التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
3083 3256 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثني مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أهل الجنة يتراءيون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءيون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم". قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: "بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ". 6556 - مسلم: 2831 - فتح: 6 \ 320]


الشرح:

قوله: (أتينا من قبل) صوابه كما قال ابن التين من آتيته: أعطيته، وليس هو من أتيته إذا جئته، وقيل: هو الذي وعدناه في الدنيا.

وما فسر به المتشابه يريد به: أنه يشبه ثمر الدنيا في التسمية ويختلف في المطعم.

قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، وقاله مجاهد وقتادة. وقال الحسن: متشابه أي: خيار لا رذل فيه.

[ ص: 118 ] واختاره ابن كيسان وأكثر أهل اللغة، قال ابن كيسان: كما تقول: تشابهت علي هذه الثياب فما أدري أيها أختار؟ واختار أبو إسحاق الأول.

وما ذكره في الأرائك قال ابن فارس: الأريكة: الحجلة على السرير لا تكون إلا كذا، وقال عن ثعلب: الأريكة لا تكون إلا سريرا منجدا في قبة عليه سوار ومخدة، وقال ابن عزير: (أرائك) أسرة في الحجال، واحدتها: أريكة، وكذلك قال غيره، وأثر مجاهد رواه الطبري في "تفسيره" ثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عنه.

وفي لفظ: (سلسلة الجرية) ومعنى قوله: (حديدة الجرية) سريع جريها، وأنكر بعضهم هذا اللفظ وقيل: اسم العين: سلسبيل، ورد هذا بأنه لو كان كذلك لم ينصرف.

وقال قتادة: سلسلة لهم يصرفونها كيف شاءوا.

وقيل: سلسلة سائغة.

( غول ) قال: إنه وجع بطن، وقال غيره: صداع، وهو قول ابن عباس وقتادة، وقيل: لا تغتال عقولهم فتذهب بها.

وما ذكره في ( ينزفون ) قاله ابن عباس وغيره.

[ ص: 119 ] وقال سعيد بن جبير: لا تنزف عقولهم وقرئ: (ينزفون) بكسر الزاي. وفيه قولان:

أحدها: إنه من أنزف الرجل إذا نفد شرابه.

والثاني: يقال: أنزف إذا سكر، وأما نزف إذا ذهب عقله من السكر مشهور ومسموع.

وأثر ابن عباس في دهاقا رواه الطبري عن أبي كريب، ثنا مروان، ثنا يحيى بن ميسرة، عن مسلم بن نسطاس، قال ابن عباس لغلامه: اسقني دهاقا، قال: فجاء بها الغلام ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدهاق.

وحدثني محمد بن عبيد المحاربي، ثنا موسى بن عمير، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: ( وكأسا دهاقا ) [النبأ: 34] قال: ملأى. قال ابن وهب: يريد الذي يتبع بعضه بعضا.

( وكواعب ) نواهد كما قاله كأنهن اللائي خرج من ثديهن مثل الكعب.

وقوله: (الرحيق: الخمر) هو قول ابن مسعود وابن عباس يشرب بها المقربون [المطففين: 28] صرفا، وتمزج لسائر أهل الجنة، وما ذكره في (ختامه) هو قول مجاهد.

وقال سعيد بن جبير والنخعي: (ختامه): آخر طعمه.

وقال قتادة: عاقبته.

[ ص: 120 ] وما ذكره في قوله: ( نضاختان ) [الرحمن: 66] قيل: بالخير، والمعروف في اللغة أنه بالمعجمة أكثر من المهملة، ولم يسمع منه يفعل.

وما ذكره في موضونة [الواقعة: 15] منسوجة، أي: بالذهب، وقيل: بالجواهر واليواقيت، وقيل: في الكوب غير ما ذكره أنها المستديرة لا عرى لها، وجمع كوب: أكواب، وجمع أكواب: أكاويب.

(والعرب) المحببات لأزواجهن -كما قال- وقال زيد بن أسلم: هن الحسان الكلام، وأثر مجاهد في الروح رواه عبد بن حميد في "تفسيره" حدثنا شبابة، عن ابن أبي نجيح، عنه: فروح وريحان [الواقعة: 89] قال: رزق.

وحدثنا أبو نعيم، عن عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن مجاهد قال: (الروح): الفرح، و(الريحان): الرزق، وقيل: روح طيب ونسيم، وقيل: الاستراحة، ومن قرأ بالضم أراد: الحياة التي لا موت معها; للترجمة. وقوله: (والريحان: الرزق) قال الحسن: ريحاننا هذا، وقال الربيع بن خيثم فروح وريحان هذا عند الموت، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث، وما ذكره في المنضود أنه الموز يريد ما وصف بأنه منضود، وهو الطلح، كذا قال أكثر المفسرين، وروي عن مجاهد: أنهم تعجبوا (من) الطلح، وهو شجر العضاه، فأعلمهم الله أن في الجنة طلحا، وعلى هذا أهل اللغة، ولم يبلغهم ما قاله الصحابة المفسرون: أنه الموز، ومعنى منضود: أن الورق والحمل عمد حتى لا يبرز له ساق.

[ ص: 121 ] وأما (المخضود) فقيل -غير ما ذكره- أنه لا شوك فيه، فإنه خضد شوكه، أي: قطع، يعني: خلقته خلقة المخضود، قاله أبو الأحوص وعكرمة، والأول قول قتادة.

وبخط الدمياطي: خضدت الشجر: قطعت شوكه، قال: والذي قاله أهل التفسير في المخضود، أي: منزوع الشوك أي: خلق كذلك.

وقوله: وفرش مرفوعة [الواقعة: 34] قد فسره، وفي الترمذي، وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية قال: "ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام" وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الخبر مما حكاه القرطبي: الفرش في الدرجات وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض، وقيل: الفرش هنا: النساء المرتفعات الأقدار في حسنهن وجمالهن، والعرب تسمي المرأة فراشا على الاستعارة، قال - عليه السلام -: "الولد للفراش".

وذكر ابن المبارك، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي فذكر حديثا طويلا فيه: "ويعطى ولي الله سريرا طوله [ ص: 122 ] فرسخ في عرض مثل ذلك في غرفة من ياقوتة من أسفلها إلى أعلاها مائة ذراع، على ذلك السرير من الفرش كقدر خمسين غرفة بعضها فوق بعض، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وذلك قوله تعالى: وفرش مرفوعة " وهي من نور وكذلك السرير.

وقوله: ( أفنان : أغصان) كذا قاله عكرمة، أي: ظل الأغصان على الحيطان، وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة، والواحد -على قول عكرمة- فن أي: غصن، وعلى قول الضحاك: ذواتا فنون مما تشتهيه الأنفس.

وما ذكره في تفسير مدهامتان [الرحمن: 64] قول مجاهد، وقال أبو صالح: خضراوان، وقال عطية: كادتا يكونان سوداوين من شدة الري، وهما خضراوان.

وفي بعض النسخ: وجنى الجنتين دان [الرحمن: 54] قال عكرمة: ثمارها دانية لا يردهم عنها بعد ولا شوك.

ثم ذكر البخاري فيه ستة عشر حديثا:

الأول:

حديث نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار" وهذا الحديث سلف في الجنائز.

[ ص: 123 ] وفيه: "يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة" ويأتي في الرقاق، وأخرجه مسلم أيضا، ورواية مالك: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق من شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" ولأبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لما خلق الله -عز وجل- الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها، ولما خلق (الله) النار قال: اذهب فانظر إليها" الحديث.

ولمسلم من حديث أبي سعيد مرفوعا: "اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: يدخلني يا رب" الحديث.

الحديث الثاني:

حدثنا أبو الوليد، ثنا سلم بن زرير، ثنا أبو رجاء، عن عمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء".

هذا الحديث أخرجه في النكاح أيضا عن عثمان (بن) الهيثم، ثنا عوف، عن أبي رجاء ثم قال: تابعه أيوب عن أبي رجاء، قال أبو مسعود الدمشقي: إنما رواه عن أيوب كذلك عبد الوارث، وسائر [ ص: 124 ] أصحاب أيوب يقولون: أيوب، عن أبي رجاء، عن ابن عباس وقد رواه مسلم من حديث الثقفي عن أيوب، عن أبي رجاء، عن ابن عباس، ومن حديث أبي الأشهب، عن أبي رجاء، ومن حديث ابن أبي عروبة، عن أبي رجاء، عن ابن عباس.

قال الترمذي: وكلا الإسنادين ليس فيهما مقال، يحتمل أن يكون أبو رجاء سمع منهما جميعا، وقد روى غير عوف أيضا هذا الحديث عن أبي رجاء، عن عمران.

ورواه أبو داود الطيالسي عن أبي الأشهب، وجرير بن حازم، وسلم، وحماد بن نجيح، وصخر بن جويرية، عن أبي رجاء، عن عمران وابن عباس قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نظرت في الجنة" الحديث.

قال الخطيب في كتابه: "الفصل للوصل": كذا رواه أبو داود، وخلط [في] جمعه بين روايات هؤلاء الخمسة، وذلك أن أبا الأشهب وحمادا وصخرا عن أبي رجاء كانوا يروونه عن ابن جويرية، عن ابن عباس وحده، وسلم بن زرير يرويه عن أبي رجاء، عن عمران وحده. وأما جرير فلا نعلم كيف كان يرويه; لأنه لم يقع لنا حديثه إلا من رواية أبي داود هذه، والحديث عند أبي رجاء، عن ابن عباس وعمران جميعا، إلا أنا لا نعلم أحدا اجتمعت له الروايتان عن أبي رجاء، إلا أيوب رواه عن أبي رجاء، عن عمران، وعن [ ص: 125 ] أبي رجاء، عن ابن عباس، ورواه ابن أبي عروبة وفطر عن أبي رجاء، عن ابن عباس، ورواه قتادة وعوف الأعرابي، عن أبي رجاء عن عمران.

قلت: ورواه النسائي من حديث يزيد بن عبد الله و(محمد) بن عبد الله، وهو متابع لأبي رجاء عن عمران ولفظه: "أقل ساكني الجنة النساء" وفي لفظ: "عامة أهل النار النساء".

فصل:

عند البخاري حديث أسامة: "قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين و(أصحاب) الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء".

وفي رواية: "محترسون" بدل "محبوسون" بفتح التاء والراء اسم مفعول من احترس، أي: موثق لا يستطيع الفرار.

قال الداودي: أرجو أن يكون هؤلاء أهل التفاخر; لأن أفاضل الصحابة كانت لهم أموال ووصفهم الله تعالى بأنهم سابقون.

[ ص: 126 ] فصل:

في النسائي من حديث عمرو بن العاصي مرفوعا: "لا يدخل النساء إلا كعدد هذا الغراب مع هذه الغربان" وفي "الأخبار" لللالكائي من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعا: "إن الفساق هم أهل النار" ثم فسرهم بالنساء، قالوا: يا رسول الله (ألسن) أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا؟ قال: "بلى ولكن إذا أعطين لم يشكرن، وإذا ابتلين لم يصبرن".

فصل:

في كتاب "النكاح" للفريابي من حديث بقية، عن (بحير) (عن) معدان، عن (كثير بن مرة، عن أبي شجرة) يرفعه: "إن النار خلقت للسفهاء، وإن النساء أسفه السفهاء إلا صاحبة الكساء".

قال بقية: هي التي تقوم على رأس زوجها وتوضئه.

[ ص: 127 ] ومن حديث علي بن زيد، عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا: "ألا إن النار خلقت للسفهاء ألا إن النساء هن السفهاء" ثلاثا.

ومن حديث ابن لهيعة، ويحيى بن أيوب أن ابن الهادي حدثهما عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعا: "يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار".

ومن حديث أبي هريرة مرفوعا: "مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام".

فصل:

قال المهلب: إنما استحق النساء النار; لكفرهن العشير، ألا ترى أن الشارع قد فسره بقوله: "لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله" لجازت ذلك بالكفران، فغلب استيلاء الكفران على دهرها، فكأنها مصرة عليه، والإصرار من أكبر (أشرار) النار، وذلك أن حق زوجها عظيم عليها، يجب عليها شكره والاعتراف بفضله لستره وصيانته لها، وقيامه بمؤنتها، وبذل نفسه في هذا، ومن أجله فضلت الرجال على النساء، وقد أمر الشارع من أسديت إليه نعمة أن يشكرها، فكيف نعم الزوج التي لا تنفك المرأة منها دهرها كله؟!

وقد [ ص: 128 ] قال بعض العلماء: شكر المنعم فرض، محتجا بقوله تعالى: أن اشكر لي ولوالديك [لقمان: 14] فقرن بشكره شكر الآباء، وكذلك شكر غيرهم واجب، وقد يكون شكر النعمة في نشرها، ويجزئ من ذلك الإقرار بالنعمة والمعرفة بقدر الحاجة.

فصل:

ذكر الحكيم الترمذي وغيره: أن الإخبار بكون النساء أكثر أهل النار كان قبل الشفاعة فيهن، وإلا فليس في الجنة عزب ولكل رجل زوجتان.

فصل:

قال القرطبي عن علمائهم: إنما كان النساء أقل ساكني الجنة; لما يغلب عليهن من الهوى والميل إلى عاجل زينة الدنيا؛ لنقصان عقولهن فيضعفن عن عمل الآخرة، والتأهب لها لميلهن إلى الدنيا والتزين بها ولها، ثم هن مع ذلك أقوى الأسباب التي يصرف بها الرجال عن الأخرى; لما لهم فيهن من الهوى، وأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن، صارفات عنها لغيرهن، سريعات الانخداع لداعيهن من المعرضين عن الدين، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى الآخرة وأعمالها من المتقين.

قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أيها الناس لا تعطوا النساء أمرا، ولا تدعوهن يدبرن أمر عشير؛ فإنهن إن تركن وما يردن أفسدن الملك وعصين المالك، وجدناهن لا دين لهن في خلواتهن، ولا ورع لهن عند شهواتهن، اللذة بهن يسيرة، والحيرة بهن كثيرة، فأما صوالحهن ففاجرات، وأما طوالحهن فعاهرات، وأما المعصومات فهن المعدومات، [ ص: 129 ] فيهن ثلاث خصال من يهود: يتظلمن وهن ظالمات، ويحلفن وهن كاذبات، ويتمنعن وهن راغبات، فاستعيذوا بالله من شرارهن، وكونوا على حذر من خيارهن.

فصل:

روى الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا: "يدخل فقراء المهاجرين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام" ثم قال: حسن غريب، وعن أبي هريرة -وقال صحيح-: "يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام نصف يوم".

وعن عمر مثله بزيادة: يا رسول الله ما نصف يوم؟ قال: "خمسمائة عام" قيل: فكم السنة من شهر؟ قال: "خمسمائة شهر" قيل: فكم اليوم، قال: "خمسمائة مما تعدون" ذكره ابن قتيبة في "عيون الأخبار".

وعند الترمذي عن جابر: "يدخل فقراء المسلمين قبل الأغنياء بأربعين خريفا" وخرجه أيضا عن أنس واستغربه. ولمسلم: "يسبقون يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا" واختلاف هذه الأحاديث يدل على أن الفقراء مختلفو الأحوال، وكذلك الأغنياء كما نبه عليه القرطبي.

[ ص: 130 ] ووجه الجمع: أن سباق الفقراء المهاجرين يسبقون سباق الأغنياء منهم بأربعين خريفا، وغير سباق الأغنياء بخمسمائة عام.

وقد قيل: إن حديث أبي هريرة وأبي الدرداء وجابر يعم جميع فقراء المسلمين، فيدخل الجنة سباق فقراء كل قرن قبل غير السباق من أغنيائهم بخمسمائة عام على حديث أبي هريرة وأبي الدرداء، يوضحه ما في "البعث والنشور" للبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: "سبق المهاجرون الناس بأربعين خريفا يتنعمون فيها، والناس محبوسون بالحساب ثم تكون الزمرة الثانية مائة خريف".

وفي حديث سعيد بن عامر بن حزيم مرفوعا: "يجمع الله الناس للحساب فيجيء فقراء المسلمين فيذفون كما يذف الحمام، فيقال لهم: قفوا للحساب. فيقولون: والله ما عندنا من حساب، ولا تركنا شيئا، فيقول لهم ربهم: صدقوا. فتفتح لهم أبواب الجنة، فيدخلونها قبل الناس بسبعين عاما".

فصل:

لما كان الفقير فاقدا للمال الذي يتسبب به إلى المعاصي، ويحصل به البطر والشبع واللهو الذي يقرب إلى النار، فاز بالسبق وحاز قصباته، ولما كان هذا الأغلب على النساء قربن من النار.

فإن قلت: وقد ظهر فضل الفقراء، فلم استعاذ - عليه السلام - منه؟

[ ص: 131 ] قلت: إنما استعاذ من شر فتنته كما استعاذ من شر فتنة الغنى، أو استعاذ من فقر النفس، ولا شك أن الفقر مصيبة من مصائب الدنيا، والغنى نعيم من نعيمها، كالمرض والعافية، فالمرض فيه ثواب ولا يمنع سؤال العافية، وما أحسن قول أبي علي الدقاق -فيما حكاه عنه في "الرسالة"- لما سئل: أي الموضعين أفضل: الغنى أو الفقر؟ الغنى لأنه وصف الحق، والفقر وصف الخلق!

قال أبو عبد الله: الغني المتعلق البال بالمال هو الفقير، وعادمه الذي يقول ليس لي رغبة فيه إنما هي ضرورة العيش، هو الغني.

قال - عليه السلام -: "ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس" والشارع سأل رتبة علياء وهو الكفاف، فقال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وفي لفظ: "كفافا" أخرجه مسلم، ومعلوم أنه لا يسأل إلا أفضل الأحوال وأسنى المقامات والأعمال، وقد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم.

ولابن ماجه عن أنس مرفوعا: "ما من غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا" فالكفاف حالة وسطى، وخير الأمور أوساطها، وهي حالة سليمة من آفات الغنى المطمع، ومن آفات الفقر المدقع التي كان يتعوذ منهما.

[ ص: 132 ] الحديث الثالث:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته، فوليت مدبرا" فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟! وأخرجه أيضا في فضائل عمر، وفي التعبير، وأخرجه مسلم أيضا، (وعنده) أيضا عن بريدة: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا فقال: "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من العرب. قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش. قلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد. فقلت: أنا محمد، لمن هذا؟ قالوا: لعمر".

وروي أيضا من حديث أنس ومعاذ.

أخرج الأول الترمذي صحيحا قال - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لشاب من قريش. فظننت أني أنا هو، فقلت: من هو؟ قالوا: عمر".

[ ص: 133 ] قال أبو عيسى: معنى هذا أني رأيت في المنام، هكذا روي في بعض الحديث.

ادعى المزي أنه من أفراد الترمذي، وليس كما ذكر، فقد أخرجه النسائي أيضا في مناقب عمر.

وأخرج الثاني أحمد من حديث مصعب بن سعد عن معاذ قال: إن كان عمر لمن أهل الجنة، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ما رأى في نومه أو يقظته فهو حق، وإنه قال: "بينا أنا في الجنة إذ رأيت فيها دارا، فقلت: لمن هذه؟ فقيل: لعمر".

قال الخطابي: قوله: ("فإذا امرأة تتوضأ") إنما هو: امرأة شوهاء، وإنما أسقط الكاتب منه بعض حروفه، فصار (يتوضأ) لإلباس ذلك في الخط; لأنه لا عمل في الجنة، وضوء ولا غيره.

والشوهاء: قال أبو عبيدة: هي المرأة الحسناء، والشوهاء: الواسعة الفم، والصغيرة الفم.

وقال ابن الأعرابي: الشوهاء: القبيحة، وقال الجوهري: فرس شوهاء صفة محمودة فيها، وقيل: يراد بها سعة أشداقها.

قال ابن التين: وذكر عن الشيخ أبي الحسن أنه قال: هذا فيه أن الوضوء موصل إلى هذا القصر والنعيم.

وقال القرطبي: الرواية الصحيحة: "تتوضأ" وإنما ابن قتيبة قال بدله: شوهاء.

[ ص: 134 ] قال ابن الأعرابي: وهي: الحسنة والقبيحة ضد، ووضوء هذه إنما هو لتزداد حسنا ونورا لا أنها تزيل وسخا ولا قذرا; إذ الجنة منزهة عن ذلك.

ويحتمل أن يراد به الوضوء اللغوي وهو غسل الوجه واليدين، وقد ترجم عليه البخاري في التعبير (باب الوضوء في المنام) وهو خلاف ما ذكره الخطابي.

فصل:

فيه -كما قال ابن بطال-: الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه، ألا ترى أنه لم يدخل القصر لغيرة عمر مع علمه أنه لا يغار عليه; لأنه أبو المؤمنين، وكل ما نال بنوه المؤمنون من خير فبسببه وعلى يديه، لكنه أراد أن يأتي ما يعلم أنه يوافق عمر.

وقد قال ابن سيرين: من رأى أنه يدخل الجنة فإنه يدخلها; لأن ذلك بشارة لما قدم من خير أو يقدمه.

قال الكرماني: وأما نساؤها فهي الحور، وأعمال البر على قدر جمالهن.

وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - المعبر: من رأى أنه يتوضأ فإنه وسيلة إلى سلطان، وهو للخائف أمان.

فصل:

وفيه فضل الغيرة، وبكاء عمر - رضي الله عنه - يحتمل أن يكون سرورا، وأن يكون تشوفا إلى ذلك.

[ ص: 135 ] الحديث الرابع:

حديث أبي بكر بن عبد الله بن قيس الأشعري، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخيمة درة مجوفة، طولها في السماء ثلاثون ميلا، وفي كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون" قال أبو عبد الصمد والحارث بن عبيد عن أبي عمران: "ستون ميلا".

الشرح:

هذا الحديث يأتي أيضا في التفسير، وأخرجه مسلم أيضا، واسم أبي بكر هذا: عمرو بن عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار الأشعري، مات في ولاية خالد بن عبد الله، وكان أكبر من أخيه أبي بردة، وأبو عبد الصمد اسمه: عبد العزيز بن عبد الصمد العمي البصري، مات سنة سبع وثمانين ومائة، ومتابعته أخرجها البخاري في تفسيره لسورة الرحمن عن محمد بن مثنى عنه، وتعليق الحارث أخرجه مسلم عن سعيد بن منصور عنه.

فصل:

ثبت في مسلم وفي بعض طرق البخاري "ستون ميلا" بدل ثلاثين، وكذا رواه الإسماعيلي من حديث علي بن أبي عاصم عن همام أيضا.

وفي رواية أخرى لمسلم: "عرضها ستون ميلا" ولا منافاة بينهما; لأن عرضها يريد مسافة أرضها وطولها ستون ميلا في السماء لا في العلو، متساويان.

[ ص: 136 ] وقال ابن التين: قوله: "ثلاثين ميلا" يريد قوله تعالى: حور مقصورات في الخيام [الرحمن: 72].

فصل:

الخيمة: بيت مربع من بيوت الأعراب، وقد بينها وقسمها أبو زياد الكلابي في كتابه، وجاء في رواية: "من لؤلؤة ومجوفة" بالفاء، كذا الرواية" وللسمرقندي بالباء الموحدة وهي: المثقوبة التي قطع داخلها، وروي عن ابن عباس: الخيمة: درة مجوفة فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وفي "نوادر الترمذي" بلغنا في الرواية أن سحابة مطرت من العرش فخلق منها الحور ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار، سعتها: أربعون ميلا وليس لها باب، حتى إذا خلى ولي الله بالخيمة انصدعت عن باب; ليعلم الولي أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها.

وعند ابن المبارك: أنبأنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، وعن أبي الدرداء: الخيمة: لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا كلها در.

فصل:

من هذا الحديث يعلم أن نوع النساء المشتمل على الحور والآدميات في الجنة أكثر من نوع رجال بني آدم، نبه عليه القرطبي.

[ ص: 137 ] الحديث الخامس:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" اقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [السجدة: 17].

الشرح:

هذا الحديث ذكره في التفسير، وأخرجه مسلم أيضا، وهو دال على وجود الجنة; لأن الإعداد غالبا لا يكون إلا لشيء حاصل، ثم أعاد ذكره في تفسير السجدة بزيادة: "ذخرا، بله ما اطلعتم عليه" ثم قال: قال أبو معاوية: عن الأعمش، عن أبي صالح: قرأ أبو هريرة - رضي الله عنه -: "قرات أعين" وهو تعليق مسند في "صحيح مسلم".

لا جرم قال الداودي: قوله: (اقرءوا إن شئتم) هو من قول أبي هريرة، ونازعه ابن التين فقال: الظاهر خلافه، وأنه من قوله - عليه السلام - والرب -جل جلاله- وعد عباده الصالحين من جنس ما يعرفونه من مطعم ومشرب ومنكح وشبهه، ثم زادهم من فضله ما لا يعرفونه، وهو قوله: "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.." إلى آخره.

وقوله: "ذخرا" هو بذال معجمة مضمومة، أي: مدخرا، وهو مصدر، يقال: ذخرت الشيء أذخره ذخرا، واذخرته أذخره اذخارا بالإدغام، ووقع في طريق القابسي: "ذكرا" بالكاف، ولبعضهم: "ذخر" بغير تنوين وليسا بشيء.

[ ص: 138 ] وقوله: ("بله") أي: سوى، وهي من أسماء الأفعال، المعنى: أن ما اطلعتم عليه محقر بالإضافة إلى ما لم تطلعوا عليه، وإنما ذكر ما يعرفونه لشيئين; لأنهم (لما) يعرفون، ولأنه لو وعدهم ما يعرفون اشتاقوا إلى ما لم يعرفوا، ولطلبوا ما يعرفون فوعدهم بهما، وذهب بعض المتكلمين إلى انحصار الأجناس، وأنه لا موجود يخرج عما وجد في هذا العالم، وفيه نظر.

وقوله: "ما أخفي" ضبطه الدمياطي بإسكان الياء، وقال في الحاشية: إسكانها قراءة حمزة.

الحديث السادس:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه أيضا-قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا".

الحديث السابع:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: "لا يسقمون، وآنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة "قال أبو اليمان: يعني: العود. وقال مجاهد: الإبكار: أول الفجر، والعشي: ميل الشمس أن تغرب.

[ ص: 139 ] وفي رواية: "إنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك" وفي رواية: "هم بعد ذلك منازل، أخلاقهم على خلق رجل على طول أبيهم آدم" وفي رواية: "على صورة أبيهم ستون ذراعا في السماء" قال مسلم: ابن أبي شيبة يرويه بضم الخاء واللام، وأبو كريب بفتح الخاء وسكون اللام.

قلت: يرجح الضم قوله: ("لا اختلاف بينهم ولا تباغض") ويرجح الفتح، قوله: "على صورة أبيهم" وعلى طوله.

فائدة:

أخرج حديث أبي هريرة الأول الترمذي في صفة الجنة وصححه، والثاني مسلم، والبخاري في الأدب.

فصل:

روى الترمذي عن ابن مسعود: "إن المرأة من أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها، وذلك أن الله تعالى يقول:كأنهن الياقوت والمرجان [الرحمن: 58] قال: وقد روي موقوفا.

[ ص: 140 ] وفي حديث شهر بن حوشب، عن أبي هريرة: "أهل الجنة مرد جرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم" ثم قال: حسن غريب، وعن معاذ: "يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين".

ثم قال: غريب، وروي عن قتادة مرسلا، وعن أبي سعيد: "من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها، وكذا أهل النار" ثم قال: غريب.

وروى البيهقي هذا من حديث المقدام مرفوعا: "ما من أحد يموت سقطا أو هرما ولا غيره إلا بعث ابن ثلاثين سنة، فإن كان من أهل الجنة كان على مسحة آدم وصورة يوسف وقلب أيوب" وعن أبي سعيد: "إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنان وسبعون زوجة" وقال الترمذي: غريب; ومثله عن أبي أمامة في "مسند الدارمي" وعن المقدام بن معديكرب: "ويزوج الشهيد ثنتين وسبعين زوجة من الحور".

وروى الطبراني في "أوسطه" من حديث أبي هريرة مرفوعا وذكر أهل الجنة: "ومجامرهم اللؤلؤ وأزواجهم".

[ ص: 141 ] ومن حديثه أيضا (مرفوعا): "يدخل فقراء أمتي قبل أغنيائهم بنصف يوم خمسمائة عام، ويدخلون جميعا على صورة آدم، وصورته: اثنا عشر ذراعا طولا في السماء، وستة عرضا، والذراع كطول الرجل الطويل منكم" قال: وتفرد به أسد بن موسى.

ورواه البيهقي في: "بعثه" بلفظ: "على خلق آدم ثمانية عشر ذراعا في سبعة" قال شمير -وبعضهم يقوله بالتاء- بن نهار: وما ذاك الذراع؟ قال: كأطولكم رجلا.

قال البيهقي: ورواية: "ستين ذراعا" أصح.

فصل:

الحور أصناف: صغار وكبار على ما اشتهته أنفس أهل الجنة.

قال القرطبي: روي أنه - عليه السلام - وصف حوراء رآها ليلة الإسراء: "كأن جبينها الهلال، طولها ألف وثلاثون ذراعا، في رأسها مائة ضفيرة، ما بين الضفيرة والضفيرة سبعون ألف ذؤابة".

وفي رواية ابن عباس: "الحوراء تلبس (سبعين) ألف حلة مثل شقائق النعمان، إذا أقبلت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، وفي رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك لكل ذؤابة وصيفة ترفع ذيلها" وروي: أن الآدميات مع هذا كله أفضل منهن بسبعين ألف ضعف.

[ ص: 142 ] فصل:

ليلة البدر: هي ليلة أربع عشرة، وسميت بذاك; لأن القمر يبادر طلوعه غروب الشمس، وقيل: لامتلاء القمر وحسنه وكماله، ومنه قولهم: عين بدرة، إذا كانت ممتلئة جدا.

فصل:

عدم بصقهم وشبهه; لأن أغذيتهم في الجنة في غاية اللطافة والاعتدال، ليست بذي فضلة تستقذر، بل تستطاب وتستلذ.

وفي رواية أن ما في بطونهم يخرج رشحا كرائحة المسك.

فصل:

(المجامر): المباخر. (والألوة): العود غير مطر، فارسي معرب، بفتح الهمزة وضمها، حكاهما ابن التين، وقيل: بكسرها، وتخفف وتشدد، وعند الهروي قال بعضهم: لوه، وليه، وتجمع الألوة اللاوية، وقال الداودي: الألوة: اليد.

وفي رواية أخرى: "ووقود مجامرهم الألوة" كأنه أراد به الجمر الذي يطرح عليه، ويروى لأعرابي وقف على قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثان وفاته، فقال: هلا دفنتم رسول الله في سقط من الألوة أحوى ملبس ذهبا.

فصل:

فإن قلت: أي حاجة لهم في البخور والامتشاط; لعدم تلبد شعرهم وطيب ريحه؟ قلت: نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، وكذا أكلهم ليس عن جوع ولا شربهم عن ظمأ، إنما هي [ ص: 143 ] لذات متوالية ونعم متتابعة قال تعالى: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى الآية [طه: 118].

والحكمة فيه أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم عليه ما لا يعلمه إلا الله.

فصل:

مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، يتنعمون بذلك وبغيره من ملاذها تنعما دائما لا نفاد له.

فصل:

قوله: ("زوجتان") كذا هو في الروايات بالتاء، وهو لغة متكررة في الأحاديث وكلام العرب، والأشهر حذفها، قال تعالى: اسكن أنت وزوجك الجنة [البقرة: 35] وكان الأصمعي ينكر الأول فذكر له شعر ذي الرمة، وفيه إثباتها فقال: إن ذا الرمة طال ما أكل المحل في دكان البغاء، وأنشد له قول الفرزدق همام بن غالب، فلم يحر جوابا.

قال أبو حاتم: وقد قرأنا عليه قبل هذا لأفصح العرب وهو أبو ذؤيب، فذكر شعره ولم ينكره، وأنشد أبو حاتم عليه أيضا أشعارا.

فصل:

قوله: ("ويسبحون الله بكرة وعشيا") أي: قدرهما، وهو ليس عن تكليف وإلزام; لأن الجنة ليست بمحل ذلك، وإنما هو إلهام كما هو في الرواية الأخرى: "يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس" وذلك أن تنفس الإنسان لا بد له منه ولا كلفة عليه ولا مشقة في فعله، وسر ذلك أن قلوبهم تنورت بالمعرفة وأبصارهم بالرؤية، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره.

[ ص: 144 ] فصل:

قوله في الحديث الثاني: ("والذين على (آثارهم) كأشد كوكب إضاءة") معناه أن أبدان أهل الجنة متفاوتة بحسب درجاتهم، قاله القرطبي، وقال الداودي: يعني على ضياء الزهرة.

فصل:

تعليق مجاهد ذكره الطبري: عن محمد بن عمرو ثنا أبو عاصم، ثنا عيسى، وأخبرنا ابن مثنى، ثنا أبو حذيفة، (حدثنا شبل): قالا: ثنا ابن أبي نجيح عنه.

قال الطبري: والإبكار مصدر من قول القائل أبكر فلان في حاجته يبكر إبكارا، وكذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضحى فذلك إبكار يقال منه: قد أبكر فلان وبكر يبكر بكورا، ويقال من ذلك: بكر النحل يبكر بكورا، وأبكر يبكر إبكارا، والباكورة من الفواكه: أولها إدراكا.

والعشي من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر:


فلا الظل من برد الصبح تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق

.

فالفيء إنما يبدأ من الزوال ويتناهى بمغيبها، وعند النحاس أن أبكر: إذا خرج من بين مطلع الشمس إلى وقت الضحى، والعشي من الزوال إلى الصباح، ذكره ابن فارس، والمعروف أنه من الزوال [ ص: 145 ] إلى الغروب، وقرئ (الأبكار) بفتح الهمزة على أنه جمع بكر، ويقال: بكر وبكر وبكر وابتكر: إذا جاء أول الوقت.

وقاله ابن فارس: بكرت: أسرعت أي وقت كان، وأبكرت إذا فعلت بكرة، قال: وقال قوم: كل من بادر إلى الشيء فقد أبكر إليه وبكر أي وقت كان.

الحديث الثامن:

حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال "ليدخلن من أمتي سبعون ألفا -أو سبعمائة ألف- لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر".

هذا الحديث من أفراده، وعند الإسماعيلي: "وجوههم على صورة القمر" وعنده أيضا: "سبعون ألفا وسبعمائة ألف بغير حساب" وعند الحميدي: "سبعون ألفا وسبعمائة ألف سماطين آخذ بعضهم ببعض".

ورواية البخاري. "أو" قال ابن التين: هو شك من الراوي، وفي رواية أخرى: "هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون وهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب".

وعند مسلم: عن عمران بن الحصين مرفوعا: "يدخل الجنة من أمتي [ ص: 146 ] سبعون ألفا بغير حساب" وفيه: فقال عكاشة: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت منهم" الحديث. والأفصح في عكاشة التشديد، قال ابن خالويه في كتاب "ليس": العامة تخففه وإنما هو مشدد قال: وذلك أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعله منهم في الجنة، فدعا له، فقام آخر، فسأله، فقال: "سبقك بها عكاشة" (والمعروف ما أوردناه).

وفي الترمذي عن أبي أمامة مرفوعا: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفا، وثلاث حثيات من حثيات ربي -جل وعز-" ثم قال: غريب.

وعند البزار من حديث أنس بلفظ: "مع كل واحد من السبعين ألفا سبعون ألفا".

وعند الترمذي الحكيم من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر مرفوعا: "إن الله أعطاني سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر: هلا استزدته؟ قال: "قد استزدته فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا" قال عمر: يا رسول الله فهلا استزدته؟ قال: "قد استزدته فأعطاني هكذا" قال أبو وهب راويه عن هشام، وفتح يديه قال هشام: هذا من الله ما يدرى ما عدده.

[ ص: 147 ] وعند البيهقي في "بعثه" من حديث عتبة بن عبد السلمي مرفوعا: "إن ربي وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، ثم يشفع كل ألف لسبعين ألفا، ثم يحثي له بكفه ثلاث حثيات" فكبر عمر وقال: إن السبعين الألف الأولين يشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر.

وروينا في "الحلية" من حديث قتادة عن أنس مرفوعا: "وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة مائة ألف" فقال أبو بكر: يا رسول الله لو استزدته.

قال: "وهكذا" وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك.

قالوا: يا رسول الله زدنا فقال عمر: إن الله قادر أن يدخل الخلق كلهم الجنة بحثية واحدة.

فقال - عليه السلام -: "صدق عمر"
ثم قال: غريب من حديث قتادة; تفرد به عن قتادة أبو هلال محمد بن سليم الراسبي وهو ثقة.

وفي كتاب "الشفاعة" للقاضي إسماعيل بإسناده من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن أنس مرفوعا: "إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف" فقال أبو بكر: زدنا، فقال: "وهكذا" فقال عمر: حسبك يا أبا بكر، فقال: دعني يا عمر، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا؟ قال عمر: إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بحثية واحدة، فقال - عليه السلام -: "صدق عمر".

[ ص: 148 ] ثم أسند من حديث قتادة عن أبي بكر بن عمير، عن أبيه مرفوعا: " (إن الله وعدني) أن يدخل الجنة من أمتي ثلاثمائة ألف" قال عمير: يا رسول الله زدنا، قال: "وهكذا" بيده، فقال عمر بن الخطاب: حسبك يا عمير.. الحديث.

قال: وحدثنا ابن مثنى، أنا معاذ -في كتابه- بإسناده إلى عمرو بن (عمير) مرفوعا: "وعدني الله أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا بغير حساب" قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "الذين لا يكتوون.. " إلى آخره "وإني سألته أن يزيدني" قال: "وإن لك بكل رجل من السبعين ألفا سبعين ألفا فقلت: إذا لا يكملوا ذلك فقال: أكملهم من الأعراب".

ثم ساق من حديث حميد، عن أنس مرفوعا: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا" قالوا: يا رسول الله زدنا. قال: "لكل واحد سبعون ألفا" قالوا: يا رسول الله زدنا. قال: "لكل واحد سبعون ألفا" قالوا: يا رسول الله زدنا، فملأ كفيه من الرمل قال: "وعدد هذا" فقالوا: زدنا. فقال أبو بكر وعمر: أبعد الله من دخل النار بعد هذا.

وعند الحكيم الترمذي من حديث (نافع) أن أم قيس حدثته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج آخذا بيدها حتى انتهى بها إلى بقيع الغرقد فقال: "يبعث من هذه سبعون ألفا يوم القيامة في صورة القمر ليلة البدر، [ ص: 149 ] يدخلون الجنة بغير حساب" فقام رجل فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم قال: "أنت منهم" فقام آخر.. الحديث.

قال الترمذي: هذا من مقبرة واحدة، فما ظنك بجميع مقابر أمته؟!

وذكر ابن خالويه في كتاب "ليس" أن سيدنا إبراهيم الخليل قال: يحشر من بانقيا سبعون ألف شهيد. وروينا في "تاريخ الرقة" للقشيري: حدثني الميموني، ثنا أبي، ثنا عمي، عن عمرو بن ميمون - وكان بالكوفة - بلغني أنه يحشر من ظهرها سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب، فأحببت أن أموت بها، فمات ودفناه بها.

فصل:

وروى الكلاباذي من حديث عبد العزيز اليمامي، عن عائشة، قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فاتبعته فإذا هو في مشربة يصلي، فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار، فلما قضى صلاته قال: "من هذه" قلت: عائشة. فقال: "هل رأيت الأنوار" قلت: نعم. قال: "إن آت أتاني من ربي -جل وعز- فبشرني أن الله -جل وعز- يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني في اليوم الثاني آت من ربي فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني في اليوم الثالث آت من ربي فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا المضاعفة سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، فقلت: يا رب، لا تبلغ هذا أمتي. قال: يكملون لك من الأعراب ممن لا يصوم ولا يصلي".

قال الكلاباذي: اختلف الناس في الأمة من هم؟ فقال قوم: أهل [ ص: 150 ] الملة، وقال آخرون: كل مبعوث إليه ولزمته الحجة بالدعوة، ويجوز أن تكون الأمة كل مبعوث إليه، ولكن تختلف أحوالهم، فمنهم من بعث إليه ودعي فلم يجب كأهل الأديان من أهل الكتاب وسائر المشركين، فهؤلاء لا يدخلون الجنة أبدا، ومنهم من دعي أجاب ولم يتبع من جهة استعمال ما لزمه بالإجابة، فهو مؤمن بإجابته إلى ما دعي إليه من التوحيد والرسالة، وإن لم يستعمل ما أمر به تشاغلا عنه وخلاعة وتجوزا، فهؤلاء من أمة الدعوة والإجابة، وليسوا من أمة الاتباع، ومنهم من أجاب إلى ما دعي واستعمل ما أمر به، فهذا من أمة الدعوة والإجابة والاتباع، فيجوز أن يكون هؤلاء الأعراب من أمة محمد من طريق الإجابة له إيمانا بالله ورسوله وبما جاء به ولم يستعملوا ما جاء به، فهؤلاء ليسوا من أمته على معنى الاتباع; لأنهم لم يتبعوه ولم يسلكوا طريقه.

فمعنى: "يكملون لك من الأعراب" أي: من آمن بك ولم يتبعك استعمالا لما جئت به; لأن قوله: "لا تبلغ هذا أمتي" وقوله تعالى: "يكملون لك من الأعراب" يشير إلى أن هؤلاء الأعراب ليسوا من أمته، فيجوز أن يكون ذلك على معنى ما قلناه.

ومعنى قوله: "لا تبلغ هذا أمتي" يعني من اتبعني وآمن بي، فكأنه يقول: لا يبلغ هذا العدد من اتبعني استعمالا لما جئت به، وهذا كالحديث الذي حدثناه، ثم ساقه من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة -أو عن أبي سعيد- شك الأعمش.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله، من لقي الله بها غير شاك لم يحجب عن الجنة".

[ ص: 151 ] وذكر الشيخ أبو العباس أحمد بن القسطلاني في كتاب جمع فيه أخبار مشايخ لقيهم: سمعت الشيخ أبا الربيع: كان الشيخ أبو الحكم يتكلم يوما في قوله تعالى: فمنهم شقي وسعيد [هود: 105] واستطرد إلى حديث الشفاعة التي يقول فيها: "وأعطيت هكذا وهكذا يمينا وشمالا ووراء" وحثى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه وشماله وورائه، فقال أبو بكر: يا رسول الله، يكفينا فقال عمر: يا أبا بكر، دع رسول الله يبشرنا ووراءه فقال أبو بكر: يا عمر لنا نحن حثية من حثيات ربنا قال: فكان أبو بكر أفقه الرجلين; لأنه علم أنه إحراج فخاف التطويل; فقال: يكفينا.

قال الشيخ أبو الحكم: وأقول أنا: ما استثناها إلا لعظيمة يقتضيها لم يطلع عليها اللوح ولا القلم، يعني: الاستثناء في الآية السالفة.

الحديث التاسع:

حديث أنس - رضي الله عنه -: أهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبة سندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها، فقال: "والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا".

الحديث العاشر:

حديث البراء بن عازب قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب من حرير، فجعلوا يعجبون من حسنه ولينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمناديل".

وقال: "أفضل" بدل "أحسن" وأخرجه في المناقب واللباس والنذور، وأخرجه مسلم أيضا، والسندس: هو رقيق الديباج، والإستبرق صفيقه.

[ ص: 152 ] والمنديل: مفعيل من ندلت الشيء إذا نقلته، فكأنه ينقل الندل، وهو الوسخ من الأيدي.

فائدة:

علق عن سعيد، عن قتادة، عن أنس أن أكيدر دومة أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وأسند الإسماعيلي هذا التعليق.

وعلق عن سعيد، عن قتادة، عن أنس: أنه - عليه السلام - لبسها، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير.

قال الإسماعيلي: وسعيد أثبت في قتادة وأضبط من شيبان، لا سيما إذا روى عنه الثقات، وذكروا عنه الخبر، وهو أشبه; لأنه لا ينهى عنه وهو يلبسه إلا أن يبين أنه مخصوص به، ثم ذكر سنده إلى ابن زريع، عن سعيد، ثنا قتادة، ثنا أنس: أن أكيدر أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبة من سندس من قبل أن ينهى عن لبس الحرير فلبسها. الحديث.

وفي رواية: وذلك قبل أن يحرم الحرير.

الحديث الحادي عشر:

حديث سهل بن سعد الساعدي مرفوعا: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها".

الحديث سلف في الجهاد، وأخرجه مسلم أيضا.

قال الداودي: يعني في حسنه وبهجته.

[ ص: 153 ] وقال غيره: يعني أنه دائم لا يفنى فكان أفضل مما يفنى وإن كان الفاني أكبر حجما.

الحديث الثاني عشر:

حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها".

الحديث الثالث عشر: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، واقرءوا إن شئتم: وظل ممدود [الواقعة: 30]. ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب "وسلف في الجهاد.

وذكر الطرقي أن هذا من زيادة ابن أبي عمرة يعني: الراوي عن أبي هريرة في الحديث.

وروى ابن المبارك من حديث ابن أبي خالد، عن زياد مولى بني مخزوم، سمع أبا هريرة يقول: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام" فبلغ ذلك كعبا فقال: صدق والذي أنزل الفرقان على لسان محمد، لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة، ثم سار في أصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما، إن الله تعالى غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه، وما في الجنة نهر إلا ويخرج من أصلها.

وفي لفظ: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين" أو قال: "مائة سنة" وهي: شجرة الخلد.

[ ص: 154 ] وفي الترمذي عن أسماء سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر سدرة المنتهى قال: "يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو يستظل بظلها (مائة سنة راكب)" شك يحيى; ثم قال: حسن صحيح.

ولابن عبد البر من حديث عتبة بن عبد السلمي مرفوعا: "شجرة طوبى تشبه الجوزة" قال رجل: يا رسول الله ما عظم أصلها؟ قال: "لو رحلت جذعة ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما" ولابن وهب من حديث شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: "طوبى شجرة (في الجنة) ليس فيها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن ولا ثمرة إلا وهي فيها" وسيأتي في باب صفة الجنة والنار من الرقاق من حديث سهل بن سعد، وأبي سعيد.

فصل:

المراد بظلها: راحتها ونعيمها من قولهم: عز ظليل، وقيل معناه: ذراها وناحيتها وكنفها كما يقال: أنا في ظلك، أي: في كنفك، وإنما أحوج إلى هذا التأويل; لأن الظل المتعارف عندنا إنما هو وقاية حر الشمس وأذاها وليس في الجنة شمس، وإنما هي أنوار متوالية، لا حر فيها ولا قر، بل لذات متوالية ونعم متتابعة.

فصل:

القاب: القدر. والقوس هو: العربي.

[ ص: 155 ] وقال مجاهد: قاب قوس: أي: قدره ذراع، وهو بلغة أزد شنوءة.

وقال الداودي: القاب: ما بين القوس والوتر.

الحديث الرابع عشر:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا تباغض بينهم ولا تحاسد، لكل امرئ زوجتان من الحور العين، يرى مخ سوقهن من وراء اللحم والعظم".

والزمر: الجماعات في تفرقة والزمرة واحدتها.

الحديث الخامس عشر:

حديث البراء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما مات إبراهيم قال: "إن له مرضعا في الجنة".

سلف في الجنائز، وذلك لأنه مات قبل أن يفصل عن أمه، ولعل ولدان المؤمنين مثله، قاله ابن التين.

وروي أنه - عليه السلام - لما مات ابنه القاسم بكت خديجة فقال: "ما يبكيك؟" قالت: در ثديي يا رسول الله. قال: "إن له مرضعا في الجنة" قالت: لو علمت ذلك ما بكيت. قال: "إن شاء ربك ذلك" قالت: بل أصدق الله ورسوله.

[ ص: 156 ] الحديث السادس عشر:

حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم". قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: "بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".

وفي رواية: "وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما" وأخرجه مسلم أيضا، قال أبو عبد الله محمد بن يحيى: هذا حديث محفوظ غريب من رواية مالك، ورواه فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، لست أدفع حديث فليح أن يكون عطاء قد حفظه عنهما.

وعند مسلم من حديث سهل بن سعد مثله، زاد الحكيم الترمذي عن صالح بن محمد، حدثني سليمان بن عمرو، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد يرفعه في قوله -عز وجل-: أولئك يجزون الغرفة [الفرقان: 75] (قال: "الغرفة): من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء، أو درة بيضاء، ليس فيها فصم ولا وصل، وإن أهل الجنة ليتراءون... " الحديث.

[ ص: 157 ] وفيه: "وإن أبا بكر وعمر منهم.. " الحديث، ثم روى من حديث ابن مسعود مرفوعا: "المتحابون في الله على عمود من ياقوتة حمراء، في رأس العمود سبعون ألف غرفة يضيء حسنهم لأهل الجنة، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا".

وفي الترمذي من حديث علي مرفوعا: "إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها" فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ فقال: "لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام" وأخرجه صاحب "الحلية" أيضا من حديث جابر.

وفي "البعث والنشور" للبيهقي من حديث الحسن، عن عمران بن حصين وأبي هريرة - رضي الله عنه - سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: ومساكن طيبة [التوبة: 72] قال: "قصر من لؤلؤة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، وفي كل بيت سرير، على كل سرير سبعون فراشا، على كل فراش زوجة من الحور، وفي كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفة" الحديث.

[ ص: 158 ] وهو ظاهر في اختلاف الغرف في العلو والصفة، وذلك بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال.

فصل:

"الغابر": يروى بالياء، اسم فاعل من غار، وروي: "الغارب" بتقديم الراء والمعنى واحد، وروي غالبا بباء موحدة ومعناه: الذاهب أو الباقي; لأن غبر من الأضداد، يريد أن الكوكب حالة طلوعه وغروبه يبعد عن الأبصار فيظهر صغيرا لبعده، وقد بينه بقوله: "بين المشرق أو المغرب" وروي: "العازب" بعين مهملة وزاي ومعناه: البعيد، وروي: "الغاير" ذكره ابن الحذاء.

وقوله: ("في الأفق") كذا هنا، وعامة نسخ مسلم "من الأفق" كما قال النووي، وقال القاضي: "من" هنا لابتداء الغاية، وصوب بعضهم ما في البخاري، وقال القرطبي: إنها أوضح.

وقوله: ("يتراءون") وفي أخرى: "يرون أهل عليين كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء" ودري -بكسر الدال- فعيل من درأت كأنه يدرأ الشياطين، ودري على مثال الدر، ومن قرأ (دريء) فهو عند أكثر أهل العربية لحن; إذ ليس في كلام العرب فعيل، [ ص: 159 ] والأكثر الضم بغير همز، قال الكسائي: شبه بالدر، وروي بضم الدال مهموز ممدود.

قال ابن التين: وانظر قوله: ("الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب") وإنما تغور الطوالع من المغرب خاصة فكيف ذكر المشرق، والغابر: الذاهب في البعد، قاله الداودي.

و(الأفق): ناحية السماء واحد الآفاق، وشبه الكواكب بالدر; لكونه أرفع من باقي النجوم كما أن الدر أرفع الجواهر.

فصل:

قوله: ("بلى والذي نفسي بيده.. ") إلى آخره; يريد أنهم لم يبلغوا درجات الأنبياء، قيل: كذا ظاهره، وقال الداودي: يعني أنهم يبلغون هذه المنازل التي وصف، وأن منازل الأنبياء فوق ذلك، فعلى ما عند أبي ذر "بل.." إلى آخره الأمر بين كما ذكره الداودي، وعلى ما عند الشيخ أبي الحسن "بلى" تكون كما تقدم أنهم يبلغون درجات الأنبياء.

وقال القرطبي: كذا وقع هذا الحرف (بلى) الذي أصلها حرف جواب وتصديق، وليس هذا موضعها; لأنهم لم يستفهموا وإنما أخبروا أن تلك المنازل للأنبياء لا لغيرهم، فجواب هذا يقتضي أن تكون (بل) التي هي للإضراب عن الأول، وإيجاب المعنى الثاني فكأنه تسومح فيها، فوضعت (بلى) موضع (بل).

و"رجال" مرفوع بالابتداء المحذوف، تقديره هم رجال، ورواية: "بل" فيها توسع، أي: تلك المنازل منازل رجال آمنوا بالله، أي: حق [ ص: 160 ] إيمانه "وصدقوا المرسلين" أي: حق تصديقهم، وإلا فكل من يدخل الجنة آمن بالله، وصدق رسله.

فائدة:

روى محمد بن الحسن بن زياد النقاش في "فضائل عاشوراء" من حديث ابن عباس مرفوعا: "إن لله -عز وجل- ثماني جنات" الحديث.

التالي السابق


الخدمات العلمية