التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
3022 3194 - حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي ". [7404، 7422،7453، 7553،7554 - مسلم: 2751 - فتح: 6 \ 287]


[ ص: 11 ] الشرح:

هذا الكتاب وما بعده من ذكر الأنبياء والسير والتفسير إلى النكاح لم أره في كتاب ابن بطال رأسا، وإنما عقب هذا بالعقيقة وما شاكلها.

وما أدري لم فعل ذلك وقد حذف نحو ربع الصحيح.

قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالهين اللين مخففا، وتذم بهما مثقلا. وفي معنى: وهو أهون عليه [الروم: 27] أقوال: أحسنها -وهو قول قتادة- أن معنى أهون هين، ومنه الله أكبر أي: كبير.

وقال ابن عباس: أهون عليه أي: على المخلوق; لأنه ابتدأ جعله نطفة ثم علقة ثم مضغة، والإعادة، يقول له: كن فيكون، فهو أهون على المخلوق، وقال مجاهد وغيره: كل عليه هين، والإعادة أهون عليه أي: أهون عندكم فيما تعرفون على التمثيل وبعده وله المثل الأعلى في قراءة عبد الله: (وهو عليه هين).

وما ذكره في قوله: أفعيينا اعترض ابن التين فقال: الذي قاله أهل اللغة والمفسرون أفعيينا : عييت بالأمر إذا لم أعرف وجهه.

[ ص: 12 ] وقال الزجاج: في هذه الآية الكريمة غير قول -أعني الأولى- فمنها أن الهاء تعود على الخلق.

والمعنى: الإعادة والبعث أهون على الإنسان من إنشائه; لأنه يقاسي في النشء ما لا يقاسي في البعث والإعادة.

وقال أبو عبيدة وكثير من أهل اللغة: إن معناه: وهو هين عليه. أي: كله هين عليه، قال: أهون هنا ليس على بابها، وإنما معناه هين، وهذا سلف.

قال: وأحسن منهما أنه خاطب عباده مما يعقلون، وأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون البعث أسهل وأهون من الابتداء والإنشاء، وجعله مثلا لهم فقال: وله المثل الأعلى [الروم: 27] أي: قوله وهو أهون عليه فضربه لهم مثلا فيما يصعب ويسهل.

وقوله: (اللغوب: النصب) هو: الإعياء، وهذا كذب الله به اليهود لما قالوا: فرغ الله من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت، فأعلم الله أنه لم يمسه تعب.

قال الداودي: و(اللغوب) بالنصب والضم.

قال ابن التين: وما رأيت من ذكر فيه نصب اللام، وإنما اللغوب الأحمق.

[ ص: 13 ] وقوله: ( أطوارا : طورا كذا، وطورا كذا) قال ابن عباس: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، وقاله مجاهد، وقيل: اختلاف المناظر والصحة والسقم، من قولهم: جاز فلان طوره. أي خالف ما يجب أن يستعمله.

وقيل: أصنافا في ألوانكم ولغاتكم، وهو نحو الثاني، والأول أولى; لأن الطور في اللغة المرة، فالمعنى خلقكم مرارا من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة.

ثم ساق البخاري أحاديث أربعة:

أحدها:

حديث عمران بن الحصين قال: جاء نفر من بني تميم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا بني تميم، أبشروا" فقالوا: بشرتنا فأعطنا. فتغير وجهه، فجاءه أهل اليمن، فقال: "يا أهل اليمن، اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم". قالوا: قبلنا. فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث عن بدء الخلق والعرش، فجاء رجل فقال: يا عمران، راحلتك تفلتت. ليتني لم أقم.

ثم رواه من حديث عمران أيضا وقال بعد قوله: "إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قد قبلنا يا رسول الله. قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر. قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض" فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين. فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب، فوالله لوددت أني كنت تركتها.

[ ص: 14 ] الشرح:

هذا الحديث يأتي في المغازي في (...) وفي التوحيد.

وقوله: ("أبشروا") يريد ما يجازى به المسلمون وما تصير إليهم عاقبتهم.

وقوله: ("اقبلوا البشرى") كذا روي عند الجماعة فيما حكاه عياض بباء موحدة ثم شين معجمة، إلا الأصيلي فإنه عنده بياء مثناة تحت ثم سين مهملة، والصواب الأول. وجواب بني تميم يدل عليه. وكان قدوم بني تميم سنة تسع من الهجرة.

والقائل: (فأعطنا) قيل: الأقرع بن حابس، كان فيه بعض أخلاق البادية.

وروي أنه حين رد النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي هوازن قال الأقرع وعيينة: لا يطيب ذلك، وأنهما أخذا حظهما من ذلك، فوقع لأحدهما جمل أجرب، ويقال: إنه كان فيمن نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات.

وفي كتاب المغازي: قال أبو موسى: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة ومعه بلال، فأتاه أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟! فقال له: "أبشر" فقال: أكثرت علي من البشرى [فأقبل] علي وعلى بلال كهيئة الغضبان، فقال: "رد البشرى، فاقبلاها" فقالا: قبلنا.

[ ص: 15 ] وسبب غضبه لعله علم أولئك; لأنهم علقوا آمالهم بعاجل الدنيا دون الآخرة، نبه عليه ابن الجوزي.

والقائل (نسألك عن هذا الأمر): الأشعريون.

وقوله: (كان الله) إلى آخره، قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس على أي شيء كان الماء ولم يخلق سماء ولا أرضا. فقال: على متن الريح. وذلك أن الله أول ما خلق اللوح والقلم والدواة، فقال للقلم: اكتب ما يكون، فكتب ذلك في الذكر، وهو اللوح المحفوظ.

وقيل: أول ما خلق الله القلم. وقيل: الدواة، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم خلق نون وبسط الأرض عليه فمادت، فخلق الجبال.

وقرأ ابن عباس: ن والقلم وما يسطرون [القلم: 1] وكان خلق الأرض في يومين، ثم كان بين الدخان دخان، فخلق منه السماوات السبع في يومين، ثم دحى بعد ذلك الأرض، وأنبت فيها أشجارها، وفجر أنهارها، وقدر معايشها، ووقت أقواتها فمادت، فقالت الملائكة: ما هي مستقرة لأهلها، فأصبحوا وقد أرست عليها الجبال، وكان ذلك كله في يومين، وذلك من قوله تعالى: خلق السماوات والأرض في ستة أيام [يونس: 3] وقوله: قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [فصلت: 9] وقوله: والأرض بعد ذلك دحاها الآية [النازعات: 30].

[ ص: 16 ] وروى الطبري في "تاريخه" عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعا: "أول ما خلق الله تعالى القلم" وعن ابن إسحاق: أول ما خلق الله النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، وجعل النور نهارا أبيض مبصرا.

قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال: القلم، ثم خلق سحابا رقيقا وهو الغمام، ثم العرش. وقيل: خلق الماء قبل العرش.

فصل:

عن المهلب: أن السؤل عن مبادئ الأشياء والبحث عنها جائز شرعا، وللعالم أن يجيب عنها مما يعلم، فإن خشي من السائل اتهام شك أو تقصير فهم فلا يجبه، ولينهه عن ذلك ويزجره.

الحديث الثاني:

قال البخاري: وروى عيسى، عن رقبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا مقاما، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه.

هكذا في النسخ كلها كما قال الجياني.

وعيسى هذا هو ابن موسى البخاري غنجار لحمرة خديه، مات سنة [ ص: 17 ] ست أو سبع وثمانين ومائة، سقط بينه وبين رقبة أبو حمزة السكري محمد بن ميمون عن رقبة بن مصقلة العبدي الكوفي أي: عبد الله، كذا بخط الدمياطي، وهو كما قال.

وقال أبو مسعود الدمشقي: إنما رواه عيسى -يعني: ابن موسى غنجار- يحدث عن أبي حمزة، عن رقبة بن مصقلة.

وفي "مستخرج أبي نعيم": حدثنا أبو إسحاق، حدثنا محمد بن المسيب، حدثنا النضر بن سلمة، ثنا أحمد بن أيوب الضبي، ثنا أبو حمزة، عن رقبة بلفظ: فأخبرنا بأهل الجنة وما يعملون، وبأهل النار وما يعملون.

ثم قال: ذكره البخاري بلا رواية عن أبي حمزة، ولأبي حمزة عن رقبة (نسخة) ولا يعرف لعيسى عن رقبة نفسه شيء، وقد روى إسحاق بن حمزة البخاري، عن غنجاز هذا عن أبي حمزة، عن رقبة بن مصقلة (نسخة).

وقال خلف: قال ابن الفلكي: ينبغي أن يكون بين عيسى ورقبة أبو حمزة.

وقال أبو العباس الطرقي: إنما يروي عيسى عن أبي حمزة، عن رقبة.

وفيه: أعلام نبوته وإخباره المغيبات.

[ ص: 18 ] الحديث الثالث:

حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أراه: "يقول الله: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا. وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني".

وهذا الحديث ذكره في تفسير سورة البقرة أيضا كما ستعلمه، وفي إسناده أبو أحمد واسمه محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأزدي، وقيل: الأسدي الزبيري نسبة إلى جده، مات بالأهواز في جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين، عن سفيان بن سعيد، وهو الثوري.

الحديث الرابع:

عنه أيضا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي".

وفيه: مغيرة بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن خالد بن حزام، كان عالما بالنسب (...) وابنه عبد الرحمن من فقهاء المدينة، وعمه المغيرة بن عبد الله عامل ابن الزبير على اليمن.

قال الخطابي: يريد بقوله: "لما قضى الله الخلق" لما خلقهم. قال تعالى: فقضاهن سبع سماوات [فصلت: 12] أي: خلقهن. وكل صنعة وقعت في شيء على سبيل إتقان وإحكام قضاء.

[ ص: 19 ] وقال ابن عرفة: قضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، وبه سمي القاضي; لأنه إذا حكم فقد فرغ ما بين الخصمين.

وقوله: ("فهو عنده فوق العرش") قيل: معناه دون العرش استعطافا أن يكون شيء من المخلوقات فوق العرش. واحتج قائله بقوله تعالى: بعوضة فما فوقها [البقرة: 26] أي: فما دونها.

والذي قاله المحققون في تأويل الآية قولان: أنه أراد بـ فما فوقها في الصغر; لأن المطلوب هنا والغرض الصغر أي أن فوق تزاد في الكلام وتلغى كقوله: فاضربوا فوق الأعناق [الأنفال: 12] وكقوله: فإن كن نساء فوق اثنتين [النساء: 11].

وأجمعوا أن الاثنتين كافية في ذلك، فلم يك بحرف (فوق) فيه أثر.

وهذا أيضا لا يتوجه في معنى الحديث; لأنك إذا نزعت منه هذا الحرف وألغيته لم يصح معنى الكلام; لأنه لا يجوز أن تقول: فهو عنده العرش، كما لا يصلح أن يقال: فإن كن نساء اثنتين.

والقول فيه -والله أعلم- أنه أراد بالكتاب أحد شيئين: إما اللفظ الذي قضاه وأوجبه كقوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي المجادلة: 21] أي: قضى الله وأوجب. ويكون معنى قوله: "فوق العرش" أي: علم ذلك عند الله فوق العرش لا ينسخ ولا يبدل كقوله: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [طه: 52] وإما أن يراد بالكتاب: [ ص: 20 ] اللوح المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق والخليقة، وذكر آجالهم وأرزاقهم ومآل عواقب أمورهم، ويكون المعنى: فذكره عنده فوق العرش، ويضمر فيه الذكر أو العلم.

وكل ذلك جائز في الكلام على أن العرش مخلوق، ولا يستحيل أن يمسه كتاب مخلوق، فإن الملائكة حملة العرش روي أن العرش على كواهلهم، وليس بمستحيل أن يمسوه إذا حملوه، وإن كان حامل العرش وحامل حملته الرب -جل جلاله- وليس معنى قولهم: الله على العرش أنه ماس له، ولا متحيز في جهة منه، وإنما هو خبر جاء به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف؛ إذ ليس كمثله شيء، نبه على ذلك ابن التين، قال: وإنما اختص هذا بالذكر وإن كان القلم كتب كل شيء لما فيه من الرجاء، فمن علم أنه تقبل هداه دخل في هذا، ومن أبى عاقبه وختم على سمعه وقلبه.

التالي السابق


الخدمات العلمية