التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
26 [ ص: 616 ] - باب : من قال إن الإيمان هو العمل

لقول الله تعالى: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [الزخرف: 72]. وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [الحجر: 92، 93]: عن قول لا إله إلا الله. وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون .

26 - حدثنا أحمد بن يونس، وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العمل أفضل؟ فقال: " إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". [1519 - مسلم: 83 - فتح: 1 \ 77]
نا أحمد بن يونس، وموسى بن إسماعيل نا إبراهيم بن سعد نا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا هنا. ويأتي في الحج إن شاء الله.

ثانيها: (في) التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا ابن المسيب، وأحمد بن يونس.

[ ص: 617 ] أما الأول: فهو أبو محمد سعيد (ع) بن المسيب بن حزن بن (أبي وهب) بن (عمرو بن) عايذ -بالذال المعجمة- بن عمران بن مخزوم بن يقظة -بفتح الياء المثناة تحت، وبالقاف والظاء المعجمة- ابن مرة القرشي المخزومي المدني. إمام التابعين، وفقيه الفقهاء، ووالده وجده صحابيان أسلما يوم الفتح.

[ ص: 618 ] والمسيب: بفتح الياء على (الصحيح) المشهور، وقاله أهل المدينة بكسرها، وحكي عنه كراهة الفتح، ولا خلاف في فتح الياء من المسيب بن رافع. وولده العلاء بن المسيب.

[ ص: 619 ] ولد لسنتين (مضتا) من خلافة عمر، وقيل: لأربع.

سمع عمر، وعثمان، وعليا، وسعد بن أبي وقاص، وأبا هريرة، وهو زوج ابنته، وأعلم الناس بحديثه، وخلقا من الصحابة. وعنه خلائق من التابعين وغيرهم، واتفقوا على جلالته، وإمامته وتقدمه على أهل عصره في العلم والفتوى.

قال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه، وإذا قال:

(مضت السنة) فحسبك به، وهو عندي أجل التابعين، قال أبو عبد الله بن خفيف : أهل البصرة يقولون: أفضل التابعين أويس القرني، قلت: أي: في الزهد. ففي مسلم من حديث عمر مرفوعا: "إن خير التابعين رجل يقال له: أويس، وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم".

[ ص: 620 ] أما سعيد فأفضل في العلم، وكان لا يأخذ العطاء، كانت له أربعمائة دينار يتجر فيها في الزيت، وقد سلف الكلام في الفصول أول الكتاب في مرسله، وأن بعضهم قال: إن مرسله حجة مطلقا; لأنها فتشت فوجدت مسندة، وليس كما قال; فإنه وجد فيها ما ليس بمسند بحال، كما ذكره البيهقي والخطيب وغيرهما.

مات سنة أربع، وقيل: ثلاث وتسعين، سنة الفقهاء; لكثرة من مات فيها منهم. وأراد - صلى الله عليه وسلم - تغيير اسم جده فقال: "أنت سهل" فقال: لا أغير اسمي فما زالت الحزونة في ولده، ففيهم سوء خلق.

[ ص: 621 ] فائدة:

عايذ جده -قد سلف أنه بالمثناة تحت وبالذال المعجمة- ابن عمران بن مخزوم، وفي بني مخزوم أيضا عابد -بالموحدة وبالدال المهملة- بن عبد الله بن (عمر) بن مخزوم، ومن ولد هذا السائب والمسيب ابنا أبي السائب صيفي بن (عابد) بن عبد الله، (وولده) عبد الله بن السائب شريك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم - في حقه: "نعم الشريك". وقيل: الشريك والده.

[ ص: 622 ] ............................

[ ص: 623 ] (و) عتيق بن (عابد) بن عبد الله كان على خديجة أم المؤمنين قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن الأول -وهو عائذ- غير سعيد بن المسيب فاطمة أم عبد الله والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنت عمرو بن عائذ بن عمران، وهبيرة بن أبي وهيب بن عمرو بن عائذ بن عمران، وهبيرة [ ص: 624 ] هذا هو زوج أم هانئ بنت أبي طالب (فر عن) الإسلام، يوم فتح مكة، مات كافرا بنجران.

وأما أحمد (ع) بن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس اليربوعي التميمي أبو عبد الله الكوفي، يقال: إنه مولى الفضيل بن عياض، سمع مالكا وخلقا، وعنه أبو زرعة وأبو حاتم، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وروى البخاري عن يوسف بن موسى عنه، والترمذي (والنسائي) وابن ماجه عن رجل عنه، قال أحمد: هو شيخ الإسلام، قال أبو حاتم: كان ثقة متقنا، مات في ربيع الآخر سنة سبع وعشرين (ومائتين) عن أربع وتسعين سنة.

الوجه الثالث: في ألفاظه ومعانيه:

معنى الإرث في الآية: صيرورتها لهم، وفيها وفي نظائرها وجهان: أحدهما: أنها مصدرية أي: بعملكم، وثانيهما: موصولة أي:

[ ص: 625 ] بالذي كنتم تعملون، والوجهان أيضا في قوله تعالى: عما كانوا يعملون [الحجر: 93]، قال النووي: والظاهر المختار أن معناه: لنسألنهم عن أعمالهم كلها. أي: الأعمال التي يتعلق بها التكليف، وقول هؤلاء الذين نقل عنهم البخاري (أن المراد) عن قول: لا إله إلا الله، مجرد دعوى للتخصيص بذلك، فلا تقبل. نعم، هو داخل في عموم الأعمال، وقد روينا في "مسند أبي يعلى" من حديث أنس مرفوعا ما يوافق ما نقله عنهم، لكن في إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.

[ ص: 626 ] وقوله: (وقال: عدة) أي: جماعة، قال أهل اللغة: العدة: الجماعة قلت أم كثرت، والمبرور: هو الذي لا يخالطه إثم، وقيل: المقبول، وقيل: فعل الجميل، وقيل: الخالص، والبر: الطاعة، يقال: بر حجك بفتح الباء وضمها لغتان حكاهما ابن سيده، واقتصر الحربي وثعلب على الضم وأقره القاضي ونسب ابن درستويه الفتح إلى العامة.

[ ص: 627 ] الوجه الرابع: في فوائده:

الأولى: إن قلت: كيف يجمع بين الآية السالفة في السؤال. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخل أحد الجنة بعمله" ؟ فالجواب: أن دخول الجنة بسبب العمل، والعمل برحمة الله.

الثانية: كيف نجمع بين الآية السالفة في السؤال والآية الأخرى وهي: فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [الرحمن: 39].

فالجواب: أن في القيامة مواطن -أعاننا الله الكريم على أهوالها- ففي موطن يسألون، وفي الآخر لا يسألون، كما سيأتي في تفسير (حم السجدة) عن ابن عباس، وجواب آخر أنهم لا يسألون سؤال الاستخبار.

الثالثة: بدأ في هذا الحديث بالإيمان ثم الجهاد ثم الحج. وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة لميقاتها ثم بر الوالدين ثم الحج، [ ص: 628 ] وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج، وفي حديث أبي موسى (السالف: أي الإسلام أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" وفي حديث ابن عمرو) السالف: أي الإسلام خير؟ قال: " (تطعم) الطعام" إلى آخره. وقد جمع العلماء بينها وبين ما أشبهها بوجوه، ذكر الحليمي منها وجهين: أحدهما: أنه جرى على اختلاف الأحوال والأشخاص، كما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "حجة لمن لم يحج أفضل من (أربعين) غزوة، وغزوة لمن حج أفضل من أربعين حجة". فاعلم أن كل قوم بما تدعو الحاجة إليه دون ما لم تدع [ ص: 629 ] حاجتهم إليه، وذكر ما لم يعلمه السائل وأهل المجلس من دعائم الإسلام (ولم يبلغه) علمه، وترك ما علموه. ولهذا أسقط ذكر الصلاة والزكاة والصيام في حديث الباب، وأثبت فيه الجهاد والحج.

ولا شك أن الصلاة والزكاة والصوم مقدمات على الحج والجهاد، فقد يكون الجهاد في حق شخص أولى من غيره، وهو من تأهل له أو عند التعين، والعياذ بالله. وكذا نقول في بر الوالدين، وقد قال [ ص: 630 ] - صلى الله عليه وسلم -: "ففيهما فجاهد".

الجواب الثاني: أن لفظة "من": مراده، والمراد: من أفضل الأعمال كما يقال: فلان أعقل الناس، والمراد: من أعقلهم، ومنه الحديث: "خيركم خيركم لأهله" ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس، وكقولهم: أزهد الناس في العالم جيرانه.

[ ص: 631 ] الرابعة: قدم الجهاد في (هذا الحديث على الحج)، مع أن الحج أحد الأركان، والجهاد فرض كفاية; (لأنه قد يتعين كما في سائر فروض الكفايات، وإذا لم يتعين لا يقع إلا فرض كفاية)، وأما الحج فالواجب منه مرة فقط، فإن قابلت واجب الحج بمتعين الجهاد كان الجهاد أفضل لهذا الحديث; ولأنه شارك الحج في الفرضية، وزاد (فيه) بتعدي نفعه إلى سائر الأمة; ولكونه ذبا عن بيضة الإسلام، ولكونه بذلا للنفس والمال وغير ذلك. وإن قابلت نفل الحج بغير متعين الجهاد كان الجهاد أفضل لما ذكرناه; ولأنه يقع فرض كفاية، وهو أفضل من النفل بلا شك. بل قال إمام الحرمين في كتابه "الغياثي" : فرض الكفاية عندي أفضل من فرض العين، من حيث أنه يقع فعله مسقطا للحرج عن الأمة بأسرها، وبتركه يعصي المتمكنون منه كلهم، ولا شك في عظم موقع ما هذه صفته. كذا قرره النووي في "شرحه" وقيل: إنما قدم; لشدة الحاجة إليه أول الإسلام.

الخامسة: الآية دالة على نيل الدرجات بالأعمال، (وأن الإيمان قول وعمل، ويشهد له الحديث المذكور، وهو مذهب أهل السنة كما سلف في أول الإيمان)، وهو مراد البخاري بالتبويب، وأراد به [ ص: 632 ] الرد على المرجئة كما سلف، وغلط غلاتهم فقالوا: إن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقدها بقلبه، حكاه القاضي عنهم، وما أوهاه وأظهر زيفه، ثم إن في هذا الحديث: جعل الإيمان من العمل، وفرق في أحاديث أخر بين الإيمان والأعمال، وأطلق اسم الإيمان مجردا على التوحيد، وعمل القلب، والإسلام على النطق، وعمل الجوارح، وحقيقة الإيمان مجرد التصديق المطابق للقول والعقد، وتمامه بعمل الجوارح. فلهذا لا يكون ناجيا مؤمنا إلا بذلك، فإطلاق الإيمان إذا على كلها وعلى بعضها صحيح، فالتصديق أفضل الأعمال (على هذا إذ هو شرط فيها.

قال القاضي عياض: ويحتمل أن يشير بأنه أفضل الأعمال) إلى الذكر الخفي، وتعظيم حق الله ورسوله، وفهم (كتابه) وغير ذلك من أعمال القلب ومحض الإيمان، كما جاء: "خير الذكر الخفي".

التالي السابق


الخدمات العلمية