التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
3616 3828 - وقال الليث: كتب إلي هشام، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنهما- قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول:

[ ص: 442 ] يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيكها مئونتها. فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مئونتها. [فتح: 7 \ 143]


هو ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح العدوي، والد أحد العشرة سعيد بن زيد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "يبعث أمة وحده"، مات قبل المبعث، قال سعيد بن المسيب: توفي وقريش تبني الكعبة قبل نزول الوحي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخمس سنين.

وعن زكريا السعدي أنه لما مات دفن بأصل حراء.

ولابن إسحاق أنه لما توسط بلاد لخم عدوا عليه.

وعند الزبير قال هشام: بلغنا أن زيدا كان بالشام فلما بلغه خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أقبل يريده فقتله أهل ميفعة.

قال البكري: وهي قرية من أرض البلقاء بالشام، وهو مذكور في كتب الصحابة.

وإيراد البخاري يميل إليه.

ثم ساق البخاري من حديث موسى، ثنا سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الوحي، فقدمت

[ ص: 443 ] إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- سفرة، فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم.. الحديث.

قال موسى: حدثني سالم بن عبد الله، ولا أراه إلا يحدث عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام، يسأل عن الدين ويتبعه، فاجتمع بعالم من اليهود، وعالم من النصارى، فدلوه على دين إبراهيم، فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم.

وقال الليث: كتب إلي هشام، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموءودة.. الحديث.

وتعليق الليث أسنده ابن سعد عن أبي أسامة حماد بن أسامة، ثنا هشام فذكره، وابن إسحاق أخرجه عن هشام فقال: ثنا هشام فذكره، ويجوز أن يكون من رواية عبد الله بن صالح عنه كغالب عادته. وأخرجه البخاري في الصيد من حديث موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه أنه سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- يحدث أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذلك قبل نزول الوحي.. الحديث.

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من وجوه:

أحدها:

(بلدح) بباء موحدة ثم لام ثم دال مهملة ثم حاء مهملة أيضا: واد

[ ص: 444 ] قبل مكة من جهة الغرب، قاله عياض، وقال البكري: موضع في ديار بني فزارة، وهو واد في طريق التنعيم إلى مكة، وفيه ورد المثل: لكن على بلدح قوم عجفى. قاله مهيس بن صهيب الفزاري، وقال ابن دريد: ابن خلدة.

ثانيها:

السفرة التي قدمتها قريش لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأبى أن يأكل منها، وقدمها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لزيد فأبى، ذكره ابن بطال.

و(الأنصاب) جمع نصب بضم الصاد وسكونها، وهي حجارة كانت حول الكعبة يذبحون لها. قال الطبري: لم تكن أصناما; لأن الأصنام كانت تماثيل وصورا مصورة، والنصب كانت حجارة مجموعة.

وقال ابن التين: قوله: (فأبى أن يأكل). يريد: أن زيدا هو الذي أبى، وإباؤه خوفا مما ذكر، وسبب ما أسلفناه أنه يبعث أمة وحده، أنه كان منفردا بدين لا يشركه فيه أحد. قال الخطابي: وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يأكل من ذبائحهم لأصنامهم، فأما ذبحهم لمأكلهم فلم نجد في ذلك شيئا من الأخبار أنه كان يتنزه منها، ولا أنه كان لا يرى الذكاة واقعة لفعلهم قبل نزول الوحي بتحريم ذبائح الشرك، فقد كان بين ظهرانيهم، ولم يذكر أنه كان لا يتميز عليهم إلا في أكل الميتة، وكانت قريش وقبائل العرب يتنزهون عن أكل الميتات.

[ ص: 445 ] قال الداودي: كان- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه لا يدري ما في ذبائحهم، لا يعلم إلا ما علم، وكان زيد علم ذلك فكان يعيب على قريش، والأرض لا تخلو من قائم لله.

وقال السهيلي: إن قلت: كيف وفق الله زيدا إلى ترك أكل ذلك، وسيدنا أولى بالفضيلة في الجاهلية لما بينت من عصمته.

قلت: عنه جوابان:

أحدهما: أنه ليس في الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- أكل منها، وإنما فيه أن زيدا لما قدمت له أبى أن يأكل.

ثانيها: أن زيدا إنما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع متقدم، وإنما تقدم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا تحريم ما ذبح لغير الله، وإنما نزل بتحريم ذلك الإسلام، وبعض الأصوليين يقول: الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، وإن قلنا بالوقف، وهو الأصح، فالذبائح لها أصل في كامل الشرع المتقدم كالشاة والبعير ونحو ذلك مما أحله الله في دين من كان قبلنا، ولم يقدح في التحليل المتقدم ما ابتدعوه حتى جاء الإسلام، وأنزل الله: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [الأنعام: 121] ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب عندنا على أصل التحليل بالشرع المتقدم، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان، فكذلك ما كان ذبحه أهل الأوثان محللا بالشرع المتقدم حتى خصه القرآن بالتحريم.

ثالثها:

الموءودة التي كان زيد يمنع من وأدها، وفي مفعوله من وأده إذا

[ ص: 446 ] أثقله، وزعم أهل العرب أنهم كانوا يفعلون ذلك; غيرة على البنات، وهو الخوف خشية إملاق، وذكر النقاش في "تفسيره": أنهم كانوا يئدون من البنات من كان منهن زرقاء أو برشاء أو شيماء أو كشحاء؟ تشاؤما منهم بهذه الصفات.

رابعها:

أنكر الداودي قوله عن عالم اليهود: (ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا)، وقال: لا أراه بمحفوظ، وإنما قال ذلك النصراني وحده، كذا ادعى.

والحنيف: المسلم، وأصله المائل إلى الإسلام.

قوله: (فإذا ترعرعت) أي: صلحت للأزواج.

فائدة تتعلق يزيد بن عمرو بن نفيل:

روى الطبري من حديث فضيل، عن هشام بن سعيد بن زيد، عن أبيه، عن جده، وقال الزبير: ثنا عمر، عن الضحاك بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن زيد فقال: "غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم".

وروى ابن سعد في "طبقاته":

عن عامر بن ربيعة، قال: قال زيد بن عمرو: يا عامر، إني قد خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل، وما كان يعبدانه، وكانوا يصلون إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل يبعث ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه، وأشهد أنه نبي وإن طالت بك مدة قرابته، فأقرئه مني السلام.

[ ص: 447 ] (زاد الطبراني) : وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك، هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليس بفارق عليه، وخاتم النبوة بين كتفيه واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، وإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك وينعته مثل نعتي لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره. قال عامر: فلما أسلمت أخبرت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقوله وأقرأته منه السلام فرد عليه السلام وترحم عليه، قال: "قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا".

التالي السابق


الخدمات العلمية