التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
3770 3991 - وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري، يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الاسلمية، فيسألها عن حديثها وعن ما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استفتته، فكتب عمر بن عبد الله بن الأرقم إلى عبد الله بن عتبة يخبره أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد ابن خولة - وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدرا - فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك - رجل من بني عبد الدار - فقال لها: ما لي أراك تجملت للخطاب ترجين النكاح؟ فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت على ثيابي حين أمسيت،

[ ص: 55 ] وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك،
فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي.


تابعه أصبغ عن ابن وهب، عن يونس.

وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب وسألناه فقال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان - مولى بني عامر بن لؤي- أن محمد بن إياس بن البكير - وكان أبوه شهد بدرا - أخبره [5319- مسلم: 1484 - فتح:7 \ 310]


ذكر فيه ثمانية أحاديث:

أحدها:

حديث حمزة بن أبي أسيد والزبير بن المنذر بن أبي أسيد، عن أبي أسيد قال: قال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "إذا أكثبوكم فارموهم، واستبقوا نبلكم".

حمزة هذا -وأبو أسيد بضم أوله، اسمه مالك بن ربيعة الساعدي- يروي عن أبيه، وعنه ابناه مالك ويحيى وغيرهما، من أفراد البخاري دون مسلم، والزبير ساعدي أيضا، يروي عن أبيه، وأبو أسيد اسمه مالك بن ربيعة كما رويناه ساعدي بدري خزرجي، عنه ابناه حمزة والزبير، مات - في قول المدائني سنة ستين، وفي قول الواقدي وخليفة سنة ثلاثين ، قيل: هو آخر البدريين، وقيل في اسمه: هلال بن ربيعة، ومالك أشهر كما قدمناه.

وأكثبوكم بالثاء المثلثة، يقال: من كثب، وأكثب إذا قارب، والهمزة في أكثبوكم لتعدية كثب; فلذلك عداها إلى ضمير هم ثم فسر البخاري فقال: أكثبوكم: أكثروكم .

[ ص: 56 ] ومحمد بن عبد الرحيم هو صاعقة، مات سنة خمس وخمسين ومائتين.

ثنا أبو أحمد الزبيري واسمه محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأزدي، مولاهم الكوفي -ثنا عبد الرحمن بن الغسيل وهو- أبو سليمان عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة الغسيل.

عن حمزة بن أبي أسيد والمنذر بن أبي أسيد عن أبي أسيد قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إذا أكثبوكم -يعني: كثروكم- فارموهم، واستبقوا نبلكم".

قلت: وهذا التفسير ليس معروفا عند أهل اللغة كما قاله الدمياطي، وقال الهروي: في الحديث: "إذا أكثبكم القوم فانبلوهم"، يقول: إن قاربوكم فارموهم، وفي حديث آخر: "إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل " أي: قربوا منكم. قال الهروي: فلعلهما لغتان ، ولعله يشير إلى كثب، وأكثب كما أسلفناه، وقال الداودي: أراه يريد ارموهم بالحجارة، فإنه لا يكاد يخطئ إذا رمى في الجماعة ويستبقي النبل للمصافة، وكأنه رأى معنى أكثبوكم، أي: كثروا كما في البخاري، والذي ذكره ابن فارس: أكثب الصيد: إذا أمكن من نفسه ، فالجماعة على أن أكثبوكم: قاربوكم، ولعله يريد: ارموهم ببعض النبل ولا ترموهم

[ ص: 57 ] بجميعها، ويدل على صحته قوله في الحديث الآخر، ذكره أبو عبيدة الهروي ثم ذكر ما سلف، وقال: جعله ثلاثيا. قيل: وهي لغتان، والنبل: جمع نبلة، وقيل: لا واحد لها من لفظه.

الحديث الثاني:

وهو ثالث حديث البراء بن عازب قال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرماة يوم أحد عبد الله بن جبير، فأصابوا منا سبعين، وكان - عليه السلام - وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال.

عبد الله هذا هو ابن جبير بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس، وهو البرك بن ثعلبة بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأوسي عقبي بدري، قتل يوم أحد، وكان يومئذ أمير الرماة، وكانوا خمسين وهو أخو خوات بن جبير، وحبتة كلهم أسلم، وأمهم من بني عبد الله بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان.

الحديث الرابع:

حديث أبي بردة، عن أبي موسى -أراه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد، وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد بدر".

الحديث الخامس:

حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أبي جهل، وفي آخره: وهما ابنا عفراء.

الحديث السادس:

حديث ابن شهاب قال: أخبرني عمر بن أسيد بن جارية - وهو عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة،

[ ص: 58 ] وكان من أصحاب أبي هريرة - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عشرة عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب.

فذكر قصة غزوة الرجيع وأن خبيبا قتل الحارث بن عامر يوم بدر، وسيأتي بعد أحد أيضا ، وسلف في الجهاد في باب استئسار الرجل .

قال الجياني: جاء في نسخة أبي زيد المروزي: ابن أسيد غير مسمى، وكذا في نسخته عن النسفي عن البخاري، وعند ابن السكن: عمر بن أسيد بضم العين، وفي رواية الأصيلي: عمرو، واختلف أصحاب الزهري عليه في اسمه، فذكر محمد بن يحيى، عن معمر والزبيدي وشعيب وعقيل عنه: عمرو وكذلك قال يونس بن يزيد من رواية ابن وهب، وكذلك قال محمد بن أبي عتيق وفي رواية يونس وابن أخي الزهري وإبراهيم بن سعد: عمر، ونسبه إبراهيم إلى جده فقال: عمر بن أسيد قال البخاري: عمرو أصح .

وأخرجه ابن سعد من حديث ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، ومن حديث ابن شهاب عن عمر بن أسيد بن العلاء بن جارية الثقفي قالا: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهط من عضل والقارة، فقالوا: إن فينا إسلاما وابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا ويقرءونا القرآن. فبعث معهم عشرة رهط: عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، ومرثد بن أبي مرثد، وعبد الله بن طارق، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة،

[ ص: 59 ] وخالد بن البكير، ومعتب بن عبيد، وهو أخو عبد الله بن طارق لأمه، وهما من بلي حليفان في بني ظفر، وأمر عليهم عاصما، وقال قائل: مرثد بن أبي مرثد حتى إذا كانوا على الرجيع -وهو ماء لهذيل بصدور الهدة على سبعة أميال منها والهدة على سبعة أميال من عسفان كما يأتي، وكانت في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة، كذا قاله ابن سعد ، وعند ابن إسحاق: كانت في صفر سنة أربع بعد أحد، وجزم بإمرة مرثد، وعند أبي معشر: كانوا تسعة، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد يقال كانوا ستة .

وكانت في سنة ثلاث، وخرج - صلى الله عليه وسلم - في سنة خمس فطلب بثأر خبيب وأصحابه، وعند الواقدي في "مغازيه": لما حمل سويد بن خالد بن نبج الهذلي مشت بنو لحيان إلى عضل والقارة، فجعلوا لهم فرائض على أن يقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكلموه; ليخرج لهم نفرا من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام لنقتل من قتل صاحبنا، ثم نخرج بسائرهم إلى قريش حتى نصيب منهم بمنى، فقدم سبعة من عضل والقارة.

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من وجوه:

أحدها:

قوله: (جد عاصم بن عمر بن الخطاب) كذا هنا، وإنما هو خاله لا جده كما نبه عليه الدمياطي، وقد أسلفناه هناك أيضا.

ثانيها:

قوله: (حتى إذا كانوا بالهدأة) كذا هو بفتح الهاء والهمزة وسكون

[ ص: 60 ] الدال، وفي طريق ابن سعد بالهدة، كما سلف بفتح أوله وثانيه ، ويقال بغير تعريف، والنسبة إليه هدوي على غير قياس، قاله ابن الأنباري فذكر عن ابن أبي حاتم قال: سألت أهل هدة من ثقيف لم سميت هدة؟ فقالوا: إن المطر يصيبهم بعد هدأة من الليل، قال أبو عبيد البكري: وهذا النسب لا يشبه ذلك إلا أن تتوهم محولة ياء، ثم ينسب إليها. قال أبو حاتم: والنسبة بمغيرة الكلام، ومن أعجب ذلك قوله في النسب إلى بكرة بكراوي، وقد روي عن أبي حاتم أن هدة بين مكة والمدينة ، وعند ابن سعد: هي على سبعة أميال من عسفان ، وذكر الخشني أنها رويت بتخفيف الدال وتشديدها، وقال ابن السراج: أراد الهدأة فنقل الحركة فهو مخفف على هذا.

ثالثها:

قوله: (فلما أحس بهم عاصم) كذا هو بالألف، وذكره ابن التين بحذفها، وقال: صوابه الألف، أي: علم، قال تعالى هل تحس منهم من أحد ثم ادعى أنه كذلك في بعض الروايات.

رابعها:

قوله: (فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم، أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب وزيد بن الدثنة، ورجل آخر) هذا الرجل هو عبد الله بن طارق حليف بني ذمر. وقوله قبله: (قتلوا عاصما) قتلوا معه أيضا مرثد بن أبي مرثد

[ ص: 61 ] الغنوي
وخالد بن بكير الليثي، كما رواه ابن سعد، فأتى عاصم ومرثد وخالد ومعتب، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا فقاتلوا حتى قتلوا، وأما خبيب وزيد وعبد الله بن طارق فاستأسروا، وعند أبي معشر فقال خبيب وزيد: لنا عندهم يد لعلهم يعفوا فاستأسروا، قال ابن سعد: وأرادوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكانت نذرت لتشربن الخمر في قحف عاصم وكان قتل ابنيها سافعا وجلاسا يوم أحد فحمته الدبر .

خامسها:

قوله: (فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم وربطوهم بها. فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر) عند ابن إسحاق وابن سعد وغيرهما: وخرجوا بالنفر الثلاثة، حتى إذا كانوا بمر الظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران وأخذ سيفه واستأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بمر الظهران، فابتاع حجير بن أبي إهاب خبيبا لابن أخيه عقبة بن الحارث بن عامر خال أبي إهاب ليقتله بأبيه ، وكذا في البخاري، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، وابتاع زيدا صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، وعند أبي معشر: اشترى خبيبا ابنة أبي سروعة واشترك معها ناس، وعند الواقدي: اشترى صفوان زيدا بخمسين فريضة ، ويقال: إنه شرك فيه أناس من قريش، وخبيب ابتاعه حجير بثمانين مثقال ذهب، ويقال: بخمسين فريضة، ويقال: اشترته ابنة الحارث

[ ص: 62 ] بمائة من الإبل، وعند معمر : اشتراه بنو الحارث بن نوفل، وعند ابن عقبة: اشترك في ابتياع خبيب أبو إهاب بن عزير وعكرمة بن أبي جهل والأخنس بن شريق وعبيدة بن حكيم بن الأوقص، وأمية بن أبي عتبة، وبنو الحضرمي، وشعبة بن عبد الله، وصفوان بن أمية، وهم أبناء من قتل من المشركين ببدر، ودفعوه إلى عقبة بن الحارث فسجنه في داره.

واعترض الدمياطي على رواية البخاري، وكان السبب هو قتل الحارث بن عامر، فقال: لم يقتل خبيب هذا، وهو أحد بني (جحجبي) الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، ولم يشهد بدرا والذي شهد بدرا وقتل فيها الحارث هو خبيب بن يساف بن عتبة بن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج، وخبيب بن عدي أحد بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، شهد

أحدا، ومات خبيب بن يساف في زمن عثمان.

سادسها:

قوله في الرجل الثالث: (فجرروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم) لم يبين ما فعلوا به، وبين في غير هذا الحديث في باب غزوة الرجيع أنهم قتلوه.

سابعها:

قولها: (والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب .. إلى آخره) قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح حدث عن ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت قالت: كان خبيب حبس في

[ ص: 63 ] بيتي، فلقد اطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه.

ثامنها:

قوله: (فاستعار من بعض بنات الحارث موسى فدرج بني لها) إلى آخره ذكره ابن إسحاق عن عاصم بن عمر وابن أبي نجيح جميعا.

ماوية المذكورة أن خبيبا قال لها: ابعثي إلي بحديدة، قالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت: ادخل بها على هذا الرجل البيت، قالت: فوالله إن هو إلا أن ولى الغلام بها، قلت: ما صنعت أصاب الرجل والله ثأره بقتل هذا الغلام. فلما ناوله الحديدة قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حتى تبعثك بهذه الحديدة إلي. وهو معنى قول البخاري: قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. وعند ابن عقبة عن الزهري أنه قال لزوج عقبة: ابعثي حديدة فأعطته موسى، ودخل ابن المرأة التي تلي أمره، والموسى في يده، فقال: وهو يمزح هل أمكن الله منكم؟ فقالت: (ما هذا) ظني بك. وقال: إنما كنت مازحا.

وعند الزبير بن أبي بكر: وأبو حسين بن الحارث بن عامر بن نوفل هو الذي دسه إلى خبيب فجعله في حجره، ثم قال لحاضنته: ما كان يؤمنك أن أذبحه، وعند عبد الدائم القيرواني في "حلاه": نزل في خبيب: يا أيتها النفس المطمئنة الآية. ولما صلب جعل وجهه إلى القبلة الأولى فوجدوه قد رجع إلى هذه القبلة، فأداروه فلم يقدروا عليه مرارا فتركوه.

[ ص: 64 ] تاسعها:

قوله: (ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله) عند ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث قال: سمعته يقول: والله ما أنا قتلت خبيبا لأني كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ يدي وبالحربة، ثم طعنه بها حتى قتله ، وعند الحاكم في "إكليله": رموا زيدا بالنبل وأرادوا فتنته، فلم يزدد إلا إيمانا، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال وهو جالس في اليوم الذي قتلا فيه: "وعليكما - أو عليك - السلام، خبيب قتلته قريش" ولا ندري أذكر زيدا أم لا، وزعموا أن خبيبا دفنه عمرو بن أمية، وعند البيهقي في "دلائله": أن خبيبا لما قال: اللهم إني لا أجد رسولا إلى رسولك يبلغه عني السلام، جاء جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ذلك ، قال ابن سعد: وكانا صليا ركعتين ركعتين قبل أن يقتلا .

وفي البخاري: أن خبيبا هو الذي صلاهما، وذكر السهيلي أن زيد بن حارثة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكترى من رجل جعلا من الطائف، فمال به إلى خربة فأنزله، فإذا بالخربة قتلى، فلما أراد أن يقتله قال له: دعني أصلي ركعتين، قال: صل فقد صلى قبلك هؤلاء

[ ص: 65 ] فما نفعتهم صلاتهم، فلما صليت أتاني ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين ثلاثا، فإذا بفارس بيده حربة حديدة فيها شعلة نار، فطعنه بها، فأنفده من ظهره، فوقع ميتا، وقال: لما دعوت الأولى كنت في السماء السابعة، وفي الثانية كنت في السماء الدنيا، وفي الثالثة جئتك .

قلت: يؤيده ما رواه أحمد في "مسنده" من حديث أبي أمامة مرفوعا: "إن لله تعالى ملكا موكلا بمن يقول يا أرحم الراحمين، فمن قالها ثلاثا قال له الملك: إن الله أرحم الراحمين قد أقبل عليك فسل" ، وذكر أبو يوسف في "لطائفه" عن الضحاك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة: ابعث إلينا بقراء من علماء أصحابك يعلمونا الدين فقد أسلمنا، فبعث إليهم جماعة فيهم خبيب، فذكر الحديث، وفيه فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أيكم ينزل خبيبا من خشبته وله الجنة" فقال الزبير: أنا والمقداد، قالا: فوجدنا حول الخشبة أربعين رجلا فأنزلناه، فإذا هو رطب ولم يتغير بعد أربعين يوما، ويده على جرحه وهي تبض دما كالمسك، فحمله الزبير على فرسه، فلما لحقه الكفار قذفه فابتلعته الأرض; فسمي بليع الأرض.

وفي البخاري: وأخبر -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم أصيبوا بخبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قتل أن يؤتوه بشيء يعرف، وكان قتل رجلا من عظمائهم، فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا أن يقطعوا من لحمه شيئا.

[ ص: 66 ] عاشرها:

قول أبي هريرة - رضي الله عنه -: (فكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة) فهو ظاهر في رفعه مثل قوله: فصارت سنة. وقد سلف فعله عن غيره أيضا، وكذا فعل زيد بن حارثة، قال السهيلي: هذا يدل أنها سنة جارية، وكذا فعل حجر بن عدي بن الأدبر حين قتله معاوية، وفيما يأتي سنة حسنة، والسنة: إنما هي أقوال من الشارع أو أفعال أو تقرير; لأنه فعلها في حياته، فاستحسن ذلك من فعله واستحسنه المسلمون، مع أن الصلاة خير ما ختم به عمل العبد .

الحادي عشر:

قوله: (وقال كعب بن مالك: ذكروا مرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية الواقفي، رجلين صالحين قد شهدا بدرا) هذا يأتي مسندا في غزوة تبوك وغيرها، واعترض الدمياطي فقال: لم يذكر أحد أن مرارة وهلالا شهدا بدرا إلا ما جاء في حديث كعب هذا، وإنما ذكرا في الطبقة الثانية من الأنصار ممن لم يشهد بدرا وشهدا أحدا.

الثاني عشر:

(الدبر) -بفتح الدال المهملة وكسرها، ثم باء موحدة ساكنة- قال السهيلي: هو ههنا: الزنابير، وأما الدبر فصغار الجراد، ومنه يقال: مال دبر، قاله أبو حنيفة، قال: ويقال للنحل دبر بالفتح، وواحدها دبرة، ويقال له: خشرم، ولا واحد له من لفظه، هذه رواية أبي عبيد

[ ص: 67 ] عن الأصمعي، ورواية غيره عنه أن واحده خشرمة .

قلت: نقل أبو حنيفة عن غير أبي عبيد: أن واحدها دبرة، وكذا قاله الخطابي. قال أبو حنيفة: وهو عند من رأينا من الأعراب: الزنابير، وهو المشهور. قال الأصمعي: وجمع الدبر: دبور، وقال الباهلي: الدبر: النحل، والدبر، والجمع: الدبور، وذكر بعض الرواة أنه يقال لأولاد الجراد: الدبر، وقول العرب: ما له دبر منه مراد للكثرة قال أبو حنيفة: وحمى الدبر وإنما حمته الزنابير لا النحل، فالدبر على هذا هو الجنسان جميعا، وقال أبو خيرة، وأصحابه: الدبر: الزنابير، وعبارة الداودي: طائر صغير فوق الذباب حماه الله بها. وعبارة الهروي وابن فارس: الدبر: النحل ، وقال أبو عبد الملك: الدبر: ذكر النحل، وكباره .

الثالث عشر:

الدثنة مقلوب من الثدنة كما قاله السهيلي ، والثدن: استرخاء اللحم. هذا كلامه، وقد ذكر أهل اللغة أنه يقال: دثن الطائر: إذا طار فأسرع السقوط في مواضع متقاربة فدثن في الشجرة: اتخذ فيها عشا، والدثينة: الدنية، فيحتمل أنها سميت بواحدة من هذه، وما ذكره من أن الثدن: استرخاء اللحم يخالف قوله: ثدن الرجل: إذا أكثر فيه اللحم، وامرأة ثدنة: لحمة في سماجة، وقيل: مسمنة، قال كراع:

[ ص: 68 ] الثاء في مثدنة بدل من الفاء في مفدن مشتق من الفدن وهو القصر، وضعفه ابن سيده; لأنا لا نسمع مفدنا، وقال ابن جني: من الثندوة مقلوب منه، وليس بشيء، وامرأة ثدنة: ناقصة الخلق، عنه أيضا .

فائدة:

الدثنة أمه. وأبوه أبو معاوية الأنصاري، وهو أحد من عرف بأمه في جماعة كثيرة أفردوا في جزء.

الرابع عشر:

قوله: (واقتلهم بددا) وروي بكسر الباء الموحدة فمن كسر فهو جمع بدة وهي الفرقة والقطعة من الشيء المتبدد، ونصبه على الحال من المدعو عليه، ومن فتح فهو مصدر بمعنى التبدد، وروي بالضم، فإن قلت: فهل أجيبت فيهم دعوة خبيب إذ الدعوة على تلك الحال من مثل هذا العبد مستجابة؟ قلت: أصاب منهم من سبق في علم الله أنه يموت كافرا، ومن أسلم منهم فلم يعنه خبيب، ولا قصده بدعائه، ومن قتل منهم بعد هذه الدعوة، فإنما قتلوا بددا غير معسكرين، ولا مجتمعين كاجتماعهم في أحد، وقبل ذلك ببدر، وإن كانت الخندق بعد قصة خبيب فقد قتل منهم فيها آحاد متبددون ثم لم يكن بعد ذلك جمع ولا معسكر غزو فيه، فنفذت الدعوة على صورتها، وفيمن أراد خبيبا، وحاشاه أن يكره إيمانهم وإسلامهم، نبه عليه السهيلي .

الخامس عشر:

فيه إثبات كرامات الأولياء.

[ ص: 69 ] وقوله: (لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت) هذا صواب; لأنه خبر أن، وأورده ابن التين بلفظ: لولا أن تحسبوا أن بي جزعا. قال: وصوابه ما ذكرت.

السادس عشر: قوله: ثم أنشأ يقول:


فلست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان لله مصرعي     وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع



زاد ابن هشام، وقال: (أكثر) أهل العلم بالشعر ينكرها له.


لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا     قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهدا     علي لأني في وثاق مضيع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم     وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي     وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي     فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الإله ..

إلى آخره

وقوله أولا: فلست أبالي) .


وقد خيروني الكفر والموت دونه     وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت أني لميت     ولكن حذاري حجم نار ملفع
ووالله ما أرجو إذا مت مسلما     على أي جنب كان في الله مصرعي
ولست بمبد للعدو تخشعا     ولا جزعا إني إلى الله مرجعي



[ ص: 70 ] وقوله: أولا: (فلست أبالي) أي: إذا كنت مسلما أقتل في ذات الله، فلست أكترث بما جاءني.

و (المصرع): موضع سقوط الميت، وشلو الإنسان وغيره: جسده، والجمع أشلاء، والشلو أيضا: العضو من الجسد، واحتج من قال: إنه الجسد بقوله: أوصال شلو والأوصال: الأعضاء والممزع: المفرق مزعا، وأصله من مزع القطن يمزع مزعة، والعرب تقول: يكاد فلان يمزع من الغيظ، أي: يقطع قطعا، وقد أوضحنا الكلام أيضا على ذلك في المشار إليه في الجهاد، وأعدناه لبعد العهد به.

الحديث السابع:

حديث نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر له أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - وكان بدريا- مرض في يوم الجمعة، فركب إليه بعد أن تعالى النهار واقتربت الجمعة، وترك الجمعة.

سعيد هذا بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلحة بن عبيد الله إلى طريق الشام يتحسسان أخبار العير، ففاتهما بدر، فضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهميهما وأجرهما.

وفيه: أن الرجل يشتغل مع المريض. قال ابن التين: وترك الجمعة وهذا إذا لم يكن معه من يقوم به.

قلت: هذا لأجل قرابته منه، وهو عذر، وإن كان له متعهد.

الحديث الثامن:

وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري، يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث فذكره بطوله.

[ ص: 71 ] تابعه أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس.

وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب وسألناه فقال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان -مولى بني عامر بن لؤي- أن محمد بن البكير وكان أبوه شهد بدرا.

وسيأتي الحديث في النكاح إن شاء الله.

وفيه: جواز المكاتبة بالعلم وبه أخذ من قال بالإجازة وهو أحد طرق الرواية.

وفيه: أن سعد بن خولة شهد بدرا، وهو يرد على ابن مزين في قوله: إنما رثى له لأنه لم يهاجر.

وهو من أهل اليمن حليف بني عامر بن لؤي، كنيته: أبو سعيد هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة ونزل على كلثوم بن الهدم، وشهادته لبدر كانت وهو ابن خمس وعشرين سنة، وشهد أحدا والخندق والحديبية، وخرج إلى مكة فمات بها قبل الفتح، وقيل: إنه مولى بني رهم بن عبد العزى العامري، ولما كان يوم الفتح مرض سعد بن أبي وقاص فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده لما قدم من الجعرانة معتمرا فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم"، لكن البائس سعد بن خولة يرثى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة .

[ ص: 72 ] وفيه أبو السنابل، واسمه حبة بن بعكك بن الحارث بن السباق أخي عثمان، وعبد مناف أولاد عبد الدار بن قصي وهو من المؤلفة قلوبهم كما نبه عليه ابن التين.

وإياس بن البكير هو أخو خالد، وعاقل وعامر بنو أبي البكير. هذا قول أبي معشر والواقدي، وكان موسى بن عقبة وابن إسحاق وهشام والكلبي يقولون: بنو البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة حالف أبو البكير في الجاهلية نفيل بن عبد العزى جد عمر بن الخطاب وشهد أربعتهم بدرا وأحدا وما بعدها، وقتل خالد في صفر سنة أربع يوم الرجيع مع عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح حمي الدبر.

وأصبغ المذكور في الإسناد هو ابن الفرج بن سعيد بن نافع أبو عبد الله المصري الفقيه مولى عبد العزيز كاتب ابن وهب، مات سنة خمس وعشرين، وقيل: سنة ست وعشرين، وقيل: سنة عشرين ومائتين، قال ابن معين: كان [من أعلم] خلق الله برأي مالك.

ومعنى (تعلت من نفاسها) أي: استقلت وذهب عنها ضرر النفاس، وقيل: طهرت من دمها. قاله ابن فارس والخطابي .

وقوله قبله: (فلم تنشب) أي: لم تلبث. وقوله (ما أنت بناكح) أي: بمزوجة، يقال: امرأة ناكح مثل حائض وطامث، ولا يقال: ناكحة إلا إذا

[ ص: 73 ] أرادوا بناء الاسم لها من الفعل فقال: نكحت فهي ناكحة، وقولها: (فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي) تريد وإن لم تعل من نفاسها كما تتزوج الحائض، وهو قول أكثر الصحابة والفقهاء ، وتأولوا قوله تعالى:يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [البقرة: 234] في الحائل دون الحامل، عملا بالآية الأخرى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [الطلاق: 4] وروي عن علي وابن عباس تعتد آخر الأجلين ، وقال به سحنون كما حكاه عنه عبد الحق في "استلحاقه" ومعناه: أن تمكث حتى تضع فإن كانت مدة الحمل من وقت وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرا فقد حلت وإن وضعت قبل ذلك تربصت إلى أن تستوفي المدة من الأيام والليالي.

وقولها: (فجمعت علي ثيابي) أي: تجلببت برداء أو ملحفة أو كساء من فوق ثيابها، قاله الداودي.

التالي السابق


الخدمات العلمية