التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
3915 4146 - حدثني بشر بن خالد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان،

[ ص: 277 ] عن أبي الضحى، عن مسروق قال: دخلنا على عائشة - رضي الله عنها - وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا، يشبب بأبيات له، وقال:


حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل.



فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك. قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك. وقد قال الله تعالى والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . [النور:11]. فقالت: وأي عذاب أشد من العمى. قالت له: إنه كان ينافح -أو يهاجي- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [4755، 4756- مسلم: 2488 - فتح: 7 \ 436]


يريد بما ذكر من قوله: بمنزلة كذا: أنهما واحد، وقال ابن فارس: أفك إذا كذب، إفكا وأفكته: صرفته، أفكا -يعني بفتح الهمزة والفاء - وقال الهروي: النجس : كل شيء يستقذر، فإذا قلت: نجس ينجس، كسرت النون وأسكنت الجيم، قال ابن عديس: على الإتباع. وقيل: الأول أسوأ الكذب. وعبارة ابن فارس شيء نجس، ونجس ، مثل ما في الأصل، وقال ابن عديس في "باهره": الأفك بفتح الهمزة وسكون الفاء، وعلى كسرها مصدر أفك الرجل يأفك إفكا إذا كذب، وبكسر الهمزة: الكذب، وبضمهما جمع أفوك وهو الكثير الكذب.

ثم ساق البخاري حديث الإفك بطوله، وقد أسلفناه في الشهادات، ولنذكر هنا ما لم يسبق.

قولها: (فخمرت وجهي بجلبابي) أي: سترته بثوبي.

[ ص: 278 ] وقولها: (ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه) أي: الذي أيقظها به، وما أحسن قول الحسن: كيف نحكم بالرجل يخلو بأمه؟ قالوا: حسنا، قال: فكذلك كان ينبغي أن يظن بعائشة وصفوان.

وقولها: (وأهوى حتى أناخ راحلته) أي: أسرع، وأصله: مال وأخذ، وأهوى إليه إذا مال وأخذ.

وقولها: (وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي سلول) كبر -بكسر الكاف- أي: معظمه، وعبد الله هذا هو ابن أبي مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك بن سالم الحبشي بن غنم بن عوف بن الخزرج، وسلول أم أبيه امرأة من خزاعة.

وقوله: (وقال عروة: أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده، فيقره ويستمعه ويستوشيه). القر: صب الكلام في الأذن.

و (يستوشيه): يستدعيه ويستخرجه، قال ابن التين: يقال: هو يشي حديثه، أي: يكذب فيه وينم. وقال ابن عرفة: ولا يقال لمن نم: واش; حتى يغير الكلام ويلونه، فيجعله دروبا، ويزين منه ما يشاء. وقيل: يستوشي الحديث: يستخرجه بالبحث والمسألة، كما يستوشي الرجل جري الفرس، وهو ضربه جنبه بعقبه، ويحركه ليجري، يقال: أوشى فرسه واستوشاه، وقال الداودي: يستوشيه: يزيد فيه على ما قال غيره، فكأنه سوى بين: وشى واستوشى. وقد سلف شيء من ذلك في الشهادات أيضا.

وقوله: (قال عروة: لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم

[ ص: 279 ] لي بهم غير أنهم عصبة كما قال تعالى) قال ابن فارس: العصبة: نحو العشرة ، وقال الداودي: هم ما فوق العشرة إلى الأربعين، وقال بعض أهل اللغة: من العشرة إلى الأربعين، وقيل العصبة: الجماعة.

وقوله: (وإن كبر ذلك يقال: عبد الله بن أبي) تمامه: وإن تولى كبر ذلك.

وقوله: (قال عروة: وكانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال:


فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء)



العرض هنا: النفس، وقيل: الحسب، وقال ابن فارس: ويقال: هو كل موضع يعرق من الجسد، ويقال: العرض: الجلد والريح الطيبة كانت أو خبيثة . وقيل: الأعراض: سلف الإنسان وقيل: ونفسه.

و (نقهت): أفقت كما سلف هناك بفتح القاف وكسرها. قال ابن التين: والفتح قول أهل اللغة، وأما بالكسر، أي: فهم. قلت: ويقال: نقه نقها ونقوها إذا صح وهو في عقب علته، أنقهه الله فهو ناقه.

وقولها: (وأمرنا أمر العرب الأول) هو بضم الهمزة وتخفيف الواو، وبفتح الهمزة وتشديد الواو.

وقوله: (وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه) الفخذ بسكون الخاء وبكسرها دون العنفقة، وفوق البطن.

[ ص: 280 ] وقوله: (من ثقل القول) الثقل ضد الخف، بكسر الثاء وإسكان القاف، قاله ابن التين.

فائدة:

ما وقع في "إكليل الحاكم" من أن عائشة رضي الله عنها لما رآها صفوان أتاها ببعيره وأقسم عليها لتركبن فأبت إلا أن تكون ردفه، وأن عليا دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن عائشة جاءت ردف صفوان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخلن علي" فخرجت تبكي، وإن أباها لم يئوها ولا غيره، فلم تزل تدعو حتى نزلت براءتها. منقطع وضعيف.

أخرى: قال البيهقي: من قال: إن الإفك كان بالمريسيع، إن كان محفوظا فيشبه أن يكون جرح سعد بن معاذ لم ينفجر حتى كان بعد المريسيع، وحديث الإفك; لقول سعد: يا رسول الله: أنا أعذرك من ابن أبي، وذكر ابن منده أن سعدا مات بالمدينة سنة خمس، وسلف أن بني المصطلق كانت في شعبان سنة خمس، فكأن سعدا مات بعد شعبان من هذه السنة .

فائدة أخرى:

قول زينب: (أحمي سمعي وبصري)، هو مأخوذ من الحمى، تقول: أحميه من المأثم أن يريه ما لم ير قط، يقال: حميت الحمى أحميه حميا، وذكر غير واحد أنه - عليه السلام - تزوج زينب بنت جحش خلال ذي القعدة سنة خمس، فكانت غزوة بني المصطلق في السنة من شعبان كما مر.

وحكى ابن عبد البر: عن أبي عبيدة أنه تزوج منها في سنة ثلاث .

[ ص: 281 ] وعلى هذا القول يصح اجتماعها في حديث الإفك الواقع في غزوة بني المصطلق.

قال الدمياطي: والصحيح أنه في ذي القعدة سنة أربع.

فائدة أخرى:

قول عائشة: (إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله، والذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله)

في مسلم: (عن كنف) بدل (من كنف) بفتح النون: الستر، والمراد هنا ثوبها الذي هو كنفها، كنى عن الجماع، ومنه يقال: هو في كنف الله وحفظه، والكنف أيضا: الجانب وناصيتا كل شيء كنفاه.

وقول عائشة فيما ذكره بعد: (كان علي مسلما في شأنها) بكسر اللام، وقال ابن التين: وضبط بفتحها أيضا، والمعنى متقارب، قال: وروي: مسيئا. وهذا فيه بعد. وهذا الحديث رواه معمر، عن الزهري، قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن عليا كان فيمن قذف عائشة رضي الله عنها؟ قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن عائشة قالت لهما كان علي مسلما في شأنها.

ورواه ابن أبي خيثمة، عن ابن معين، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: كنت عند الوليد فقال: الذي تولى كبره هو علي بن أبي طالب. قال: فقلت: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير

[ ص: 282 ] وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله، كلهم عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي، قال: وما كان جرمه؟ قال: قلت: أخبرني شيخان من قومك فذكرهما كما سلف عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان مسيئا في .

ثم ذكر البخاري أيضا حديث مسروق بن الأجدع: حدثتني أم رومان - وهي أم عائشة قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار .. الحديث.

وقول مسروق بن الأجدع: (حدثتني أم رومان) صريح في سماعه منها، وقد أسلفنا [بيان] إدراكها في مناقب الأنبياء في باب قول الله تعالى: لقد كان في يوسف الآية.

قال الواقدي والزبير: توفيت في ذي الحجة سنة ست، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبرها واستغفر لها.

قال أبو عمر: رواية مسروق عنها مرسلة . وقال المقدسي: قد روي الحديث عنه عن ابن مسعود عنها وهو الأشبه بالصواب ووقع لإبراهيم الحربي أنه كان يسألها وهو ابن خمس عشرة سنة، ومات مسروق وله ثمان وسبعون سنة. وأم رومان أقدم من كل من حدث (عنهم) مسروق، وتعقبه الحافظ أبو بكر الخطيب فقال: كيف خفي هذا عليه وأم رومان ماتت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ست في ذي الحجة كما أرخه هو وأبو حسان الزيادي.

[ ص: 283 ] وقال محمد بن سعد: توفي مسروق سنة ثلاث وستين ، وذكر الفضل بن عمرو أن عمره حين مات ثلاث وستون سنة ، فيكون له عند وفاة أم رومان ست سنين، انتهى.

ومسروق أيضا ولد باليمن ولم يقدم المدينة إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إما في خلافة أبي بكر أو بعدها.

وقد روى الإمام أحمد حديث مسروق هذا من طريق علي بن عاصم وأبي جعفر [الرازي] ، عن حصين، عن أبي وائل، [عن مسروق] عن أم رومان ، ولم يقولا فيه حدثني ولا سمعت، ورواه أبو سعيد الأشج، عن محمد بن فضيل، وقال فيه: عن مسروق قال: سئلت أم رومان وهي أم عائشة، فذكرت القصة قال المهلب: وهذا أشبه مما رواه البخاري، ولعل التصريح بالسماع جاء فيه عن حصين، فإنه اختلط في آخر عمره.

وقال الداودي: في رواية أبي وائل عن مسروق، عن أم رومان بعض الوهم; لأن أم مسطح قرشية، وهي [قد] قالت: (بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار). وقد سلف ذلك أيضا هناك.

وقولها: (فانصرف -تعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئا، فأنزل الله عذرها). خلاف قول عائشة: ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى نزلت براءتها.

[ ص: 284 ] ثم ذكر البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ: إذ تلقونه بألسنتكم وتقول: الولق: الكذب. قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها; لأنه نزل فيها

قراءة عائشة من ولق، والولق استمرار اللسان بالكذب ومن قرأ (تلقونه) أي: تنقلونه، والولق ساكنة اللام.

ثم ذكر البخاري أيضا عن هشام، عن أبيه قال: ذهبت أسب حسان عند عائشة رضي الله عنها فقالت: لا تسبه، فإنه كان ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت عائشة: استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجاء المشركين، قال: "كيف بنسبي؟ ". فقال: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.

معنى (ينافح): يذب بلسانه عنه، وأصل النفح الذب وأكثر ما يقال ذلك فيما كان منه عن بعد، وقد يكون النفح أيضا من رمح الدابة إذا رمحت بحد حافرها.

ثم ذكر أيضا عن مسروق قال: دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا يشبب بأبيات له، وقال:


حصان رزان ما تزن بريبة     وتصبح غرثى من لحوم الغوافل.



معنى (يشبب) تقدم ذلك في أول شعره، (حصان) -بفتح الحاء- بينة الحصن، وأصل الإحصان: المنع وينطبق على أمور منها: العفة ويقال للعفيفة: محصنة وللمتزوجة كذلك، وقال ثعلب: لا يقال للمتزوجة إلا بالفتح خاصة .

وفرس حصان -بكسر الحاء- وهو الفرس العتيق وقيل هذا أصله واستعمل لكل ذكر من الخيل.

[ ص: 285 ] ورزان -بفتح الراء أيضا- وهو (كثيرة الأوصاف المؤنث) ، وفي الأعلام منها، متثبتة قليلة الخروج من بيتها، وهو ما تمدح به النساء.

وقوله: (لا تزن بريبة) أي: لا تتهم بها، يقال: أزننت الرجل بالشر إذا اتهمته به.

وقوله: (غرثى) أي: خميصة البطن، والغرث: الجوع، رجل غرثان وامرأة غرثى والجمع غراث، يريد أنها لا تغتاب أحدا، فتكون بمنزلة من تأكل لحومهم فتشبع منها لكنها غرثى جائعة من ذلك، و (لحوم الغوافل) العفيفات. قال تعالى: الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات [النور: 23] جعلهن الله غافلات; لأن الذي رمين به من الشر لم يهممن به قط ولا خطر على قلوبهن فهن إنما في غفلة عنه وهذا أبلغ ما يكون من الوصف بالعفاف، نبه عليه السهيلي .

وقوله: (قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك، وقد قال الله تعالى: والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم قالت: وأي عذاب أشد من العمى، فقالت له: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

أنكر ذلك على مسروق، من قال: إنما تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، وأما حسان فلم يتول كبره، وإنما كان من الجهلة كذلك ذكر أهل التفسير.

[ ص: 286 ] فائدة:

قد أسلفنا في الشهادات في الكلام على حديث الإفك أن أم مسطح اسمها سلمى بنت أبي رهم، واسم أبي رهم أنيس -بفتح الهمزة وكسر النون- بن المطلب بن عبد مناف ذكره الزبير وضبطه ابن ماكولا ،

ويقال: إنه صخر بن عامر بن سعد بن كعب بن تيم بن مرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية