التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
3121 3295 - حدثني إبراهيم بن حمزة قال: حدثني ابن أبي حازم، عن يزيد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا استيقظ -أراه- أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه ". [ مسلم: 238 - فتح: 6 \ 339]


[ ص: 191 ] الشرح:

تفسير مجاهد رواه الطبري عن الحارث: حدثني الحسن: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عنه به. قال الطبري: والدحور مصدر من قولك: دحرته أدحره دحرا ودحورا، والدحر: الدفع والإبعاد، يقال منه: أدحر عنك الشيء، أي: أدفعه عنك وأبعده.

وفي "تفسير عبد بن حميد": عن قتادة: ( دحورا [الصافات: 9] قذفا في النار.

قوله: (بتكه: قطعه) قال قتادة: يعني: البحيرة، وهي: التي نتجت خمسة أبطن، فكان آخرها ذكرا شقوا أذنها ولم ينتفعوا بها، والتقدير: (ولآمرنهم) بتبتيك آذان الأنعام وليبتكنها.

وقوله: (استخف) يريد بالغناء والمزامير.

وقوله: بخيلك [الإسراء: 64]: الفرسان) قال ابن عباس: كل خيل سارت في معصية، وكل رجل مشت فيها، وكل ما أصيب من حرام، وكل ولد غية، فهو للشيطان. وقال غيره: مشاركته في الأموال: البحيرة والسائبة والأولاد، قولهم: عبد العزى وعبد الحارث.

وقوله: ( لأحتنكن [الإسراء: 62]: لأستأصلن) قيل: معنى أحتنك: مثل حنك الدابة، المعنى على هذا: لأسوقنهم حيث شئت. وقال الداودي: معناه: لأستنزلن.

[ ص: 192 ] فصل يتعلق بإبليس لعنه الله:

قال ابن جرير: كان الله قد حسن خلقه وشرفه وكرمه وملكه على سماء الدنيا والأرض وجعله مع ذلك من خزان الجنة، فاستكبر على ربه، وادعى الربوبية، ودعا من كان تحت يده إلى عبادته، فمسخه الله شيطانا رجيما، وشوه خلقه، وسلبه ما كان خوله، ولعنه وطرده عن سماواته في العاجل، ثم جعل مسكنه ومسكن شيعته وتباعه في الآخرة نار جهنم.

ثم ساق من حديث حجاج، عن ابن جريج: قال ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض.

وعن ابن جريج، عن صالح -مولى التوأمة- وشريك عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها.

وعن ابن صالح، عن ابن عباس، ومرة عن عبد الله وغيرهما من الصحابة: إنما سمي قبيلة الجن; لأنهم خزان الجنة.

وقال ابن جريج: ومن يقل منهم إني إله من دونه [الأنبياء: 29] لم يقل بهذا إلا إبليس وفيه نزلت هذه الآية.

وكذا قاله قتادة.

[ ص: 193 ] وعن ابن عباس قال: إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الحن، خلقوا من نار السموم، وكان اسمه الحارث.

وخلقت الملائكة كلهم من النور، غير هذا الحي.

ومارج النار: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت. وأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحن، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقوهم بجزائر البحر وأطراف الجبال، فلما فعل ذلك اغتر في نفسه وقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد. فأطلع الله على ذلك من قبله ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. وقال الربيع بن أنس: إن الله تعالى خلق الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس. وذكر ابن مسعود وغيره أنه لما ملكه سماء الدنيا وقع في صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة. وعن ابن عباس: كان اسمه عزازيل، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما فارتد.

[ ص: 194 ] وقال ابن خالويه في كتاب "ليس": إبليس يكنى أبا الفردوس. ويقال: أبو مرة، ومن أسمائه أيضا العلب والسعة والحارث.

وأبلس من رحمة الله أي: يئس، والإبلاس أيضا: الانكسار والحزن. يقال: أبلس فلان إذا سكت عما قال، وقال الماوردي في "تفسيره": هو شخص روحاني، خلق من نار السموم، وهو أبو الشياطين، وقد ركبت فيهم الشهوات، مشتق من الإبلاس: وهو الإياس من الخير.

فائدة أخرى:

عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان من الجن الذين طردتهم الملائكة، وكان صغيرا فتعبد مع الملائكة، فلما أمروا بالسجود لآدم أبى هو من ذلك.

قال الطبري: وقيل: إن سبب هلاكه كان من أجل أن الأرض كان فيها قبل آدم الجن، وبعث الله إبليس قاضيا بينهم فلم يزل يقضي بينهم (بالحق) ألف سنة حتى سمي حكما، فسماه الله به، وأوحى إليه اسمه، فعند ذلك دخله الكبر فتعظم وألقى بين الذين كان بعثه إليهم حكما البأس والعداوة، فاقتتلوا في الأرض ألفي سنة حتى إن خيولهم كانت تخوض في دمائهم وذلك قوله: أفعيينا بالخلق الأول [ق: 15] فبعث الله عند ذلك إليهم نارا فأحرقتهم، فلما رأى اللعين ما نزل [ ص: 195 ] بقومه عرج إلى السماء مجتهدا في العبادة، حتى خلق آدم. وفي "تفسير الجوزي": قسم إبليس جنده فريقين، فبعث فريقا منهم إلى الإنس، وفريقا إلى الجن، فكلهم أعداء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي "الديباج" للختلي عن مجاهد: كان إبليس على سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان مكتوب في الرفيع الأعلى أن الله -عز وجل- حيث سيجعل في الأرض خليفة، وأنه ستكون دماء وأحداثا، فوجده إبليس فرآه دون الملائكة، فلما ذكر الله أمر آدم للملائكة أخبرهم إبليس بما رأى، وأسر في نفسه أنه لا يسجد له أبدا، فقالت الملائكة: أتجعل الآية [البقرة: 30].

ثم ذكر البخاري في الباب ستة وعشرين حديثا:

أحدها:

حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الليث: كتب إلي هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سحر.. الحديث.

وقد سلف، ويأتي في الطب والدعوات.

وأخرجه مسلم أيضا.

وذكره هنا للعلم بأن السحر من تعليم الشياطين، وهو دال على أن له حقيقة خلافا لمن نفاه.

وقوله: ("أفتاني فيما فيه شفائي؟") أي: أوحى إلي; لأن الفتيا هي إعلام حكم المسألة وبيانه.

[ ص: 196 ] و"مطبوب": معناه: مسحور، والطب: السحر. ولبيد بن الأعصم، قال الداودي: كان يهوديا، وأراه كان ذلك منه قبل أن تكون لهم ذمة، ثم آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه، وكان منافقا.

وقوله: ("في مشط ومشاقة") المشاقة: ما يخرج من الكتان حين يمشق، والمشق: جذب الشيء ليمتد ويطول.

("وجف طلعة ذكر") قشرها يسمى الكفرى، وهو وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي على الوليع. قال ابن فارس: جف الطلعة: وعاؤها، ويقال: إنه شيء ينقر من جذوع النخل. قال الهروي: ويروى: في مشط ومشاطة في جف طلعة. قال: والمشاط: الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط. قال: "وجف طلعة": أي: في جوفها.

وقوله: ("ذكر") الذكر من النخل: هو الذي يؤخذ طلعه طلعة فيجعل منه في طلع النخلة المثمرة فيصير بذلك ثمرا، ولو لم يجعل فيه لكان شيصا لا نوى فيه ولا يكاد يساغ.

و"ذروان" موضع.

وقوله: ("نخلها كأنه رؤوس الشياطين") فيه قولان:

أحدهما: أنها مشققة كرؤوس الشياطين، وهي الحيات.

الآخر: أنها وحشة المنظر سمجة الأشكال كأنها كما يتصور استبشاعا واستقباحا لصورة الشياطين.

[ ص: 197 ] فصل:

منع قوم من الكلام على هذا الحديث وقالوا: لو جاز أن يعمل في نبي الله السحر أو يكون له فيه تأثير لم يؤمن أن يؤثر ذلك فيما يوحى إليه من أمور الشريعة، فيكون في ذلك ضلال الأمة، وقد سلف جوابه وأنهم معصومون في أمر الدين الذي أرصدهم الله له وبعثهم به، وليس يؤثر السحر في أبدانهم بأكثر من الموت الذي يعتريهم، وهم بشر يجوز عليهم الأمراض والعلل.

فصل:

قوله: ("خشيت أن يثير ذلك على الناس شرا") يريد في إظهاره.

وقولها: (يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله) إنما كان ذلك خصوصا في أمر النساء وفي إتيان أهله دون ما سواه من أمر النبوة، وهذا من جملة ما تضمنه قوله تعالى: ما يفرقون به بين المرء وزوجه [البقرة: 102] وقيل: إنما امتنع أن يعين الساحر; لئلا تقوم أنفس المسلمين فيقع بينهم وبين قبيل الساحر فتنة.

الحديث الثاني:

حديث أبي هريرة: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم.. ". الحديث، تقدم في الصلاة.

والقافية: مؤخر الرأس، ومنه قافية الشعر، هذا قول الأكثرين.

ومعنى يعقد: يتكلم عليه حتى يصير كالعقد.

الحديث الثالث:

حديث عبد الله: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل نام ليله حتى أصبح، [ ص: 198 ] الحديث، تقدم فيه أيضا.

الحديث الرابع:

حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أما إن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله" الحديث.

وسلف في الطهارة، وكرره بعد، وعبر فيه بـ (ما) عمن يعاقل فقال: "ما رزقتنا" وذلك (يصح) إذا كان بمعنى شيء.

الحديث الخامس:

حديث ابن عمر: "إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز" الحديث، سلف في الصلاة، والبخاري رواه عن محمد، وهو ابن سلام، كما قاله أبو نعيم وأبو علي، وأخرجه مسلم والنسائي.

الحديث السادس:

حديث أبي سعيد في المرور وسلف في الصلاة أيضا.

[ ص: 199 ] قال ابن فارس -في الحديث قبله-: حاجب الشمس: ناحيتها. وقال الهروي: الحاجب في شعر الغنوي ضوؤها. وظاهر الحديث: أنه ناحيتها، كما قاله ابن فارس.

وقوله: ("تطلع بين قرني شيطان") قال الداودي: له قرن على الحقيقة يظهر عند طلوعها وغروبها. وقيل: إنه ينتصب في محاذاة مطلعها حتى إذا طلعت كانت بين فودي رأسه. وهما قرناه، أي: جانبا رأسه، فتكون العبادة له إذا سجدت (له) عبدة الشمس لها، وقال الحربي: هو مثل; يقول حينئذ يتحرك الشيطان ويتسلط. وقيل القرن: القوة، أي: تطلع حين قوة الشيطان واستحواذه على عبدة الشمس، وقيل: المراد: اقترانه بها.

ويرد على جميعهم بقوله: "قرنيه" لأنه تثنية قرن. فلا يصح المعنى بتثنيته إلا في قوله: بين فوديه، فهو موافق له، وهو إن شاء الله أوجه الأقوال، كما قاله ابن التين.

الحديث السابع:

حديث أبي هريرة: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، تقدم في الوكالة.

الحديث الثامن:

حديثه أيضا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينته".

[ ص: 200 ] هذا الحديث خرجه مسلم أيضا، وأخرجه البخاري في الاعتصام ومسلم في الإيمان عن أنس، وعند مسلم: "لا يزال الناس يسألون، حتى يقولون: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟" وفي رواية "فليقل: آمنت بالله" ولأبي داود: "فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد الله الصمد [الإخلاص: 1 - 2] الآية، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان" وفي رواية محمد بن سيرين عنه -كما قال الخطابي- زيادة لم يذكرها أبو عبد الله، لا يستغنى عنها في بيان معنى الحديث، ثم ساقها بإسناده بلفظ: "لا يزال الناس يسألون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟" قال أبو هريرة: فقد سئلت عنها مرتين. وفي آخر: "لا يزال الناس يسألون عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟" فبينما أبو هريرة ذات يوم آخذ بيد رجل وهو يقول: صدق الله ورسوله، قال أبو هريرة: لقد سألني عنها رجلان وهذا الثالث.

ووجه الحديث: ترك التفكير فيما يخطر في القلب من وساوس الشيطان، والامتناع عن قبولها، والكف عن مجاراته في ذلك، وحسم المادة في ذلك بالإعراض عنه والاستعاذة بذكر الله، ولو أذن في مراجعته والرد عليه لكان الرد على كل موحد سهلا; وذلك أن [ ص: 201 ] جوابه متلقى من سؤاله، وذلك أنه إذا قال ما تقدم، فقد نقض بأول كلامه آخره; لأنه يلزم منه أن يقال: ومن خلق ذلك الشيء، وامتد القول في ذلك إلى ما لا يتناهى، والقول مما لا يتناهى فاسد فسقط السؤال من أصله، وأشد من هذا الجواب وأحسن في موضع المطالبة أن تقول: دلنا المحدث على محدث أحدثه ومريد أراده على الصفة التي وقع عليها حيا قادرا، فإذا ثبت من هذه صفاته فلا بد أن يكون قديما أو محدثا، فإن قلنا: محدث صار من القسم الأول، وتسلسل القول فيه ولزم القول بالقدم، فإذا ثبت قدمه لم يبق إلا أن يقال: هو طبيعة، فيسأل الطبائعيين عن هذه الطبيعة، فإن قالوا: قديمة، فيسألهم هل يوجب أثرها عند وجودها؟ فإن قالوا: نعم، كان باطلا عيانا; لأن سائر المخلوقات تلزم أن توجد كلها قديمة عند وجودها; إذ وجودها جملة من وجودهم، ولا يتراخى منه شيء عن شيء، وهذا مردود عيانا، وإن قالوا: (هي تريده .. يفصل بأسباب) فقد سلموا أن القديم مريد قادر، وعاد الخلاف بيننا في تسمية القديم، وإن قالوا: محدثة، أقمنا دليل الحدث ودلت على محدث ويسئل عنه ويتسلسل القول في ذلك.

الحديث التاسع:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين.." الحديث، سلف في الصيام.

[ ص: 202 ] و(ابن أبي أنس) المذكور في إسناده هو أبو سهيل بن مالك.

الحديث العاشر:

حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -: "أن موسى قال لفتاه: آتنا غداءنا " [الكهف: 62] الحديث، سلف أيضا في العلم.

الحديث الحادي عشر:

حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير إلى المشرق فقال: "ها إن الفتنة ها هنا، إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان". ويأتي في الطلاق.

الحديث الثاني عشر:

حديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استجنح الليل -أو كان جنح الليل- فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فحلوهم وأغلق بابك، واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله، وخمر إناءك، واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيئا".

هذا الحديث أخرجه مسلم والأربعة، وسيأتي في البخاري، في حديث جابر: "فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا" وللترمذي: "فإن الشيطان لا يفتح غلقا، ولا يحل وكاء، ولا يكشف آنية، وإن الفويسقة تضرم على الناس بيتهم". وفي حديث ابن عمر عند البخاري:

[ ص: 203 ] "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون" وهذا من القدرة التي لا يؤمن بها إلا من وحد الله; وذاك أن الشياطين يتصرفون في الأمور الغريبة ويتولجون في المسام الخفية، فيعجزه الذكر عن حل الغلق وشبهه، نبه عليه ابن العربي، وفي رواية: "فإن النار عدو لكم".

فصل:

جنح الليل: قال ابن سيده: جنح الليل يجنح جنوحا: أقبل وجهه، وجنحه: جانبه، قيل: قطعة منه نحو النصف. وقال ابن التين: يريد إذا أقبلت ظلمته. وجنح الليل: بالكسر طائفة منه، ويقال بضمها، وقيل جنح الليل: أول ما يظلم، ويقال معنى جنح: مال، وتقدم في باب حسن مال المسلم: أنه بكسر الجيم وضمها.

وقوله: (أو كان جنح الليل) لكافتهم: (قال) بدل (كان) وعند النسفي وأبي الهيثم والحموي: (كان).

وقوله: ("فكفوا") وفي رواية: "فاكفتوا" أي: ضموهم إليكم واقبضوهم، وكل شيء ضممته فقد كفته، ومعناه: امنعوهم من الخروج في ذلك الوقت.

وإنما خيف عليهم; لأن النجاسة التي يلوذ بها الشيطان موجودة معهم; ولأن الذكر الذي يستعصم به معدوم عندهم، والشياطين عند [ ص: 204 ] انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به، فإذا ذهبت اشتغل كل منهم بما اكتسب، ومضى إلى ما قدر له التشاغل به، نبه عليه ابن الجوزي، وفي رواية: "لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس" والفواشي: كل شيء منتشر من المال، كالإبل والبقر وسائر البهائم وغيرها، جمع فاشية; لأنها تفشو، أي: تنتشر، قال ابن الأعرابي: أفشى وأمشى وأوشى بمعنى واحد، إذا كثرت مواشيه.

فصل:

الشياطين تستعين بالظلمة، وتكره النور، وتتشاءم به، كما نبه عليه ابن العربي; لأن الله أظلم قلوبها، وفي رواية: "فإذا ذهب فحمة العشاء" بسكون الحاء المهملة وفتح الفاء، وهو شدة سوادها وظلمتها، وزعم بعضهم أنه أراد أول ظلامها، ويقال للظلمة التي بين المغرب والعشاء: فحمة، والتي بين العشاء والفجر: عسعسة.

وقوله: ("فحلوهم") يريد كما قال الداودي: إذا ذهب بعض الظلمة وامتدادها أبصر الصبي حيث يذهب ولم يقع على شيء يصيب به بعض الشياطين، فيكون ذلك سببا، كما أصيب قاتل الحية.

فصل:

("أغلق بابك") رباعي، والباب مغلق لا مغلوق، وفي رواية: "أجيفوا" وهو بمعنى الأول.

[ ص: 205 ] فصل:

جاء في البخاري في (باب: خمس من الدواب فواسق) قال: "الفويسقة ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت" وفي رواية: "تضرم" أي: تلهب وتحرق، يقال: ضرمت بكسر الراء، وتضرمت وأضرمت وأضرمتها أنا، وضرمتها: تشدد للمبالغة، وهو عام يدخل فيه نار السراج وغيره.

فأما القناديل المعلقة فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر بالإطفاء وإن أمن ذلك كما هو الغالب، فالظاهر أنه لا بأس بها; لانتفاء العلة. وسبب قوله هنا أنه - عليه السلام - صلى على خمرة فجرت الفتيلة الفأرة، فأحرقت من الخمرة قدر الدرهم، فقال - عليه السلام - ذلك، نبه عليه ابن العربي.

فصل:

الإيكاء: الشد، والوكاء: اسم ما يشد به فم القربة، وهو ممدود مهموز؛ فلذلك يجب أن يكون رباعيا.

فصل:

(تخمير الإناء): تغطيته.

و("تعرض"): بضم الراء وكسرها، يقال: عرضت الشيء أعرضه، بكسر الراء على قول الأكثرين، والأصمعي يضمه وكذا يعقوب، قال ابن التين: عامة أهل اللغة على الكسر إلا الأصمعي وابن فارس فإنهما يضمانها في هذا خاصة.

[ ص: 206 ] وقوله: ("شيئا") في رواية: "عودا" وذلك عند عدم ما يجد ما يغطيه به، وهو مطلق في الآنية التي فيها شراب أو طعام. روى الأعمش، عن أبي صالح وأبي سفيان، عن جابر قال: جاء أبو حميد بقدح لبن من النقيع، فقال - عليه السلام -: "ألا خمرته".

وللتخمير فوائد: صيانة من الشيطان والنجاسات والحشرات وغيرها، ومن الوباء الذي ينزل في ليلة من السنة، كما جاء في الحديث "إن في السنة ليلة -وفي رواية: يوما- ينزل وباء فلا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو بسقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه ذلك الوباء" قال الليث بن سعد: والأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول.

قال أبو حميد: إنا أمرنا بالأسقية أن توكأ ليلا وبالأبواب أن تغلق ليلا.

وهذا التخصيص ليس في لفظ الحديث ما يدل عليه كما قاله النووي، والمختار عند الأصوليين، وهو مذهب الشافعي أن تفسير الصحابي إذا كان خلاف ظاهر اللفظ ليس بحجة ولا يلزم غيره من المجتهدين موافقته على تفسيره، وأما إذا كان في ظاهر الحديث ما يخالفه فإن كان مجملا رجع إلى تأويله ويجب الحمل عليه; لأنه إذا كان مجملا لا يحل له حمله على شيء إلا بتوقيف، وكذا لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي عندنا، والأمر بتغطية الإناء عام فلا يقبل [ ص: 207 ] تخصيصه بمذهب الراوي بل يتمسك بالعموم.

وقد يقال: أبو حميد قال: أمرنا، وهذا رواية لا تفسير، وهو مرفوع على المختار ولا تنافي بين رواية أبي حميد والرواية الأخرى "في يوم" إذ ليس في أحدهما نفي للآخر فهما ثابتان.

فصل:

جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية كقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم [البقرة: 282] وليس على الإيجاب، وغايته أن يكون من باب الندب، بل قد جعله كثير من الأصوليين قسما منفردا بنفسه عن الوجوب والندب، وينبغي للمرء امتثال أمره، فمن امتثل سلم من الضرر بحول الله وقوته، ومتى -والعياذ بالله- خالف إن كان عنادا خلد فاعله في النار وإن كان عن خطأ أو غلط فلا يحرم شرب ما في الإناء أو أكله. وهذا يحقق لك أن المقصود الإرشاد.

الحديث الثالث عشر:

حديث صفية بنت حيي في اعتكافه، سلف في الصوم.

الحديث الرابع عشر:

حديث سليمان بن صرد قال: كنت جالسا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجلان يستبان، أحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان. ذهب عنه ما يجد" قالوا له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعوذ بالله [ ص: 208 ] من الشيطان" فقال: وهل بي جنون؟! هذا الحديث يأتي في الأدب، وأخرجه مسلم أيضا.

والاستعاذة من الشيطان تذهب الغضب، وذلك أنه المزين له الغضب، وكل ما لا تحمد عاقبته فهي من أقوى السلاح على دفع كيده، وقد قال - عليه السلام - في حديث أبي ذر: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فيلجلس فإن ذهب عنه وإلا فليضجع" وفي حديث عطية: "الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفئ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" وعن أبي الدرداء: "أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب" وقال بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم. وفي بعض الكتب: قال الله تعالى: "ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت".

وروى الجوزي في "ترغيبه": عن معاوية بن قرة قال: قال إبليس: أنا جمرة في جوف ابن آدم إذا غضب حميته، وإذا رضي منيته.

ولما قال عثمان بن أبي العاصي: يا رسول الله، أوصني قال: "لا تغضب" فأعاد عليه فقال: "لا تغضب" قال عثمان: فنظرت فإذا رأس كل شر الغضب.

[ ص: 209 ] وقال الحسن: ابن آدم كلما غضبت وثبت أوشك أن تثب وثبة تقع منها في النار.

و(الأوداج): جمع ودج، وإنما هما ودجان، وهما العرقان اللذان يقطعهما الذابح، وذكرهما بلفظ الجمع كقوله تعالى: وكنا لحكمهم شاهدين [الأنبياء: 78] أو لأن كل قطعة من الودج تسمى ودجا كما جاء في الحديث: (أزج الحواجب).

وقول الرجل: أبي جنون؟ يحمل على أنه كان من جفاة العرب، أو ممن لم يتفقه في الدين أو من المنافقين، ذكره المنذري.

الحديث الخامس عشر:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى صلاة فقال: "إن الشيطان عرض لي، فشد علي يقطع الصلاة علي، فأمكنني الله منه" فذكره، وسلف في الصلاة.

الحديث السادس عشر:

حديثه أيضا: "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط" الحديث، وسلف فيه أيضا.

الحديث السابع عشر:

حديثه أيضا من حديث الأعرج، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب ليطعن فطعن في الحجاب".

هذا الحديث أخرجه في موضع آخر، من حديث جلاس عنه:

[ ص: 210 ] "كل بني آدم قد طعن الشيطان فيه غير عيسى فإنه حين ولد جعل له دون طعنته حجابا فأصاب الحجاب ولم يصبها" وفي موضع لفظ آخر: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها" ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم وأخرجه مسلم أيضا.

فصل:

"الحجاب" هنا: المشيمة، كما قاله ابن الجوزي.

وفيه: فضيلة ظاهرة لسيدنا عيسى - صلى الله عليه وسلم - قال القرطبي: يشعر الشيطان بالتسليط والتمكن فمنعها الله منه; ببركة دعوة أمها حنة بنت فاقود امرأة عمران بن حاثان حين قالت: وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان .

وروى عبد الرزاق في "تفسيره" عن المنذر بن النعمان الأفطس، سمع وهب بن منبه يقول: لما ولد عيسى أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام منكسة، فقال: هذا حادث، مكانكم! وطار حتى بلغ خافقي الأرض فلم يجد شيئا، ثم جاء البحار فلم يقدر على شيء، ثم طار فوجد عيسى قد ولد عند مزود حمار، وإذ الملائكة قد حفت به، فرجع إليهم; فقال: إن نبيا قد ولد البارحة ولا حملت أنثى ولا وضعت قط إلا وأنا بحضرتها إلا هذه، فأيسوا من أن تعبد الأصنام بهذه الليلة. وفي لفظ: بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم بالخفة والعجلة.

[ ص: 211 ] وقوله: (إلا هذه) يخالف ما سلف في الصحيح، إلا أن يؤول.

وروى عبد بن حميد في "تفسيره" عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لولا أنها قالت: وإني أعيذها بك وذريتها إذن لم يكن لها ذرية.

فصل:

أشار القاضي إلى أن جميع الأنبياء يشاركون عيسى في ذلك - صلى الله عليه وسلم -.

وقال القرطبي: إنه قول قتادة: لما أراد أن يطعن جعل بينهما حجاب فأصاب الطعنة الحجاب ولم يتعد لها منه شيء. قال علماؤنا: وإن لم يكن كذلك لبطلت الخصوصية ولا يلزم من نخسه إضلال الممسوس وإغواؤه، فإن ذلك ظن فاسد، فلم يعرض الشيطان لخواص الأولياء بأنواع الإغواء والمفاسد ومع ذلك فقد عصمهم بقوله: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [الحجر: 42].

الحديث الثامن عشر:

حديث علقمة: قدمت الشام فقال: أفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه؟ يعني، عمارا; يجوز أن يكون قاله لقوله - عليه السلام -: "يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" أو يكون شهد له أن الله أجاره من الشيطان.

[ ص: 212 ] الحديث التاسع عشر: وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، أن أبا الأسود أخبره عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الملائكة تتحدث في العنان -والعنان: الغمام- بالأمر يكون في الأرض" الحديث، وقد ساقه في ذكر الملائكة كما مضى مسندا عن ابن أبي مريم: أنا الليث به، وقد أسلفنا الكلام عليه هناك، قال ابن الأعرابي: قررت الكلام في أذن الأبكم إذا وضعت فاك على سماخه فنفثته فيه.

وقال الهروي: إنه ترديدك الكلام في أذن الأبكم حتى يفهمه. قال: ومن رواه: كقر الدجاجة أراد صوتها إذا قطعته.

وقوله: ("كما تقر القارورة") يريد: تضييق رأس القارورة برأس الوعاء الذي يفرغ منه فيها.

وقوله: ("يقرها في أذن الكاهن") قاله الداودي: يلقها كما يستقر الشيء في قراره.

وقال الشيخ أبو الحسن: ظاهره أن له حسا كحس القارورة عند تحريكها مع أخرى أي: على صفاه. كذا يفهم من قوله: كقر الدجاجة أي: كما يسمع صوتها.

[ ص: 213 ] ويقال بالزاي وهو ما يسمع من حسيس الزجاجة حين يحرك بها على شيء; وقال ابن فارس: القر: صب الكلام في الأذن، والاستقرار: التمكن، وضبط: "فيقرها" في رواية بضم القاف وهو الصحيح، كما قالابن التين، كما تقرر من أن فعل متعد يضعف بالضم إلا أحرفا بينوها ليس هذا منها.

الحديث العشرون: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "التثاؤب من الشيطان" وقد سلف في الصلاة، والمعنى: فيه تحذير السبب الذي يتولد منه التثاؤب، وأضيف إلى الشيطان; لأنه الذي يعطي النفس شهوتها من الطعام ويزين له ذلك، فإذا قال: "ها" يعني إذا بلغ في التثاؤب ضحك الشيطان فرحا بذلك.

وقال الداودي: إن فتح فاه ولم يصله بسق فيه، وإن قال: "ها" ضحك منه.

الحادي والعشرون:

حديث عائشة - رضي الله عنها -: لما كان يوم أحد هزم المشركون، فصاح إبليس: أي عباد الله، أخراكم .. الحديث، ذكره في المغازي ويأتي هناك وفي الديات والمناقب.

ومعنى: (ما احتجزوا حتى قتلوه): ما تركوه، يقال لكل من ترك شيئا: احتجز عنه.

وقوله: (غفر الله لكم) عذرهم حين قتلوا أباه وهم يظنونه كافرا.

[ ص: 214 ] الحديث الثاني بعد العشرين:

حديث عائشة رضي الله عنها في الالتفات، سلف في الصلاة.

والبخاري رواه عن شيخين: سليمان بن عبد الرحمن وأبي المغيرة، واسمه عبد القدوس بن الحجاج الخولاني الحمصي، روى عنه البخاري هنا، وروي عن إسحاق -غير منسوب- عنه، ويقال: إنه إسحاق بن منصور الكوسج. وروى مسلم عن الكوسج، مات سنة اثنتي عشرة ومائتين.

وأما أبو بكر عبد القدوس بن محمد بن عبد الكبير بن شعيب بن الحبحابي البصري، روى عنه البخاري في الردة منفردا به، ليس لهما ثالث في الصحيحين، قاله الدمياطي.

ومعنى: ("هو اختلاس يختلس الشيطان من صلاة أحدكم") يعني: كأنه خطف شيئا وظفر به. وفي بعض الأثر: إذا التفت في صلاة قال الله: "أنا خير لك مما التفت إليه".

الحديث الثالث بعد العشرين: حديث أبي قتادة، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليبصق عن يساره وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لا تضره".

هذا الحديث سيأتي في التعبير والطب، وأخرجه مسلم بلفظ: " إذا رأى أحدكم ما يحب لا يحدث بها إلا من أحب، وإذا رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، [ ص: 215 ] ولا يحدث بها أحدا; فإنها لا تضره" وللنسائي: "إذا رأى أحدكم الذي يعجبه فليعرضه على ذي رأي ناصح فليتأول خيرا (أو ليقل خيرا)" وأخرجه البخاري أيضا من حديث أبي سعيد بنحوه، وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه".

فصل:

قوله: ("الرؤيا الصالحة من الله") يريد أنها بشارة منه; ليشكره عليها.

ويريد "بالحلم": الرؤيا الكاذبة يريدها الشيطان; ليسيء ظنه ويحزنه ويقل حظه من شكر الله، ولذلك أمره بالبصق عن يساره. قال ابن الجوزي: والرؤيا والحلم بمعنى واحد; لأن الحلم ما يراه الإنسان في نومه، غير أن صاحب الشرع خص الخير باسم الرؤيا، والشر باسم الحلم، ولام الحلم ساكنة ومضمومة، وهو مصدر حلمت بفتحتين، وتجمع على أحلام في القلة، والكثير حلوم، وإنما جمع وإن كان مصدرا لاختلاف أنواعه، وهو في الأصل عبارة عما يراه الرائي في منامه حسنا كان أو مكروها، كما أسلفناه. وإضافته إلى الله إضافة اختصاص وإكرام; لسلامتها من التخليط وطهارتها عن حضور [ ص: 216 ] الشيطان; لكونها مكروهة. وقيل: لأنها لا توافق الشيطان ويستحسنها لما فيها من شغل بال المسلم لا أن الشيطان يفعل شيئا، ولا خالق إلا الله.

وقوله: ("فإذا حلم") هو بفتح اللام، قال ابن التين: وبضمها في المنام، وحلم عنه إذا عفا عنه بضمها. وحلم الأديم -بكسرها- إذا نتنت قبل أن تدبغ.

وقوله: ("فليبصق") يريد: زجر الشيطان بذلك كرمي الجمار، وكما يفعل عند الشيء القذر يراه، ولا (شيء) أقذر من الشيطان. وذكر الشمال; لأن العرب عندها إتيان الشر كله من قبل الشمال، ولذلك سمتها الشؤمى، وكانوا يتشائمون مما جاء من قبلها من الطير. وأيضا فليس فيها كبير عمل ولا بطش ولا أكل ولا شرب.

فائدة:

الرؤيا المكروهة هي التي تكون عن حديث النفس وشهواتها، وكذلك رؤيا التحزين والتهويل والتخويف يدخله الشيطان على الإنسان; ليهوش عليه في اليقظة.

وقد يجمع هذان الشيئان، أعني: هموم النفس وتحزين الشيطان، وهذا النوع هو المأمور بالاستعاذة منه; لأنه من تخيلاته، فإذا فعل المأمور به صادقا أذهب الله عنه ما أصابه من ذلك، وتحوله إلى الجانب الآخر; ليكمل استيقاظه وينقطع عن ذلك المنام المكروه. وسيأتي له تكملة في الرؤيا.

[ ص: 217 ] الحديث الرابع بعد العشرين:

حديث أبي هريرة: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر من ذلك".

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا والترمذي، زادا -والنسائي أيضا - "ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر" وجه إيراده للحرز من الشيطان بذلك.

الحديث الخامس بعد العشرين:

حديث سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر. قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله. قال: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قلن نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك".

وهذا الحديث رواه البخاري، عن علي بن عبد الله، ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الحميد بن [ ص: 218 ] عبد الرحمن بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، أخبرني عن أبيه: استأذن عمر.

وهذا إسناد اجتمع فيه أربعة تابعيون بعضهم عن بعض، صالح بن كيسان فمن بعده، ورواه النسائي بنزول جدا، رواه عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، عن الليث، عن أبيه، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح، به.

وأخرجه أيضا في الفضائل، وأخرجه النسائي أيضا في "يومه وليلته".

فصل:

معنى (يستكثرنه): يطلبن كثيرا من كلامه وجوابه، ويحتمل أن يكون من العطاء، يؤيده أنه ورد في رواية أنهن يردن النفقة.

وقوله: (أصواتهن) هو الصواب، وأصواتهم لا وجه له، وكذلك أصواتها.

وكذا قوله: ("التي كن عندي") إلا أنها قرينة بالذي يعبر بها عن الجميع، مثل قوله: وخضتم كالذي خاضوا [التوبة: 69].

وعلو أصواتهن يحمل على أنه قبل النهي عن رفع الصوت، أو يحمل على أنهن لاجتماعهن حصل لغط من كلامهن أو يكون فيهن من هي جهيرة الصوت كنعيم النحام أو يحمل على أنهن لما علمن عفوه وصفحه تسمحن في رفع الصوت.

[ ص: 219 ] والفظاظة والغلظ بمعنى واحد، وهي عبارة عن شدة الخلق وخشونة الجانب، وأفظ وأغلظ ليسا للمفاضلة، بل بمعنى فظ غليظ. وقيل: يصح حملها على المفاضلة، وأن القدر الذي بينهما في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ما كان من إغلاظه على الكفار والمنافقين قال تعالى: جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [التوبة: 73].

وفيه: فضل لين الجانب والرفق.

ومعنى: (ابتدرن الحجاب): استبقن إليه، والفج: الطريق الواسع، وقيل: هو الطريق بين الجبلين. قال عياض: يحتمل أنه ضرب مثلا لبعد الشيطان وأعوانه عن عمر، وأنه لا سبيل لهم عليه، أي: أنك إذا سلكت في أمر بمعروف أو نهي عن منكر تنفذ فيه ولا تتركه، فيئس الشيطان من أن يوسوس فيه له بتركه ويسلك غيره، ليس المراد به الطريق على الحقيقة; لأن الله تعالى قال:يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم فلا مخافة أذى يصيبه في فج; لأنه لا يراه.

الحديث السادس بعد العشرين:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه".

والخيشوم: الأنف. وقال الداودي: هما المنخران.

وقوله: ("فليستنثر"): يدخل فيه فليستنشق; لأن الاستنثار لا يكون إلا بعده.

التالي السابق


الخدمات العلمية