التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
339 346 - حدثنا عمر بن حفص قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش قال: سمعت شقيق بن سلمة قال: كنت عند عبد الله وأبي موسى، فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع؟ فقال عبد الله: لا يصلي حتى يجد الماء. فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: " كان يكفيك"؟ قال: ألم تر عمر لم يقنع بذلك؟ فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار، كيف تصنع بهذه الآية؟ فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم. فقلت لشقيق: فإنما كره عبد الله لهذا؟ قال: نعم. [انظر: 338 - مسلم: 368 - فتح: 1 \ 455].


وهذا الحديث أسنده أبو داود مطولا، وفيه أن ذلك كان في غزوة السلاسل. وفي أخرى له: فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم، ولم يذكر التيمم.

[ ص: 210 ] وروى هذه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين. قال: والذي عندي أنهما لم يخرجاه لحديث جرير -يعني: الرواية الأولى- ثم ساقها، ثم قال: هذا لا يعلل الآخر، فإن أهل مصر أعرف بحديثهم من أهل البصرة. يعني: أن رواية الوضوء يرويها مصري عن مصري، ورواية التيمم يرويها بصري عن مصري.

قال البيهقي: ويحتمل أن يكون فعل ما نقل في الروايتين جميعا، فغسل ما أمكنه وتيمم للباقي.

ثم ذكر البخاري حديث عمار من طريقيه بطولهما.

ولا شك أن من خاف التلف من استعمال الماء أبيح له التيمم مع وجوده، وهو إجماع. وهل يلحق به خوف الزيادة فيه فقط؟ فيه قولان للعلماء والشافعي، والأصح عنده: نعم، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري.

وعن مالك رواية أخرى بالمنع. وقال عطاء والحسن البصري في رواية: لا يستباح التيمم بالمرض أصلا.

[ ص: 211 ] وكرهه طاوس. وإنما يجوز له التيمم عند عدم الماء، فأما مع وجوده فلا، وهو قول أبي يوسف ومحمد.

والدليل على أن من خاف الزيادة في المرض يباح له التيمم ما احتج به أبو موسى على ابن مسعود من الآية، ولم يفرق بين مرض يخاف منه التلف أو الزيادة، فهو عام في كل مرض، وقياسا على سائر الرخص كالفطر وترك القيام والاضطرار، فإنه لا يعتبر فيها خوف التلف بل الجزع الشديد كاف.

وحديث عمرو دال لجواز التيمم للخائف من استعمال الماء، وللجنب، خلاف ما روي عن (عمر) وابن مسعود، ولأجل البرد المفضي إلى محذور، وأن المتيمم يصلي بالمتطهرين، وأنه لا إعادة عليه إذ لم يذكر.

وفيه خلاف للشافعي والسلف، والأصح: وجوبه، وقام الإجماع على أن المسافر إذا كان معه ماء وخاف العطش أنه يتيمم ويشربه، وأن الجنب يجوز له التيمم، إلا ما ذكر عن عمر وابن مسعود، فإنهما منعاه له؛ لقوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا [المائدة: 6] وقوله: ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [النساء: 43].

[ ص: 212 ] وقد روي مثل هذا عن ابن عمر، واختلف فيه عن علي، وخفيت عليهم السنة في ذلك من رواية عمار وعمران بن الحصين، وإنما استراب عمر عمارا في ذلك؛ لأنه كان حاضرا معه، فلم يذكر القصة وأنسيها، فارتاب ولم يقنع بقوله.

وكان عمر وابن مسعود لما كان من رأيهما أن الملامسة في الآية هي ما دون الجماع، وكان التيمم في الآية يعقب الملامسة منعا الجنب التيمم، ورأيا أن التيمم إنما جعل بدلا من الوضوء، (ولم) يجعل بدلا من الغسل، فكان من رأي ابن عباس وأبي موسى الجماع وأجاز للجنب التيمم، ألا ترى أن أبا موسى حاج ابن مسعود بالآية التي في سورة النساء، فإن الملامسة فيها الجماع، فلم يدفعه ابن مسعود عن ذلك، ولا قدر أن يخالفه في تأويله للآية، فلجأ إلى قوله: إنه لو رخص لهم في هذا كان أحدهم إذا برد عليه الماء يتيمم.

وقد ذكر ابن أبي شيبة قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي سنان، عن الضحاك قال: رجع عبد الله عن قوله في تيمم الجنب. ولم يتعلق أحد من فقهاء الأمصار -من قال بأن الملامسة: الجماع، ومن قال بأنها دونه- بقول عمر وابن مسعود، وصاروا إلى حديث عمار وعمران بن الحصين في ذلك.

إلا أنهم اختلفوا ثم أجازوا للجنب التيمم، فمن قال: الملامسة: الجماع، أوجب التيمم بالقرآن، وهو قول الكوفيين، ومن قال: إنها ما دون الجماع. أوجبه بحديث عمار وعمران، وهو قول مالك.

[ ص: 213 ] قال المهلب: وفي قول أبي موسى لابن مسعود: (فدعنا من قول عمار، كيف تصنع بهذه الآية؟) فيه: الانتقال في الحجاج مما فيه الخلاف إلى ما عليه الاتفاق، وذلك أنه يجوز للمتناظرين عند تعجيل القطع والإفحام للخصم، ألا ترى أن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: ربي الذي يحيي ويميت [البقرة: 258]، قال له النمرود: أنا أحيي وأميت [البقرة: 258] لم يحتج أن يوقفه على كيفية إحيائه وإماتته، بل انتقل إلى مسكت من الحجاج فقال: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب [البقرة: 258].

التالي السابق


الخدمات العلمية