التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4038 4288 - حدثني إسحاق، حدثنا عبد الصمد قال: حدثني أبي، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم، وإسماعيل في أيديهما من الأزلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قاتلهم الله، لقد علموا ما استقسما بها قط". ثم دخل البيت، فكبر في نواحي البيت، وخرج ولم يصل فيه. تابعه معمر، عن أيوب. وقال وهيب: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [انظر: 398- مسلم: 1331 - فتح: 8 \ 16]


ذكر فيه ثمانية أحاديث:

أحدها:

حديث هشام، عن أبيه: لما سار رسول الله عام الفتح فبلغ ذلك قريشا، خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ ثم ساق الحديث وذكر إسلامه.

وفيه أنه ركز رايته بالحجون وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كدا، فقتل من جيش خالد بن الوليد يومئذ رجلان: حبيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري.

[ ص: 432 ] والكلام عليه من وجوه:

أحدها:

ذكر ابن سعد أنه - عليه السلام - لما نزل مر الظهران أمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان يتحسس الأخبار، وقالوا: إن لقيت محمدا خذ لنا منه أمانا، فخرج ومعه حكيم بن حزام وبديل، فلما راءوا العسكر أفزعهم وعلى الحرس تلك الليلة عمر، فسمع العباس صوت أبي سفيان فقال: أبا حنظلة.

قال: لبيك. قال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرة آلاف فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك .


ولابن إسحاق أن أبا سفيان ركب مع العباس ورجع بديل وحكيم . ولابن عقبة: ذهبوا كلهم مع العباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا.

ولأبي معشر: أن الحرس جاءوا بأبي سفيان إلى عمر فقال: أبقوهم حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبره الخبر جاء العباس إلى أبي سفيان فأردفه، فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءوا بالآخرين.

وللبيهقي: "ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن" بعد أن قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" .

[ ص: 433 ] وذكر الطبري أنه - عليه السلام - وجه حكيم بن حزام مع أبي سفيان بعد إسلامهما إلى- مكة وقال: "من دخل دار حكيم فهو آمن -وهي بأسفل مكة- ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وهي بأعلى مكة" وكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة ، ولهذا قال جماعة من أهل العلم منهم الشافعي: أن مكة مؤمنة وليست عنوة، والأمان كالفتح، ورأى أن أهلها مالكون رباعهم، فلذلك كان يجيز كراءها لأربابها، وبيعها وشراءها; لأن من أمن فقد حرم ماله ودمه، فمكة مؤمنة إلا من استثنى الشارع.

ثانيها:

"عند حطم الجبل". هو بالحاء، وهو ما حطم منه. أي: ثلم من عرضه فبقي منقطعا، قاله الخطابي ، وكذا قال ابن التين: لعله يريد عند موضع يهدم من الجبل ويكسر. قال: فيكون بفتح الحاء وكسر الطاء، وكذا ضبط في بعض الكتب، وفي بعضها بسكون الطاء والأولى ضبط اللغة وإنما حبس هناك لأنه موضع ضيق يرون منه كلهم فلا تفوته رؤية أحد منهم، ثم حكى مقالة الخطابي السالفة.

والكتيبة: القطعة المجتمعة من الجيش، وأصله من الكتبة وهو أنك إذا جمعت شيئا إلى شيء فقد كتبته، وكان أبو سفيان يقول عندما كثرت الحرس: يا عباس، إن هذا الملك. يقول العباس: بل النبوة يا أبا سفيان.

[ ص: 434 ] فائدة:

كان شعار المهاجرين يومئذ عبد الرحمن، والخزرج عبد الله، والأوس عبيد الله.

ثالثها:

قوله: (فأسلم أبو سفيان) هذا هو الصواب، وقيل: بل رجع وهو على كفره، حكاه ابن التين.

وقول سعد بن عبادة: (يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة)، أي: يوم الحرب، أو يوم حرب لا يجد فيه المرء منه ملجئا، أو يوم القتل، يقال: لحم فلان فلانا: قتله.

وقوله بعده: (اليوم تستحل الكعبة): فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، قال: "كذب سعد، هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة". وفي رواية أخرى: هذا يوم تستحل فيه الحرمة. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "بل يوم المرحمة ويوم يعظم الله فيه الحرمة".

وذكر أن أبا قتادة قال: هذا يوم يذل الله فيه قريشا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مهلا فإن لله في قريش جار أما إنك لو وزنت حلمك بأحلامهم لرجحت أحلامهم".

وقول أبي سفيان: (يا عباس هذا يوم الذمار) أي: هذا يوم أؤمل فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني مكروه.

قال الخطابي: (يوم الذمار): يوم القتل. تمنى أن يكون له يد فيحمي قومه .

[ ص: 435 ] وقوله: (جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه) كذا وقع عند جميع الرواة. ورواه الحميدي في كتابه: هي أجل الكتائب . وهو الأظهر، وقد كان عمر أراد قتل أبي سفيان، فقال - صلى الله عليه وسلم - عندما أتى به العباس فقال العباس: دوني يا عمر، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما دون أبي الفضل شر". قال عمر: قد برح الخفاء دعني أقتل أبا سفيان; فإنه رأس الكفر. فجعل العباس يتلطف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول: إن أبا سفيان يحب أن يذكر، فاجعل له شيئا يذكر به. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

رابعها:

(الحجون): موضع بأعلى مكة بفتح الحاء.

قوله: (وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كدى) قد أسلفنا في الحج أن الصواب دخوله - صلى الله عليه وسلم - من كداء. بالفتح. فراجعه. وسلف السر فيه.

قال ابن التين: والذي عليه أهل اللغة أن كداء بفتح الكاف والمد، والكدي بالضم وتشديد الياء، وسلف في الحج عن عروة، ولم يسنده أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل عام الفتح من كداء من أعلى مكة . والمضبوط في الأمهات الفتح للأعلى والضم للأسفل، وكذا أسنده عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها وهو في حديث ابن عمر كذلك أيضا ، وإنما وقع هنا: أنه أمر خالدا فدخل من أعلى مكة. ودخل هو من كدا ضبطه

[ ص: 436 ] في الأمهات بضم الكاف، وفي إحدى روايات عروة كدا بالضم التي هي أعلى مكة.

خامسها:

(حبيش) بالحاء المهملة المضمومة، ثم باء موحدة . وقال ابن إسحاق: خنيس -بخاء معجمة ثم نون . والأول أصح- ابن خالد بن خليفة بن منقذ بن ربيعة بن أصرم ابن خنيس بن حرام بن حبيشة بن عمرو بن كعب بن لحي الأشعر، عند الكلبي: حبيش وعند ابن سعد وغيره: هو خالد أبوه، وهو المقتول مع كرز لا ابنه حبيش ، وأم معبد عاتكة بنت خليفة بن منفذ، وكنية حبيش أبو صخر. روى في "الغيلانيات" من حديثه قصة أم معبد بطولها . وله صحبة. وكرز بن جابر بن حسيل بن لاحب بن عتبة بن عمرو بن سنان بن محارب، أخي الحارث وغالب بن فهر كان قبل إسلامه أغار على سرح المدينة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبه حتى بلغ شقران بناحية بدر فلم يدركه، فهي بدر الأولى، ثم أسلم فحسن إسلامه، وولاه - صلى الله عليه وسلم - الجيش الذي خرج في طلب العرنيين فأدركهم وجاء بهم، استشهد يوم الفتح. وفي الصحابة أربعة سواه، يقال لكل منهم كرز.

[ ص: 437 ] الحديث الثاني: حديث عبد الله بن مغفل: في الرجيع بسورة الفتح. يأتي في التفسير وفضائل القرآن.

الحديث الثالث: حديث أسامة: أين تنزل غدا؟

سلف في الحج. وسياقه هنا أتم، وفيه: "لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن".

الرابع:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "منزلنا -إن شاء الله، إذا فتح الله- الخيف، حيث تقاسموا على الكفر".

الخامس:

حديثه أيضا: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد حنينا: "منزلنا غدا -إن شاء الله- بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر". سلفا في الحج أيضا.

الحديث السادس: حديث أنس في المغفر:

وقد سلف في باب دخوله الحرم ومكة غير محرم. زاد هنا: قال مالك: ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى -والله أعلم- يومئذ محرما. وهو كما قال; لأنه لم يرو واحد أنه تحلل يومئذ من إحرامه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما أحلت لي ساعة من نهار" وقوله تعالى: وأنت حل بهذا البلد [البلد: 2] أيضا شاهد له، وقيل: يحتمل أن يكون محرما، إلا أنه لبس المغفر للضرورة وهذا من خواصه، ومن دخل مكة لا لنسك فإحرامه مستحب على الأصح عندنا، وعند أبي مصعب والزهري خلافا لمالك، لكن مشهور مذهبه [أن من] تركه لا شيء عليه.

[ ص: 438 ] وفي قتله ابن خطل دلالة أن الحرم لا يعصم من القتل الواجب، وكان قد قتل وارتد كما سلف قريبا.

الحديث السابع:

حديث أبي معمر عن عبد الله قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل وما يبدئ الباطل وما يعيد ".

(نصب) بضم النون والصاد، ويجوز إسكان الصاد، ويجوز فتح النون مع ذلك أيضا، وكلها واحد الأنصاب. كما نبه عليه ابن التين، والنصب: الحجر أو الصنم المنصوب للعبادة، ومنه: وما ذبح على النصب [المائدة: 3] والأنصاب أيضا أعلام الطريق يهتدى بها، سميت أنصابا; لأنها تنصب، فارتفعت للأبصار. (يطعنها) بضم العين على ما سلف.

الحديث الثامن:

حدثني إسحاق، ثنا عبد الصمد: حدثني أبي، ثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، وأخرج صورة إبراهيم، وإسماعيل .. الحديث.

سلف في الحج في باب: من كبر في نواحي الكعبة عن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن أيوب .

وقال هنا: (تابعه معمر، عن أيوب، وقال وهيب: ثنا أيوب، عن عكرمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -). وسقط من نسخة الأصيلي والد عبد الصمد

[ ص: 439 ] والصواب إثباته.

وقوله: (ولم يصل فيه) قد سلف الجمع بين هذا وبين ما خالفه في الصلاة في باب قول الله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [البقرة: 125] فراجعه. وأخذ الناس برواية الأثبات.

التالي السابق


الخدمات العلمية