التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4290 [ ص: 174 ] 15 - باب: قوله: ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الآية [آل عمران: 186]

4566 - حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب على حمار على قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقا، فلا تؤذينا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - دابته، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم: " يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ -يريد عبد الله بن أبي- قال: كذا وكذا". قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، اعف عنه واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، لقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله؛ شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله،

[ ص: 175 ] ويصبرون على الأذى، قال الله -عز وجل- ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا [آل عمران: 186] الآية، وقال الله ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم [البقرة: 109] إلى آخر الآية، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتأول العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرا، فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي ابن سلول، ومن معه من المشركين، وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه. فبايعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام فأسلموا.
[انظر: 2987 - مسلم: 1798 - فتح: 8 \ 230]


ذكر فيه حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب على حمار على قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج … الحديث بطوله.

وهو أتم الطرق كلها، كما قاله الحميدي .

وأخرجه البخاري أيضا في الجهاد، والأدب، واللباس، والطب، والاستئذان، وأخرجه مسلم والترمذي .

ذكر الواحدي عن ( سعد ) بن مالك أن سبب نزولها أن كعب بن

[ ص: 176 ] الأشرف
كان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحرض عليه كفار قريش، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وبها أخلاط منهم المسلمون، ومنهم المشركون، ومنهم اليهود، أراد أن يستميلهم، فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى فأمر الله نبيه بالصبر على ذلك.

وعند الطبري ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب يعني: من اليهود، وقولهم إن الله فقير ونحن أغنياء وقولهم: يد الله مغلولة وما أشبه ذلك من افترائهم على الله. ومعنى ومن الذين أشركوا يعني: النصارى من قولهم: المسيح ابن الله وما أشبهه. وقال عكرمة : نزلت في رسول الله إذ بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازورا يستمده، فقال فنحاص: قد احتاج ربكم أن نمده.

والأذى مقصور يكتب بالياء، يقال: قد أذي فلان يأذى إذا سمع ما يسوؤه. وقال أبو نصر : آذاه يؤذيه أذاة وأذية.

ثم الكلام على حديث أسامة من وجوه:

أحدها:

قوله: (قطيفة فدكية) أي: كساء غليظ منسوب إلى فدك -بفتح الفاء والدال- على مرحلتين أو ثلاثة من المدينة.

ثانيها:

فيه الإرداف.

ولابن منده فيه جزء زاد فيه على ثلاثين نفسا.

[ ص: 177 ] وفيه:

جواز العيادة راكبا، وأن فعل ذلك لا ينقص في حق العظماء خلافا لمن تكبر عن فعل هذه السنة. قال المهلب: وفيه أنواع من التواضع.

ثالثها:

قوله: (وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ) يعني: قبل أن يظهر الإسلام وإلا فهو لم يسلم قط.

رابعها:

قوله: (فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة) أي: وهو ما ارتفع من غبار حافرها، وهي واحدة العجاج . ومعنى (خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه) ستر وجهه وغطاه.

وقوله: (فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم) لعله نوى به المؤمنين ولا بأس به إذا.

وقوله: (ثم وقف فنزل) فيه جواز استمرار الوقوف اليسير على الدابة، فإن طال نزل؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم.

وعن بعض التابعين. لما قيل له: نهي عن الوقوف على متن الدابة. قال: أرأيت لو صيرتها (سائبة)، أما كان يجوز لي ذلك؟ قيل له: نعم. قال: فأي فرق بينهما؟!

خامسها:

قوله: (فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا، فلا تؤذنا به في مجالسنا) قال ابن الجوزي : كثير من النحويين يضمون ألف (أحسن) ويكسرون السين، أي: لا أعلم منه شيئا.

[ ص: 178 ] وسمعت أبا محمد بن الحباب يفتح الألف والسين، أي: ليس شيء أحسن من هذا. ووقع للقاضي أبي علي : (لأحسن) من هذا. بالكسر من غير ألف. كما قال عياض. قال: وهو عندي أظهر. وتقديره: أحسن من هذا أن تقعد في بيتك ولا تأتينا.

سادسها:

قوله: (فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون) أي: قاربوا أن يثور بعضهم إلى بعض بقتال. يقال: ثار يثور إذا قام بسرعة وانزعاج. وعبارة ابن التين: يتثاورون: يتواثبون. وقولهم: (فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم) أي: يسكنهم حتى سكنوا.

سابعها:

قوله - صلى الله عليه وسلم: ("يا سعد ، ألم تسمع ما قال أبو حباب؟! " يريد: عبد الله بن أبي ) هو بحاء مهملة مضمومة ثم بباء موحدة- وفيه: بث الشكوى للصاحب. وقول سعد : (اعف عنه واصفح عنه). إنما قاله على سبيل الاستمالة؛ ليستخرج منه ما جبل عليه من كرم الأخلاق والعفو عن الجهال، ولا جرم أنه عفا عنه وتم لسعد مراده.

ثامنها:

قوله: (ولقد اصطلح أهل هذه البحرة -وفي رواية: البحيرة- على أن يتوجوه، فيعصبونه بالعصابة) البحيرة -بضم الباء ثم حاء مهملة- تصغير البحرة. قال عياض: وفي غير "صحيح مسلم " البحيرة -بفتح الباء وكسر الحاء- قال: وكلاهما بمعنى. يريد أهل المدينة.

[ ص: 179 ] والبحرة: الأرض والبلد والبحار والقرى. قال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر [الروم: 41] قال بعض المفسرين: أراد القرى والأمصار. وقال الطبري : كل قرية لها نهر جار فالعرب تسميها البحرة.

وقال ياقوت: بحرة -بفتح أوله وسكون الحاء المهملة- على لفظ تأنيث البحر من أسماء المدينة. والبحرين قرية لعبد القيس يقال لها: بحرة، وبحرة: موضع لية بالطائف، يقال لها: بحيرة الرغاء، سلكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من حنين، وبنى به مسجدا، وأما بتصغير بحرة فيراد به: كل مجتمع ماء مستنقع لا اتصال له بالبحر الأعظم غالبا، ويكون ملحا وعذبا. [وذكر] أربعة عشر موضعا، وضبط الحازمي التي بالطائف بضم الباء الموحدة. ومعنى (يتوجوه) يجعلوه ملكا

ورئيسا عليهم، وكان من عادتهم إذا ملكوا إنسانا توجوه وعصبوه، أي: يعمموه بعمامة الملوك.

وفي رواية ابن إسحاق : لقد جاءنا الله بك وإنا ننظم له الخرز لنتوجه.

قال القرطبي : وهذا أولى من قول من قال: يعصبوه، أي: يملكوه فتعصب به أمورهم. ويبعد هذا -أيضا- قوله: (بالعصابة).

[ ص: 180 ] وقال ابن التين: معنى (يعصبوه بعصابة): يرئسونه عليهم ويسودونه، وكان الرئيس يسمى معصبا؛ لما يعصبه برأسه من الأمور، قال: وقيل؛ كان الرؤساء منهم يعصبون رءوسهم بعصابة يعرفون بها.

تاسعها:

قوله: (فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك) معنى (شرق) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء ثم قاف: غص، يعني: حسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان سبب نفاقه.

يقال: غص الرجل بالطعام، وشرق بالطعام، و(لحى) بالعظم. والصناديد: الأشراف. وكان ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - من العفو قبل أن يؤذن له في القتال كما ذكر في الأصل.

التالي السابق


الخدمات العلمية