التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
3017 3189 - حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا". وقال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه". فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم. قال: "إلا الإذخر". [انظر: 1349 - مسلم: 1353 - فتح: 6 \ 283]


حدثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله.

وعن ثابت، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل غادر لواء يوم القيامة" قال أحدهما: "ينصب" وقال الآخر: "يرى يوم القيامة يعرف به".

[ ص: 663 ] القائل: (وعن ثابت): هو شعبة، وقد اتفقا عليه من حديث شعبة، عن ثابت، عن أنس . ومن حديث الأعمش عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود.

ثم ساق حديث نافع، عن ابن عمر : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لكل غادر لواء ينصب لغدرته". وقد مر.

ثم ساق حديث ابن عباس : "لا هجرة، ولكن جهاد ونية"، بطوله. وقد سلف في الحج.

إذا عرفت ذلك: فالشارع أخبر بأن عقوبة الغادر يوم القيامة أن يرفع له لواء لتعرفه الناس بغدرته فينظرون منه بعين المعصية، وهذه عقوبة من نوع ما، قال تعالى في عقوبة الكذابين على الله: ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم [هود: 18].

فصل:

حديث: "لكل غادر لواء" ذكره البخاري من حديث ثلاثة من الصحابة: عبد الله، وأنس، وابن عمر . وأخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد، وقال: حسن، وابن عساكر من حديث علي مرفوعا: "إن لكل غادر لواء يوم القيامة، ومن نكث بيعته لقي الله - عز وجل - أجذم" فهؤلاء خمسة من الصحابة رووه.

[ ص: 664 ] فصل:

ووجه مطابقة الترجمة للحديث عموم: "لكل غادر لواء" يدخل فيه من غدر من بر أو فاجر.

فالغدر حرام لجميع الناس برهم وفاجرهم؛ لأن الغدر ظلم، وظلم الفاجر حرام كظلم البر التقي.

ووجه مطابقتها حديث ابن عباس أن الشارع نص على أن مكة - شرفها الله - اختصت بالحرمة إلا في الساعة المستثناة، وليس المراد حرمة قتل المؤمن البر فيها، إذ كل (تبعة) كذلك، فالذي اختصت به حرمة قتل الفاجر المستأهل للقتل، فإذا استقر أن الفاجر قد حرم قتله؛ لعهد الله الذي خصها به، فإذا خص أحد فاجرا بعهد في غيرها لزم نفوذ العهد له بثبوت الحرمة في حقه، فيقوى عموم الحديث في الغادر بالبر والفاجر، نبه عليه ابن المنير. وجهه - والله أعلم - أن محارم الله عهوده إلى عباده، فمن انتهك شيئا لم يف مما عاهد الله عليه، ومن لم يف فهو من الغادرين.

وأيضا فالشارع لما فتح مكة من على أهلها كلهم مؤمنهم ومنافقهم، ومعلوم أنه كان فيهم منافقون، ثم أخبر أن مكة حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لا يحل قتال أحد فيها، وإذا كان كذلك فلا يجوز الغدر ببر منهم ولا فاجر، إذ شمل جميعهم أمانه وعفوه عنهم.

فصل:

قال القرطبي : هذا خطاب منه - عليه السلام - للعرب بنحو ما كانت تفعل، وذلك أنهم يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليعظموا [ ص: 665 ] الأول، ويذموا الثاني. قال: وقد شاهدنا هذا عادة مستمرة إلى اليوم قلت: ومنه قول الشاعر:


أسمي ويحك هل سمعت بغدرة نصب اللواء بها لنا في مجمع



فمقتضى هذا الحديث أن الغادر يفعل به ذلك؛ ليشتهر بالخيانة والغدر فيذمه أهل الموقف - كما سلف. ولا يبعد أن يكون الوفي بالعهد يرفع له لواء يعرف به وفاؤه وبره فيمدحه أهل الموقف.

فصل:

اللواء لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب ويكون الناس تبعا له، ذكره النووي.

قال: فمعنى: "لكل غادر لواء" أي: علامة يشتهر بها في الناس؛ لأن موضع اللواء شهرة مكان الرئيس، لكن ذكر الأصبهاني أن عمر (سئل): من أشعر العرب؟ فقال: زهير. فقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء" فقال عمر: اللواء لا يكون (إلا مع الأمير).

[ ص: 666 ] قال: والغادر: هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به. يقال: غدر يغدر؛ بكسر الدال في المضارع.

فصل:

في الحديث بيان تحريم الغدر كما سلف لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير.

وقيل: لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء، كما في الحديث في تعظيم كذب الملوك.

والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر، إما لمن عاهده من المحاربين أو لرعيته إذ لم يقم (عليهم) ولم يحظهم، فمن فعل ذلك فقد غدر بعهده أو يكون نهي للرعية عن الغدر بالإمام.

قال: وقد مال أكثر العلماء إلى أنه لا يقاتل مع الأمير الغادر بخلاف الخائن والفاسق.

وذهب بعضهم إلى الجهاد معه، والقولان في مذهب مالك.

فصل:

دعاء الناس بإمامهم في الموقف، تقدم أظنه في الجنائز. (آخر الجزية والموادعة).

التالي السابق


الخدمات العلمية