التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4511 4789 - حدثنا حبان بن موسى، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عاصم الأحول، عن معاذة، عن عائشة - رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك [ الأحزاب: 51]. فقلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له: إن كان ذاك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا.

تابعه عباد بن عباد سمع عاصما. [ مسلم:1476 - فتح: 8 \ 525]


قال ابن عباس : ( ترجئ ): تؤخر. أرجه: أخره. أسنده ابن أبي حاتم من حديث علي بن أبي طلحة عنه، والهمز أكثر وأجود.

وهذه الآية نزلت -كما نقله الواحدي عن المفسرين- حين طلب أزواجه - عليه السلام - زيادة النفقة وشبه ذلك، فهجرهن شهرا حتى نزلت فيهن آية التخيير فأمر أن يخيرهن.

وعلى أنهن أمهات المؤمنين فلا ينكحن أبدا، وعلى أنه يؤوي إليه [ ص: 124 ] من يشاء ويرجي من يشاء، فيرضين به منهن، قسم لهن أم لم يقسم فيرضين بذلك.

وقال قوم: لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن، فقلن: يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا، فنزلت.

وحكى ابن الجوزي في الآية أربعة أقوال:

أحدها: تطلق من تشاء من نسائك وتمسك من تشاء منهن، قاله ابن عباس .

ثانيها: تترك نكاح من تشاء من أمتك، قاله الحسن.

ثالثها: تعتزل من شئت من أزواجك ولا تأتيها بغير طلاق، وتأتي من تشاء فلا تعتزلها، قاله مجاهد .

الرابع: تقبل من تشاء من المؤمنات اللواتي وهبن أنفسهن وتترك من تشاء، قاله السدي وعكرمة .

ثم ساق البخاري في الباب حديث عائشة رضي الله عنها: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث.

وأخرجه أيضا في النكاح.

ومسلم والنسائي وابن ماجه .

ومن حديثها أيضا عن معاذة، عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستأذن في بيت المرأة منا بعد أن نزلت عليه ترجي من تشاء [ الأحزاب: 51]. فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول له إن كان ذلك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا.

[ ص: 125 ] تابعه عباد بن عباد سمع عاصما .

وأخرجه أولا من حديث عبد الله ، عن عاصم الأحول، عن معاذة به مسلم وأبو داود والنسائي .

وظاهر قولها: ( أغار ) إلى آخره. . يدل على أن الآية نزلت في الواهبة نفسها، وبه قال الشعبي . وظاهر استئذانه أنه لم يخرج أحدا، وهو قول الزهري : ما علمت أنه أرجأ أحدا من أزواجه. وصححه الواحدي ، وقال قتادة : أطلق له أن يقسم بينهن كيف شاء، فلم يقسم إلا بالقسط.

روى عبد في "تفسيره" عن أبي رزين أن الآية لما نزلت آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكان يقسم بينهن سواء، لا يفضل بعضهن على بعض، وأرجأ ميمونة وسودة وجويرية وصفية وأم حبيبة، وصححه بعضهم، وجعل الداودي أم حبيبة في المؤويات، وهو غريب.

وعن الشعبي : إن نساء وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( فدخل ) ببعضهن وأرجأ بعضهن ولم يفارقهن حتى توفي، ولم ينحكن بعده، منهم أم شريك.

قال البيهقي : إن صح سنده كأنه أرجأهن ولم يقبلهن، وإن كن حلالا له، ولما أرجأ خولة تزوجها عثمان بن مظعون .

[ ص: 126 ] فوائد:

الأولى: اختلف في الواهبة نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أقوال:

أحدها: أم شريك، قاله عروة ، وأخرجه النسائي عنها، وهي بنت جابر بن ضباب بن حجر، من بني عامر بن لؤي. قاله مقاتل ، وكانت تحت أبي العسر الدوسي، فولدت له شريكا ومسلما، ثم مات عنها.

ثانيها: ميمونة بنت الحارث ، قاله ابن عباس .

ثالثها: زينب بنت خزيمة الأنصارية، أم المساكين، قاله الشعبي .

رابعها: خولة بنت حكيم، قالته عائشة، ففي "الصحيح" كما سيأتي عنها: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت عائشة: أما تستحي المرأة تهب نفسها للرجل، فلما نزلت: ترجي من تشاء منهن وقلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك، وهذا يدل على أن معنى قوله: ترجي : تؤخر فلا تقبل هبتها، وتؤوي إليك من تشاء بقبول هبتها، كما هو أحد الأقوال السالفة.

وهذا الحديث أخرجه من حديث محمد بن سلام، ثنا ابن فضيل، عن هشام ، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قال: ورواه أبو سعيد المؤدب، ومحمد بن بشر، وعبدة، عن هشام ، عن أبيه، عنها، يزيد بعضهم على بعض.

أما رواية أبي سعيد فأخرجها الإسماعيلي من حديث منصور بن أبي مزاحم، عنه.

[ ص: 127 ] وأما رواية محمد بن بشر فأخرجها من حديث أبي كريب ، ثنا أبو أسامة ومحمد بن بشر، عن هشام به. وأما رواية عبدة فأخرجها مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عنه، عن هشام به.

وقال السهيلي: اسمها غزية، وقيل: غزيلة، وقيل: إن الواهبة ليلى بنت الخطيم. وعند أبي عبيدة أن فاطمة بنت شريح وهبت نفسها له ; فنزلت وامرأة مؤمنة وعند عبد بن حميد ، عن الشعبي : وهبت امرأة من الأنصار نفسها له. وقوله للجونية: "هبي لي نفسك" إنما قاله لها وهي زوجه. أي: مكنيني، فليس مما نحن فيه.

الثانية:

اختلف في عقد النكاح بلفظ الهبة لغير سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قولين: أحدهما: صحته ولها ما سمي، وإلا فلها فرض مثلها، قاله أبو حنيفة وأصحابه.

والثاني: لا، وذلك من خصائصه، وبه قال الشافعي ومالك ، قال ابن القاسم : قال مالك : لا يحل ذلك لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحكاه أبو عبيد ، عن ابن المسيب قال: وبه قالت الأمة جميعها أن الهبة محرمة على البشر بعده ; لقوله: خالصة لك من دون المؤمنين ثم روى بإسناد عن عطاء جوازها.

[ ص: 128 ] وعند ابن القاسم صحته بلفظ الهبة إذا أراد به النكاح، كما إذا قال: وهبت لك ابنتي، وأراد به النكاح. وقال ابن المواز: لم يختلف أصحاب مالك أنه يفسخ قبلها، فإن بنى بها فقال ابن القاسم وعبد الملك: لا فسخ. وقال أشهب وابن عبد الحكم: يفسخ، وهو قول الشافعي ، لا يصح عنده إلا بأحد لفظين: إما التزويج أو الإنكاح، وهو قول أبي ثور والزهري وربيعة ، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه كما سلف، وأبو عبيد وداود: ينعقد بلفظ الهبة والبيع والتملك والصدقة. وعن مالك : انعقادها بذلك إذا ذكر المهر، وأورد الطحاوي على الشافعي قوله: لا ينعقد النكاح بما سماه الله الطلاق فإنه ينعقد بالكنايات، وجوابه: أن النكاح نوع تعبد فاختص، بخلافه، أما سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالأصح انعقاد نكاحه بلفظ الهبة ; للآية السابقة، وعلى هذا لا يجب مهر بالعقد، ولا بالدخول كما هو مقتضى الهبة.

وحكاه الرازي عن مجاهد وابن المسيب .

وهل يشترط لفظ النكاح من جهته أم يكفي بلفظ الإتهاب؟

فيه وجهان لأصحابنا:

أحدهما: لا يشترط -كما في حق المرأة، وأصحهما: نعم ; لقوله تعالى: أن يستنكحها فاعتبر في جانبه النكاح.

[ ص: 129 ] قال أصحابنا: وينعقد نكاحه بمعنى الهبة حتى لا يجب مهر ابتداء ولا انتهاء، وفي وجه غريب أنه يجب المهر، والذي خص به هو انعقاد نكاحه بلفظ الهبة دون معناها. وقال الماوردي مرة بسقوط المهر، وقال أخرى: اختلف أصحابنا فيمن لم يسم لها مهرا في العقد، هل يلزمه لها مهر المثل؟ على وجهين. وجه المنع أن المقصود منه التوصل إلى ثواب الله تعالى.

الثالثة:

أغرب الماوردي فحكى خلافا عن العلماء: هل كانت عنده - عليه السلام - امرأة موهوبة أم لا؟ من أجل اختلاف القراء في فتح ( أن ) وكسرها من قوله: إن وهبت نفسها فعلى الثاني يكون شرطا مستقبلا، وعلى الأول يكون خبرا عن ماض، قال: وعليه اختلف في من هي؟ فذكر بعض ما أسلفناه من الأقوال.

فائدة تنعطف على التخيير:

هل كان يحرم عليه - عليه أفضل الصلاة والسلام - طلاق من اختارته؟ فيه وجهان لأصحابنا: أحدهما وبه قطع الماوردي ، ونص عليه في "الأم": نعم كما يحرم إمساكها لو رغبت عنه، ومكافأة لهن [ ص: 130 ] على صبرهن، وبه يشعر قوله تعالى: ولا أن تبدل بهن من أزواج فإنه فراقهن وتزوج غيرهن.

وأصحهما: لا، كما لو أراد واحد من الأمة طلاق زوجته لا يمنع منه، وإن رغبت فيه، ولأن البدل معناه مفارقتهن أولا والتزويج بأمثالهن بدلا عنهن، وذلك مجموع أمرين، فلا يقتضي المنع من أولهما، وادعاء الحجر على الشارع في الطلاق بعيد. وفي وجه ثالث أنه يحرم عقب اختيارهن، ولا يحرم إذا انفصل عنه.

وذكر النحاس في الآية أقوالا منها: أنها منسوخة بالسنة، وهو أولاها.

قالت عائشة: ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حل له النساء. صححه الترمذي . وكذا قالت أم سلمة بزيادة: إلا ذات محرم، وقال تعالى: ترجي من تشاء منهن ويجوز أن تكون عائشة أرادتها، والآية وإن كانت متقدمة في التلاوة فهي متأخرة في النزول، كما وقع ذلك في قوله: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا إلى قوله: وعشرا [ البقرة: 234] لأنه ناسخ لقوله: متاعا إلى الحول [ البقرة: 240] وإن كان متأخرا عنه في التلاوة، فقد يسبق التالي إلى معرفة الحكم الذي استقر. ومنها أنها محكمة.

خاتمة:

فيه: لا بأس بعرض المرأة نفسها على أهل الخير.

التالي السابق


الخدمات العلمية