التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4788 5076 - وقال أصبغ أخبرني ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قلت يا رسول الله ، إني رجل شاب ، وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء . فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك ، فسكت عني ثم قلت مثل ذلك ، فسكت عني ثم قلت مثل ذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا هريرة ، جف القلم بما أنت لاق ، فاختص على ذلك أو ذر " . [فتح: 9 \ 177 ] .


ذكر فيه أحاديث :

[ ص: 199 ] أحدها :

حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل ، ولو أذن له لاختصينا .

وفي لفظ : لقد رد ذلك -يعني : النبي - صلى الله عليه وسلم - على عثمان ، ولو أجاز له التبتل لاختصينا . وقد أخرجه مسلم أيضا .

ثانيها :

حديث قيس قال : قال عبد الله -يعني ابن مسعود - : كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس لنا شيء . . الحديث سلف قريبا وسيأتي .

ثالثها :

وقال أصبغ : أخبرني ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ، إني رجل شاب ، وإني أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء . فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك ، فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك ، فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يا أبا هريرة ، جف القلم بما أنت لاق ، فاختص على ذلك أو ذر " .

الشرح :

الكلام عليه من وجوه :

أحدها :

كذا وقع في الأصول : (وقال أصبغ . . ) إلى آخره ، وكذا ذكره أبو مسعود وخلف ، وخالف ذلك أبو نعيم والطرقي فقالا : رواه

[ ص: 200 ] البخاري عن أصبغ . ووصله الإسماعيلي فرواه عن القاسم ، ثنا الرمادي ، ثنا أصبغ به .

وأما ما وقع في كتاب الطرقي : أصبغ بن محمد فغير جيد ; لأنا لا نعلم في البخاري شيخا اسمه أصبغ بن محمد ، بل ولا في باقي الستة ، وإنما هذا أصبغ بن الفرج وراق ابن وهب ، وأخرجه النسائي من حديث أنس بن عياض ، عن الأوزاعي ، عن الزهري به .

وقال : الأوزاعي لم يسمعه من الزهري ، وهو حديث صحيح .

ثانيها :

العنت بالتحريك : الحمل على المكروه ، وقد عنت يعنت ، وأعنته غيره . فالعنت : الإثم ، وقد عنت : اكتسب إثما ، والعنت : الفجور والزنا وكل أمر شاق ، ذكره في "المنتهى " وفي "التهذيب " : الإعنات : تكليف غير الطاقة .

وقال ابن الأنباري : أصله التشديد .

ثالثها :

التبتل : الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعا إلى العبادة ، وأصله القطع ، ومنه فاطمة البتول ، ومريم البتول ; لانقطاعهما عن نساء زمانهما دينا وفضلا ورغبة في الآخرة ، وصدقة بتلة . أي : منقطعة عن مالكها .

[ ص: 201 ] قال الطبري : والتبتل الذي أراده عثمان بن مظعون هو ما عزم عليه من ترك النساء : والطيب وكل ما يلتذ به مما أحله الله لعباده من الطيبات مطلقا ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية [المائدة : 87 ] الآية .

وروي هذا عن ابن عباس وجماعة .

وقول أبي زيد : التبتل : العزوبة . يريد نوعا من أنواع التبتل .

رابعها :

إن قيل : من أين يلزم من جواز التبتل عن النساء : جواز الاختصاء ، وهو قطع عضوين شريفين بهما قوام النسل ، وربما أفضى بصاحبه إلى الهلاك ، وهو محرم بالاتفاق ؟ فالجواب : إن ذلك لازم من حيث أن مطلق التبتل يتضمنه ، (وكأن قائل الحقيقي ) الذي يؤمن معه شهوة النساء : هو الخصاء ، وكأنه أخذه بأكثر ما يدل عليه الاسم ، والألم العظيم مغتفر في جنب صيانة الدين ، فقد يغتفر الألم العظيم في جنب ما هو أعظم منه كقطع اليد للأكلة ، وكالكي والبط ، وغير ذلك ، ودعوى إفضائه إلى الهلاك غالبا غير مسلم ، بل وقوع الهلاك منه نادر ، فلا يلتفت إليه ، وخصاء البهائم يشهد لذلك ، وما ذكرناه إنما هو تقدير ما وقع لسعد ، ولا يظن أن ذلك يجوز لأحد اليوم ، بل هو محرم بالإجماع ، وكل ما ذكرناه إنما هو يمشي على الأخذ بظاهر قوله : (لاختصينا ) ويحتمل أن يريد سعد : لمنعنا أنفسنا منع المختصي ، والأول هو الظاهر .

[ ص: 202 ] قال المهلب : وإنما نهى - عليه السلام - عن التبتل والترغيب من أجل أنه مكاثر بهم الأمم يوم القيامة ، وأنه في الدنيا يقاتل بهم طوائف الكفار ، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال ، فأراد - عليه السلام - أن يكثر النسل .

قلت : وإذا كان التبتل الذي لا جناية فيه على النفس إنما هو منعها عن المباح لها ، فمنعها ما فيه جناية عليها بإيلامها -وهو الخصاء - أحرى أن يكون منهيا عنه ، وثبت أن قطع شيء من الأعضاء من غير ضرورة تدعو إلى ذلك حرام .

وأما حديث أبي أمامة رفعه : "أربعة لعنهم الله فوق عرشه وأمنت عليه الملائكة ، الذي يخصي نفسه عن النساء . . " الحديث ، فهو منكر كما قاله أبو حاتم في "علله " .

ولا التفات إلى ما روي : "خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد " ، فإنه ضعيف بل موضوع ، وكذا قول حذيفة : إذا كان سنة خمسين ومائة فلأن يربي أحدكم جرو كلب خير له من أن يربي ولدا .

[ ص: 203 ] ومما يوهن ذلك أنه لو قيل بذلك لبطل النسل والجهاد والدين ، وغلب أهل الكفر مع ما فيه من تربية الكلاب .

فرع :

قال ابن حزم : وليس النكاح فرضا على النساء : لقوله تعالى : والقواعد من النساء [النور : 60 ] الآية ، وقوله - عليه السلام - في الخبر الثابت : "الشهادة سبع سوى القتل " فذكر - عليه السلام - "المرأة تموت بجمع شهيدة " ، قال : و [هي ] التي تموت في نفاسها . "والمرأة تموت بكرا لم تطمث " . وفيما ذكره نظر ، فالنساء شقائق الرجال . وحديث علي : "ثلاث لا تؤخرها " منها : "الأيم إذا وجدت كفؤا " .

وللحاكم في حديث عائشة مرفوعا : "ما من شيء خير لامرأة من زوج أو قبر " ولابن الجوزي في كتاب "النساء " من حديث زيد بن أسلم ، عن أبيه قال عمر رضي الله عنه : زوجوا أولادكم إذا بلغوا ولا تحملوا آثامهم . وعن خليد بن دعلج قال : قال الحسن : بادروا ببناتكم التزويج .

وللخلال في "علله " عن ابن أبي نجيح المكي رفعه : "مسكينة مسكينة امرأة ليست لها زوج " قالوا : يا رسول الله ، وإن كانت غنية من المال ؟ قال : "وإن كانت غنية من المال " وقال بمثل ذلك في الرجل .

[ ص: 204 ] قال ابن معين : هذا مرسل . وأخرجه أبو نعيم والطبراني في "الأوسط " أيضا .

فصل :

ينعطف على ما مضى : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم ما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك لها بعض الخبث والمشقة أو أمنه ; وذلك لرده - عليه السلام - التبتل على عثمان بن مظعون ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده ، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه ، وعمل به رسوله وسنه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون ; إذ كان خير الهدي هديه ، فإذا كان ذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لبس ذلك من حله ، وآثر أكل الفول والعدس على أكل خبز البر والشعير ، وترك أكل اللحم والودك ; حذرا من عارض الحاجة إلى النساء ، فإن ظن الظان أن الفضل في غير ذلك ، قلنا : لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف فضل ما بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ ، وذلك أن الأولى للإنسان بالنفس إصلاحها وعونها له على طاعة ربها ، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة ; لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعاته .

[ ص: 205 ] فصل :

وفيه : أن خصاء بني آدم حرام ، وذلك أن التبتل إذا كان منهيا عنه ولا جناية فيه على النفس غير منعه المباح ، فمنعها ما له فيه جناية عليها بإيلامها وتعذيبها بقطع بعض الأعضاء أحرى أن يكون منهيا عنه ، فثبت بها أن قطع شيء من أعضاء الإنسان من غير ضرورة تدعو إلى ذلك حرام ، كما أسلفناه ، وسواء في ذلك الصغير والكبير ، ولأن فيه تغيير خلق الله ، ولما فيه من قطع النسل وتعذيب الحيوان كما أسلفناه ، وأما غير الآدمي فإن كان لا يؤكل فكذلك ، كما قاله البغوي ، وأما المأكول فيجوز في صغره دون كبره .

فصل :

وقوله : ("فاختص على ذلك أو ذر" ) . وقع في بعض الأصول : "اقتصر " . بدل : "اختص " . وهذا مثل قوله : اعملوا ما شئتم [فصلت : 40 ] لأنه أمر بعد حظر ، فهو في معنى الزجر .

قال ابن الجوزي : ليس بأمر ، وإنما المعنى : إن فعلت أو لم تفعل فلا بد من نفوذ القدر ، وقد رأينا بعض جهال الأحداث يزهد في صباه ، فلما اشتدت عليه العزوبة جب نفسه ، وبعضهم جبها قال : بحيائه من ربه . فانظر ما يصنع الجهل بأهله ، فأول ما يقال لهذا : ليس لك أن تتصرف في شيء إلا بإذن من رب العالمين ، وهذا أمر لا يقال ما أذن له ، بل قد حرمه ثم ينبغي أن الله وضع هذا الأمر لحكمة وهي إيجاد النسل ، فمن تسبب في قطعه فقد ضاد الحكمة ، ثم من النعمة على

[ ص: 206 ] الرجل خلقه رجلا ولم يجعل امرأة ، فإذا جب نفسه اختار النقص على التمام ، فلو مات من ذلك استحق النار مع مكابدته في العاجلة شدة لا توصف ، ومنع نفسه لذة ووجود ولد يذكر به أو يثاب عليه ، وكان نسبه متصلا من آدم إليه فتسبب بقطع ذلك المتصل مع تشويهه نفسه وهواه يعد له بما رجاه ، فإن قطع الآلة لا يزيل ما في القلب من الشهوة بل يزاد أضعافا فيما ذكره الجاحظ في كتاب "الحيوان " وكتاب "الخصيان " ، والعجيب من المتزهد الذي قال : إنه استحيا من الله مما وضعه الله فيه ، فلو شاء الله لم يضع هذا في نفسه .

فصل :

وفي حديث أبي هريرة إثبات القدر ، وأن المرء لا يفعل باختياره شيئا لم يكن سبق في علم الله سبحانه .

فصل :

قول ابن مسعود : (ثم أرخص لنا أن ننكح بالثوب ) . يعني : المتعة التي كانت حلالا في أول الإسلام ثم نسخت بالعدة والميراث والصدقات .

التالي السابق


الخدمات العلمية