وقوله: (فاستحييت) أي: أن يرى رسول الله منه ذلك.

فصل:

تقدم علة تحريم الحمر في الجهاد في التكبير وغيره، وقول مالك في تحريمها: حمله البغاددة على أنه تحريم كراهة، وقيل: حرمها خشية أن تفنى؛ أو لأنها لم تخمس؛ أو لأنها من حوالي القرية، وأجاز ابن عباس - ونقله السهيلي عن عائشة أيضا وطائفة من التابعين - أكلها، محتجا بقوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية. [الأنعام: 145]، وهي مكية وحديث النهي بخيبر.

وجاء: "اكفئوا القدور" وفي لفظ: إنها رجس، وفي كتاب "الأطعمة" لعثمان بن سعيد الدارمي بإسناده عن سعيد بن جبير، قال: إنما نهي عنها؛ لأنها كانت تأكل العذرة، وعن ابن أبي أوفى : لما نادى المنادي ثلاثا، قلنا: حرمها تحريم ماذا؟ فتحدثنا بيننا: فقلنا: حرمها البتة، أو حرمها من أجل أنها لم تخمس.

وروى ابن شاهين في "ناسخه" - استدلالا على نسخ التحريم - بإسناد جيد عن البراء بن عازب، قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر

[ ص: 555 ] أن نلقي الحمر الأهلية نيئة ونضيجة،
ثم أمرنا بها بعد ذلك،
وصح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إنما كرهت إبقاء على الظهر.

ولأبي داود من حديث غالب بن أبجر: أنه قال: يا رسول الله، لم يبق في مالي شيء أطعم أهلي إلا حمر لي، فقال: "أطعم أهلك من سمين مالك" إسناده متماسك، وله متابعات، والأحاديث الثابتة ترده.

قال الخطابي : حديث غالب مختلف في إسناده، ولا يثبت، والنهي ثابت، وقال عبد الحق: ليس هو بمتصل الإسناد، وقال السهيلي : ضعيفه، ولا يعارض بمثله حديث النهي.

فصل:

في حديث ابن مغفل جواز أكل شحوم ذبيحة اليهود المحرمة عليهم، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: هي مكروهة، وقال أشهب وابن القاسم، وبعض أصحاب أحمد: هي محرمة، وحكي أيضا عن مالك.

آخر الخمس ولله الحمد.

التالي السابق


الخدمات العلمية