التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
3694 3905 - حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- قالت: لم أعقل أبوى قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة - وهو سيد القارة - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا: لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به; فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا

[ ص: 525 ] مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل. والنبي- صلى الله عليه وسلم- يومئذ بمكة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- للمسلمين: "
إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين". وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو- الخبط- أربعة أشهر.

قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متقنعا- في ساعة لم يكن يأتينا فيها،- فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: " أخرج من عندك". فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله. قال: "فإني قد أذن لي في الخروج". فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "نعم". قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "بالثمن". قالت عائشة فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب; فبذلك سميت ذات النطاق- قالت: ثم لحق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة- مولى أبي بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما

[ ص: 526 ] حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا- والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.
[انظر: 476- فتح: 7 \ 230]

التالي السابق


الخدمات العلمية