التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2989 3160 - فقال النعمان: ربما أشهدك الله مثلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يندمك ولم يخزك، ولكني شهدت القتال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات. [فتح: 6 \ 258 ]


ثم ساق فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: حديث جابر بن زيد، وعمرو بن أوس؛ حدثهما بجالة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف، فأتى كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر. وهو من أفراده.

ثانيها: حديث عمرو بن عوف الأنصاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها... الحديث.

ويأتي في المغازي، أخرجه مسلم في آخر كتابه.

[ ص: 562 ] ثالثها: حديث المعتمر بن سليمان، عن سعيد بن عبيد الله الثقفي، عن بكر وزياد، عن جبير بن حية - بالحاء المهملة ثم مثناة تحت - قال: بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين، فأسلم الهرمزان... الحديث، وقال بكر وزياد جميعا: عن جبير بن حية قال: فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن... وفيه: فأمرنا نبينا رسول ربنا - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية، ثم ساق بقيته، ويأتي في التوحيد مختصرا.

الشرح:

(الجزية): مشتقة من الجزاء على الأمان لهم وتقريرهم، فتجزئ عنه، وعبارة "المحكم": الجزية: خراج الأرض، والجمع: جزى، وقال أبو علي: هما واحد كالمعي والمعى لواحد الأمعاء، والجمع: جزاء، وجزية الذمي منه.

وأما (الموادعة): فإن أراد بها عقد الذمة لهم بأخذ الجزية، والإعفاء بعد ذلك من القتل، فهذا حكم الجزية، والموادعة غيرها، وإن أراد ترك قتلاهم مع إمكانه قبل الظفر بهم، وهو معنى الموادعة في أحاديث الباب ما يطابقها، إلا ما ذكره من تأخر النعمان بن مقرن عن مقاتلة العدو وانتظاره زوال الشمس وهبوب الريح، فهي موادعة في هذا الزمان مع الإمكان للمصلحة، نبه على ذلك ابن المنير، وذكر البخاري العجم بعد المجوس من باب ذكر الخاص بعد العام.

[ ص: 563 ] ومعنى قوله: لا يؤمنون بالله [التوبة: 29] يعني: إيمان الموحدين؛ لأن أهل الكتاب يؤمنون بالله، ويقولون: له ولد، ويؤمنون بالآخرة، ويقولون: لا أكل فيها ولا شرب.

وقال الداودي : ولا باليوم الآخر : القيامة.

وقوله: ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله [التوبة: 29] أي: يقرون بتحريم ذلك، ويعتقدونه.

ولا يدينون دين الحق [التوبة: 29]. قال أبو عبيدة في "مجازه": ولا يطيعون طاعة الحق، يقال: دان فلان لفلان: أطاعه.

وقوله: ( من الذين أوتوا الكتاب ) [التوبة: 29] هم اليهود والنصارى، واختلف في المجوس: هل لهم كتاب؟

والجمهور: لا. وقيل: نعم، فبدلوه فأصبحوا وقد أسري به، وإذا قلنا: لا؛ فالجماعة على أنها تؤخذ منهم الجزية إلا عند (المالكية).

قال مالك في رواية ابن القاسم : تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس عبدة الأوثان، وكل المشركين غير المرتدين وقريش، وفي "مختصر ابن أبي زيد": ونقاتل جميع الأمم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية.

وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنها تقبل من أهل الكتاب، ومن سائر كفار العجم، ولا تقبل من مشركي العرب إلا [ ص: 564 ] الإسلام أو السيف، وقال الشافعي : لا تقبل إلا من أهل الكتاب، عربا كانوا أو عجما، وزعم أن المجوس كانوا أهل كتاب؛ فلذلك أخذت منهم، وروي ذلك عن علي، وقال الطحاوي في حديث عمرو بن عوف: إنه - عليه السلام - بعث أبا عبيدة إلى أهل البحرين يأتي بجزيتها؛ لأنهم كانوا مجوسا من الفرس، ولم يكونوا من العرب؛ ولذلك قبلت منهم، وأقرهم على مجوسيتهم.

واحتج الشافعي بآية الباب: من الذين أوتوا الكتاب [التوبة: 29]، (قال): فدل هذا الخطاب أن من لم يؤت الكتاب ليس بمنزلتهم بدليل قوله - عليه السلام - : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" ولا يجوز أن يكون أهل الكتاب داخلين تحت هذه الجملة؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله؛ لإخباره - عليه السلام - أن هذه الكلمة يحقن بها الدم والمال، فدل أن بغيرها لا يقع الحقن.

وحجة مالك حديث الباب أنه أخذها من مجوس هجر، وقال في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"؛ فقام الإجماع على أن المراد بقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" يعني في أخذ الجزية منهم لا في غيرها، فهو وإن خرج مخرج العموم فالمراد الخصوص. وقد ورد في رواية: "غير آكلي ذبائحهم، وناكحي نسائهم".

[ ص: 565 ] وأيضا فإنه - عليه السلام - كان يبعث أمراء السرايا فيقول لهم: "إذا لقيتم العدو فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالجزية، فإن أعطوا وإلا قاتلوهم" ولم ينص على مشرك دون مشرك بل عم جميعهم؛ لأن الكفر يجمعهم، ولما جاز أن يسترقهم جاز أن يأخذ منهم الجزية؛ عكسه المرتد لما لم يجز أن يسترق لم يجز أخذ الجزية منه. وليس مما احتج به من الآية دليل أن الجزية لا يجوز أخذها من غير أهل الكتاب؛ لأن الله لم ينه أن يأخذ من غيرهم، وللشارع أن يزيد في البيان ويفرض ما ليس بموجود ذكره في الكتاب، ألا ترى أن الله تعالى حرم الأمهات ومن ذكر معهن في الآية، وحرم الشارع الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، وليس ذلك بخلاف الكتاب، فكذلك أخذه الجزية من جميع المجوس هو ثابت بالسنة الثابتة. وهذا ينتظم الرد على أبي حنيفة في قوله: إن مجوس العرب لا يجوز أخذ الجزية منهم، وتؤخذ من سائر المجوس غيرهم؛ لإطلاقه - عليه السلام - على أخذها من جميع المجوس؛ لقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ومن ادعى الخصوص في هذا وأن المراد به بعضهم. فعليه الدليل.

قال ابن بطال : وأما قول الشافعي : إن المجوس كانوا أهل كتاب فرفع (كتابهم) غير صحيح؛ لأنه لو كان كذلك لكان لنا أن نأكل ذبائحهم وننكح نساءهم، وهذا لا يقول به أحد.

وقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" يدل أنه لا كتاب لهم، وأيضا فإنهم لو كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لوجب أن يصيروا بمنزلة من لا كتاب له؛ لأن الشيء إذا كان لمعنى فارتفع المعنى ارتفع الحكم.

[ ص: 566 ] قلت: الشافعي لم يستبد به، بل هو مروي، وإلزامه الذبيحة والنكاح لا يرد؛ لأنه ورد استثناؤه كما سلف، وإن نقل عن ابن الجوزي أنه منكر، ثم لهم شبهة وهي تقتضي الحقن بخلاف النكاح، فإنه يحتاط له.

وقوله: وهذا لا يقوله أحد: غلط منه، فقد ذكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا بأس أن يتسرى بالجارية المجوسية. وعن عطاء وطاوس وعمرو بن دينار: أنهم كانوا لا يرون بأسا أن يتسرى الرجل بالمجوسية. وذكر ابن قدامة وغيره عن أبي ثور أنه كان يرى بحل نسائهم وذبائحهم.

وذكر ابن عبد البر عن سعيد بن المسيب: أنه لم ير بذبح المجوسي لشاة المسلم إذا أمره المسلم بذبحها بأسا.

فصل:

وقوله تعالى: عن يد وهم صاغرون [التوبة: 29] قال ابن عباس : يمشون بها مكبين.

وقال سليمان: مذمومين. وقال قتادة: عن قهر وذلة.

وقيل: معنى: عن يد : عن إنعام منكم عليهم. وقيل: لا يبعثون بها كفعل الجبابرة.

وقال سعيد بن جبير: يدفعها قائما وآخذها جالس.

[ ص: 567 ] وقوله: ( وهم صاغرون أذلاء)، هو قول أبي عبيدة: أن الصاغر: الذليل الحقير. وقال غيره: هو الذي يتلتل فيعنف به، وقيل: هم بإعطائها أذلة صاغرون.

فصل:

تعليق ابن عيينة رواه في "تفسيره"، وهو صواب حسن، وهو فعل عمر، وزاد على أهل الشام أقساطا من زيت وخل وضيافة ثلاثة أيام. ورأى مالك أن يسقط عنهم الضيافة، ولا يزاد على فعل عمر.

واختلف العلماء في مقدار الجزية؛ فقال مالك: أكثرها أربعة دنانير على أهل الذهب، وعلى أهل الورق أربعون درهما ولا حد لأقلها.

وأخذ مالك في ذلك مما رواه عن نافع، عن أسلم أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وأهل الورق أربعين درهما. وقال الكوفيون: يؤخذ من الغني ثمانية وأربعون درهما، ومن الوسط أربعة وعشرون، ومن الفقير اثنا عشر، وهو قول أحمد، وأخذوا في ذلك مما رواه إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر: أنه بعث عثمان بن حنيف، فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر.

[ ص: 568 ] قال أحمد: ويزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام. وعنه: أقلها كالشافعي، وأكثرها غير مقدر، يجوز الزيادة، ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقص منه. وروي: أنه زاد، جعلها خمسين، وهو اختيار أبي بكر من أصحاب أحمد.

وقال الشافعي : الجزية دينار في حق كل أحد. ودليله حديث معاذ: قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر - ثياب تكون باليمن - رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الأئمة: الترمذي، والحاكم، وابن عبد البر .

وقال الثوري : وقد اختلفت الروايات في هذا عن عمر، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء إذا كانوا أهل ذمة، وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير.

وقال عبد الوهاب بن نصر: في أمره - عليه السلام - أن يأخذ من كل حالم دينارا، يحتمل أن يكونوا لم يقدروا على أكثر منه.

وقد روي عن مالك: أنه لا يزاد على الأربعين درهما، ولا بأس بالنقصان منها إذا لم يطق.

قال مالك: وأرى أن ينفق من بيت المال على كل من احتاج من أهل الذمة إن لم يكن لهم حرفة ولا قوة على نفقة نفسه، وينفق على يتاماهم حتى يبلغوا.

[ ص: 569 ] قال ابن وهب : وحدثني مطرف، عن مالك قال: بلغني أن عمر بن الخطاب كان ينفق على رجل من أهل الذمة حين كبر وضعف عن العمل.

فرع:

والخراج يجب عند أبي حنيفة أول الحول، خلافا للشافعي وأحمد فقالا: بآخره.

فرع:

لا يؤخذ من صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا فقير غير معتمل، خلافا للشافعي فيه، ولا يؤخذ من شيخ فان ولا زمن ولا أعمى.

وفي قول الشافعي : يؤخذ منهم، ولا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلما، ولا جزية على أهل الصوامع من أهل الرهبان، خلافا للشافعي.

وروي عن عمر بن عبد العزيز: أنه فرض على رهبان الديارات على كل واحد دينارين.

فصل:

وحديث بجالة من أفراد البخاري كما سلف.

وبجالة: هو ابن عبدة، تميمي بصري.

وجزء - بالجيم المفتوحة، والزاي - عامل عمر على الأهواز، انفرد به البخاري، كان حيا بمكة سنة سبعين، ووالد جزء هو معاوية بن حصين بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن مقاعس، واسمه: الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، عم الأحنف بن قيس.

[ ص: 570 ] قال أبو عمر: لا تصح له صحبة. وقيل: فيه جزي بزاي مكسورة، وسكنها الخطيب.

قال الدارقطني : وأصحاب الحديث يكسرون جيمه.

ووالد بجالة السالف عبدة، بفتح الباء الموحدة، ويقال: ابن عبد، حكاه ابن حبان في "ثقاته". وفي "تاريخ البخاري ": بجالة بن عبد، أو عبد بن بجالة.

فصل:

البخاري روى هذا الحديث عن علي بن عبد الله، ثنا سفيان، سمعت عمر قال: كنت جالسا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فذكره.

ورواه ابن حبان في كتاب "شروط أهل الذمة" من حديث أبي معاوية الضرير، ثنا حجاج عن عمرو بن دينار، عن بجالة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية فجاءنا كتاب عمر انظر أن تأخذ الجزية من المجوس، فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ من المجوس الجزية، ثم ساقه

في حديث ابن عيينة عن عمرو سمع بجالة: جاءنا كتاب عمر: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، وفرقوا بين كل محرم من المجوس، وانههم عن الزمزمة. قال: فقتلنا ثلاثة سواحر، وجعل يفرق بين المرأة وحرمها في كتاب الله - عز وجل - ، وصنع لهم طعاما كثيرا فدعا المجوس، وعرض

[ ص: 571 ] السيف على فخذه فألقوا وقر بغل أو بغلين من ورق، وأكلوا بغير زمزمة.


وذكر الحميدي : أن البرقاني خرجه هكذا في "صحيحه".

ثم روى ابن حبان من حديث بشير بن عمرو، عن بجالة، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر.

قال ابن عباس : أما أنا فتبعت صاحبهم حين دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما خرج قلت له: ما قضى فيكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: شر. قلت: مه. قال: القتل أو الإسلام، فأخذ الناس بقول عبد الرحمن وتركوا قولي.

ثم روى من حديث رجاء: جاء لحماد بن سلمة، عن الأعمش، عن زيد بن وهب قال عبد الرحمن بن عوف: أشهد بالله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول: "إنما المجوس طائفة من أهل الكتاب، فاحملوهم على ما تحملوا أهل الكتاب" ثم روى من حديث فروة بن نوفل عن علي قال: المجوس أهل الكتاب وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزية من مجوس هجر.

وروى ابن عبد البر من حديث الزهري، عن سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر، وأن عمر أخذها من مجوس السواد، وأن عثمان أخذها من البربر، وقال: كذا رواه ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب . وأما مالك ومعمر فجعلاه: عن ابن شهاب، ولم يذكرا سعيدا ورواه (معمر) عن مالك عن الزهري، عن السائب بن يزيد.

[ ص: 572 ] وفي "الموطأ": عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن عمر ذكر المجوس، فقال عبد الرحمن بن عوف... الحديث.

ورواه أبو علي الحنفي عن مالك، فقال: عن أبيه، عن جده؛ وهو منقطع أيضا؛ لأن علي بن حسين لم يلق عمر ولا عبد الرحمن.

وروى عبد بن حميد في "تفسيره" عن علي: كان المجوس أهل كتاب، وكانوا متمسكين به... الحديث.

وقال ابن عبد البر : روي عن علي: أنهم كانوا أهل كتاب، وفيه ضعف؛ لأنه يدور على أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان.

قلت: ليس هو في طريق عبد بن حميد، فإنه رواها عن الحسن الأشيب، ثنا يعقوب بن عبد الله، ثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن عبد الرحمن بن أبزى قال: قال علي... فذكره.

فصل:

في حقيقة المجوس، ذكر أبو عمر في كتاب "القصد والأمم" أنهم من ولد ود بن سام بن نوح، وقال علي بن كيسان: هم من ولد فارس بن عامور بن يافث، قال أبو عمر: وقال ذلك غيره، وهو أصح ما قيل فيهم، وهم ينكرون ذلك ويدفعونه ويزعمون أنهم لا يعرفون نوحا ولا ولده ولا الطوفان، وينسبون ملكهم من جيومرت الأول، وهو عندهم آدم.

[ ص: 573 ] وقد نسبهم قوم من علماء الإسلام والأثر إلى أنهم من ولد سام، وكان فيهم الصابئة، ثم تمجسوا وبنوا بيوت النيران.

وقال المسعودي: فارس أخو بيط ولدا ناسور بن سام بن نوح.

ومنهم من زعم أنهم من ولد هيدرام بن أرفخشذ بن سام؛ لأنه ولد بضعة عشر رجلا، كلهم كان فارسا شجاعا، فسموا الفرس بالفروسية.

وقال آخرون: إنهم من ولد يوان صاحب شعب يوان أحد نزه الدنيا إيران بن ود بن سام.

وعند الرشاطي: فارس الكبرى بن ليومرت.

ويقال: جيومرت. وحابر معرب. وتفسير ليومرت: الحي الناطق الميت، بن أميم بن ود بن سام.

فمن نسب الفرس الأولى إلى سام بهذا نسبها، ومن نسبها جملة إلى يافث قال: هم ولد جيومرت بن يافث.

وذكر صاعد في كتابه: "طبقات الأمم": أن ليومرت هذا يزعم الفرس أنه آدم.

قال: وذكر بعض علماء الأخبار أن الفرس في أول أمرها كانت موحدة على دين نوح إلى أن أتى برداسف المشرقي إلى طهمورت ثالث ملوك العراق بمذهب الصابئة، فقبله منه واقتصر الفرس على الشرع به، فاعتقدوه نحو ألف سنة وثمانمائة سنة إلى أن تمجسوا جميعا، وسببه: أن زرادشت الفارسي ظهر في زمن بشتاسب ملك الفرس، فدعا الناس إلى المجوسية، وتعظيم النار، وسائر الأنوار، والقول بتركيب العالم من النور والظلمة، واعتقاد القدماء الخمسة التي هي عندهم: - الباري تعالى عما يقولون - وإبليس والهيولي [ ص: 574 ] والزمان والمكان، وغير ذلك من البدع، فقبل ذلك بشتاسب وقاتل الفرس عليه حتى انقادوا جميعا إليه، ورفضوا دين الصابئة، واعتقدوا بأن زرادشت نبي مرسل، وذلك قبل ذهاب ملكهم على يد الفاروق بقريب من ألف وثلاثمائة سنة.

وقال إبراهيم بن الفرج في "البغية شرح لحن العامة": الفارسي منسوب إلى فارس، وهي أرض وقد بنتها السوس، وهي أمة كانت بعد النبط.

وزعم بعض العلماء أنهم من ولد يوسف بن يعقوب بن إبراهيم. وذكر ابن عبدون في كتابه "الزهر": أنهم من ولد حارس بن ناسور بن سام، وأنه ولد له بضعة عشر رجلا كلهم كان فارسا شجاعا؛ فسموا الفرس بذلك.

قال: وزعم قوم أنهم من ولد طوط من ابنتيه دريني وراعوشا.

وزعم بعضهم أنهم من ولد إيران بن أفريدون.

قال: ولا خلاف بين الفرس أنهم من ولد ليومرت، وهذا هو المشهور، وإليه يرجع بنسبها، كما يرجع بالمروانية إلى مروان، والعباسية إلى العباس.

وعند ابن حزم: والمجوس لا يعرفون موسى ولا عيسى ولا أحدا من أنبياء بني إسرائيل، ولا محمدا، ولا يقرون لأحد منهم بنبوة.

فصل:

وأما قول عمر - رضي الله عنه - : فرقوا بين كل محرم من المجوس، فيحتمل وجهين:

أحدهما: أن الله تعالى لم يأمر بأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا ينكحون ذوات المحارم، فإذا استعمل فيهم قوله - عليه السلام - :

[ ص: 575 ] "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" احتمل ألا يقبل منهم الجزية إلا أن يسن بهم سنة أهل الكتاب في مناكحتهم أيضا.

ثانيهما: أن يكون عمر غلب على المجوس عنوة، ثم أبقاهم في أموالهم عبيدا يعملون بها والأرض للمسلمين، ثم رأى أن يفرق بين ذوات المحارم من عبيده الذين استبقاهم على حكمه، واستحياهم باجتهاده، وأن ذلك كان منعقدا في أصل استحيائهم واستبقائهم، ويكون اجتهاده في تفريقه بين ذوات محارمهم مستنبطا من قوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" أي: ما كان أهل الكتاب يحملون عليه في حريمهم ومناكحتهم، فاحملوا عليه المجوس.

وقال الداودي لما ذكر قول عمر هذا: لم يأخذ به مالك.

وقال الخطابي : أراد عمر أنهم يمنعون من إظهار هذا للمسلمين وإفشائه في مشاهدهم، وأن يفشوها كما يفشي المسلمون أنكحتهم إذا عقدوها، قال: وهذا كما شرط على النصارى أن لا يظهروا صليبهم؛ لئلا يفتن بهم ضعفة المسلمين، ولا يكشفون عن شيء مما يستخلونه من باطن كفر، وفساد مذهب.

فصل:

في الحديث: أنه قد يغيب عن العالم المبرز بعض العلم.

وفيه: قبول خبر الواحد والعمل به. وفي حديث عمرو بن عوف: أن طلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه على طالبه؛ لقوله: (أجل يا رسول الله).

[ ص: 576 ] وفيه: التبشير بالإسهام لهم؛ لقوله: "أبشروا وأملوا"، ومعنى ذلك: أملوا أكثر ما تطلبون من العطاء؛ لأنهم لم يعرفوا مقدار ما قدم به أبو عبيدة، فبشرهم بأكثر مما يظنون.

وفيه: علامة النبوة؛ لأنه أخبرهم مما يخشى عليهم مما يفتح عليهم من الدنيا.

وفيه: أن المنافسة في الاستكثار من المال سبيل من سبل الهلاك في الدنيا. والأمل: الرجاء، يقال: أملته فهو مأمول.

وقوله: ("فتنافسوها") يريد: المشاححة والتنازع.

فائدة:

عمرو بن عوف هذا بدري كما ذكره البخاري، وكذا ذكره ابن إسحاق وابن سعد فيمن شهد بدرا من المهاجرين، وهو مولى سهيل بن عمرو، مات في خلافة عمر - رضي الله عنه - .

فائدة:

فيه أيضا: التحذير من فتنة الدنيا، فإن من طلب منها فوق حاجته لم يجده، ومن قنع حصل له ما يطلب، وما الدنيا إلا كما قيل:


إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على حال بواديها



فصل:

في إسناد حديث جبير بن حية: المعتمر بن سليمان، قيل: إنه وهم، وصوابه المعتمر بن الرق؛ لأن عبد الله بن جعفر راويه عنه لا يروي عن المعتمر بن سليمان، كذا رأيته بخط الدمياطي .

وزياد بن جبير اتفقا عليه، وانفرد البخاري بأبيه جبير بن حية،

[ ص: 577 ] وسعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية بن مسعود الثقفي البصري.

وقوله فيه: (بعث عمر الناس في أفناء الأنصار) قال ابن بطال : هم طوائف لم يكونوا من فخذ واحد.

فصل:

وأما مشاورة عمر الهرمزان فبعد أن أسلم، وكان رجلا بصيرا بالحرب له دربة ورأي في المملكة وتدبيرها؛ فلذلك شاوره عمر، مع أن عمر كان يعرف مما أشار عليه، وثقته من نفسه أنه يشعر له إن غشه.

وفيه: أن المشاورة سنة لا يستغني عنها أحد، ولو استغنى عنها كان الشارع أغنى الناس عنها؛ لأن جبريل كان يأتيه بصواب الرأي من السماء، ومع ذلك فإن الله أمره بها حيث قال: وشاورهم في الأمر [آل عمران: 159] ولو لم يكن الأمر فيه إلا استئلاف النفوس وإظهار الموافقة والثقة بالمستشار، ولعلهم أن يبدوا من الرأي ما لم يكن ظهر، وأما العزيمة والعمل فإلى الإمام، لا يشركه فيه أحد؛ لقوله تعالى: فإذا عزمت فتوكل على الله [آل عمران: 159] فجعل العزيمة إليه، وجعله مشاركا في الرأي لغيره.

وفيه: جواز مشاورة غير الوزير إذا كان ممن يظن عنده الرأي والمعرفة.

وفيه: ضرب الأمثال.

وفيه: الرأي في الحرب القصد إلى أعظم أهل الخلاف شوكة، كما أشار الهرمزان؛ لأنه إذا استؤصل الأقوى، سلم الأضعف.

[ ص: 578 ] وفيه: كلام الوزير دون رأي الإمام، كما كلم عمر يوم حنين لأبي سفيان، وكما كلم الصديق في قصة سلاح قتيل أبي قتادة .

وقوله: (وكنا في شقاء شديد) ففيه: وصف أنفسهم بالصبر والثبات على مضض العيش.

وقوله: (نعرف أباه وأمه) أراد به شرفه ونسبه؛ لأن الأنبياء لا تبعث إلا من أشراف قومهم، فوصف شرف الطرفين من الأب والأم.

وقول النعمان للمغيرة: (ربما أشهدك الله مثلها) يريد: ربما قد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما سلف مثل هذه الأحوال الشديدة، وشهدت معه القتال فلم يندمك ما لقيت معه من الشدة، ولم يحزنك لو قتلت معه؛ لعلمك بما تصير إليه من النعيم وثواب الشهادة.

تقول: إنك كنت في ذلك على الخير والإصابة؛ يغبطه ما تقدم من كلامه، ويعتذر إليه فيما يريد أن يقول بما شاهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويذكر أن النعمان قاتلهم، وكثرت جراحات المسلمين وأصيب منهم، فبات المسلمون يتضررون بما نالهم من الجراح، وبات الكفار على الخمر، وقد أحضروا أموالا كثيرة ونعما، فقام النعمان خطيبا حين أصبح فقال: أيها الناس، إن من ترون قد حضروا عليهم أموالا ونعمة، وأنتم قد حضرتم الإسلام وصرتم بابا للمسلمين، فإن أصبتم دخل عليهم من الباب، فالله في الإسلام.

[ ص: 579 ] فقام رجل منهم فقال: قد سمعنا مقالتك أيها الأمير، ولسنا برادين عليك ولا مخالفين لك، فانظر أي طرفي النهار؟ قال النعمان: إذا هبت الأرواح ونزل النصر من السماء وأنا هاز للراية، إذا رأيتم ذلك فأسبغوا الوضوء وصلوا الظهر ثم أنا هازها، فإذا رأيتم ذلك فليسرج كل أحد منكم فرسه ويستوي عليه، ولينظر مواجهة عدوه، ثم إذا هززتها الثالثة، فاحملوا على بركة الله، فلما فاء الفيء صنع ما قال ثم حمل في الثالثة وبيده الراية، فجعل يطعن بها، وتقاتلوا فكان أول قتيل، فمر به أخوه فألقى عليه ثوبه؛ لئلا يعرف فيفشل الناس، وأخذ الراية وحمل، ففتح الله للمسلمين.

ويذكر عن ابن المسيب أنه قال: إني لأذكر يوما نعى لنا عمر النعمان بن مقرن على المنبر.

وقوله: (ولكني شهدت القتال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) هو ابتداء كلام واستئناف قصة أخرى: أعلمهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يقاتل أول النهار، ترك حتى تهب الرياح، يعني: رياح النصر، وتحضر أوقات الصلوات، كما سلف في بابه؛ ولأن أفضل الأوقات أوقات الصلوات، وفيها الأذان، وقد جاء في الحديث أن "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد".

و (الأرواح) جمع ريح؛ لأن أصله: روح وسكنت الواو، وانكسر ما قبلها فقلبت ياء، والجمع يرد الشيء إلى أصله.

[ ص: 580 ] وقوله أولا: (فأسلم الهرمزان)، وكان أسره أبو موسى الأشعري، كان سيدا فبعث به مع أنس إلى عمر، لما قدم عليه استعجم، فقال له عمر: تكلم. فقال: أكلام حي أم ميت؟ فقال عمر: تكلم فلا بأس - وبدرت الكلمة من عمر من غير تأول - فقال: كنا وإياكم نستعبدكم ونملككم معاشر العرب فأخلى الله بيننا وبينكم، فلما كان الله معكم لم يكن لنا بكم يدان؛ فتغيظ عمر وقال: قاتل الله البراء بن مالك، وهم به؛ فقال له أنس : يا أمير المؤمنين، تركت خلفي شوكة شديدة وعدوا كثيرا، إن قتلته يئس القوم من الحياة، وكان أشد لشوكتهم، وإن استحييته، طمع القوم، فقال: يا ( أنس )، استحيي قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور، فلما خشيت أن يبسط عليه قلت له: لا سبيل لك عليه، فقال: ولم، أعطاك؟، أصبت منه؟ (قلت: لا)، ولكنك قلت له: تكلم فلا بأس. قال: لتأتين بمن يصدق ما تقول أو لا بد من عقوبتك، ولم يحفظ عمر ما قال وكان الزبير قد حضر لمقالته فصدق أنسا، فأسلم الهرمزان.

وكانت الروم قاتلت الفرس في أول الإسلام، فعلم من ذلك الهرمزان ما علم، فضرب له مثلا وهو صحيح، عقله عمر وعمل عليه، وإنما جعل كسرى الرأس؛ لأنه أعظم ملكا وأكثر أتباعا وأوسع بلدا، ومثل بالجناحين، ولم يذكر الرجلين، وأراد بهما من سوى هؤلاء الثلاثة للأمم، ومبادرة المغيرة بالكلام للترجمان، إما أن يكون

[ ص: 581 ] أذن له أمير الجيش النعمان، أو بادره لما عنده من ذلك من العلم، وليطفئ النعمان المقالة ولا يكلف الأمير مخاطبة الترجمان.

وفيه: وصف المغيرة لما كانوا عليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية