التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4804 [ ص: 261 ] 16 - باب: الأكفاء في المال ، ونكاح المقل المثرية

5092 - حدثني يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى [النساء : 3 ] قالت : يا ابن أختي ، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ، ويريد أن ينتقص صداقها ، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق ، وأمروا بنكاح من سواهن ، قالت : واستفتى الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ، فأنزل الله : ويستفتونك في النساء إلى وترغبون أن تنكحوهن [النساء : 3 ] فأنزل الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ونسبها في إكمال الصداق ، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال ، تركوها وأخذوا غيرها من النساء ، قالت : فكما يتركونها حين يرغبون عنها ، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها ، إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق . [انظر : 2494 - مسلم: 3018 - فتح: 9 \ 136 ] .


ذكر فيه عن عائشة رضي الله عنها وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى [النساء : 3 ] السالف في تفسير سورة النساء .

والمثرية : الكثيرة المال ، يقال : ثري القوم إذا كثروا ، وأثروا : إذا كثرت أموالهم .

ووجه الترجمة : أن الرجل إذا كانت قرابته ملية ، وهو غير ملي فيجوز أن يتزوجها إذا أقسط في صداقها وعدل ، فصح بهذا أن الكفؤ في المال هو تبع للدين على ما سلف ، فإن رأى ولي اليتيمة تزويجها من رجل يقصر ماله عن مالها ، وكان صالحا يعدل فيها وفي صداقها ، فلا بأس بذلك أيضا .

وحديث عائشة دال على أنه يجوز للولي أن يتزوج يتيمته إذا رضيت

[ ص: 262 ] به دون السلطان
، وقد أجازه الحسن البصري وربيعة ومالك والليث والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور وابن حزم ، وقال زفر والشافعي : لا يجوز أن يتزوجها إلا بالسلطان أو يزوجها منه ولي هو أقعد بها منه أو مثله في القعود . وقاله أيضا داود بن علي ، واحتجوا بأن الولاية من شرط العقد ، وكما لا يكون الشاهد ناكحا ولا منكحا ، كذلك لا يكون الناكح منكحا ، ويفسخ النكاح عند مالك قبل الدخول وبعده .

وفيه قول آخر ، وهو أن تجعل أمرها إلى رجل يزوجها منه .

قال ابن بطال : وروي هذا عن المغيرة بن شعبة ، وبه قال أحمد ، ذكره ابن المنذر ، وسيأتي في البخاري أن المغيرة خطب امرأة هو أولى الناس بها فأمر رجلا فزوجه . وسيأتي مسندا . واحتج الأولون بالهبة لها حيث يتخذ العاقد والقابض ، وكذلك النكاح .

ألا ترى أنه - عليه السلام - زوج المرأة من الرجل بما معه من القرآن ، فكذلك أن يزوجها من نفسه لو قبلها -كما فعل في خبر صفية حين جعل عتقها صداقها ، وجويرية كما سلف .

وكذا حديث الباب أيضا ، فإن الله تعالى لما عاتب الأولياء أن يتزوجوهن إن كن من أهل المال والجمال إلا على سنتهن من الطلاق ،

[ ص: 263 ] وعاتبهم على ترك نكاحهن إذا كن قليلات الأموال ، فاستحال أن يكون ذلك منه تعالى فيما لا يجوز نكاحه ; لأنه لا يجوز أن يعاتب أحدا على ترك ما هو حرام عليه .

ألا ترى أنه أمر وليها أن يقسط لها في صداقها ، ولو أراد بذلك بالغا لما كان في ذكره أعلا شبيها في الصداق ، يعني : إذا كان له أن يراضيها على ما يشاء ، ثم يتزوجها على ذلك ، فثبت أن الذي أمر أن يبلغ بها أعلا شبيها في الصداق هي التي لا أمر لها في صداقها المولى عليها وهي غير بالغ ، وما أسلفناه من عند البخاري عن المغيرة قد أسنده أبو عبيد عن سالم بإسناد صحيح عن قبيصة ، عن سفيان ، عن عبد الملك بن عمير قال : أراد المغيرة أن يتزوج [امرأة هو وليها ، فأمر ] وليها من غير ثقيف فزوجها إياه .

وحدثنا هشيم ، ثنا محمد بن سالم عن الشعبي : أراد المغيرة أن يتزوج بنت عمه عروة بن مسعود ، فأرسل إلى عبد الله بن أبي عقيل ، فقال له : زوجنيها . فقال : ما كنت لأفعل ، أنت أمير البلد وابن عمها ، فأرسل إلى عثمان بن أبي العاصي فزوجها إياه .

وقال البخاري : وقال عبد الرحمن بن عوف لأم حكيم بنت قارظ : أتجعلين أمرك إلي ؟ فقالت : نعم . فقال : قد تزوجتك .

وقال عطاء : لتشهد أني قد نكحتك ، أو لتأمر رجلا من عشيرتها .

[ ص: 264 ] والأول رواه ابن سعد ، عن ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد : أن أم حكيم قالت . . الحديث .

والثاني رواه ابن أبي خيثمة ، عن أبيه ، عن سفيان ، عنه . قال ابن المنذر : كان عطاء يجيز للمرأة أن تزوج نفسها إذا كان بشهادة .

وذكر أبو الفرج الأموي في "تاريخه " بإسناد جيد : أن النوار جعلت أمرها بيد ابن عمها همام بن غالب ، فزوجها من نفسه فلم ينكر عليه من كان في عصره من الصحابة والتابعين .

وأما فعل المغيرة فهو من باب الأدب في النكاح أن يأمر الولي رجلا بعقد نكاحه مع وليته ، ولو تولى هو عقده إذا رضيت به لكان حسنا .

قال أبو عبيد : وجدنا سنتين في هذا الباب :

الأولى : أن يكون الولي هو الذي تزوجها من نفسه من غير أن يولي ذلك أحدا سواه كما فعل - عليه السلام -بصفية وجويرية ، إذ تزوجهما من غير أن توليا ذلك غيره ; لأنه كان هو المعتق والسلطان ، ولم يكن هنا أولى بنسب من أهل الإسلام ، وكان الشارع أولى الناس بهما .

الثانية : أن يأمر رجلا فيكون هو الذي يخاطب الولي بالنكاح كفعل ميمونة إذ جعلت أمرها إلى العباس ، وكفعل أم سلمة ، إذ زوجها ولدها ، وقد كان بعضهم تناول في هذه الأحاديث أنها مرخصة ، والمرأة تولي أمرها لرجل فيتزوجها ، ولا رخصة في ذلك ; لأن الزوج هنا ولي ، فلو زوجها من نفسه كان جائزا ، وكذلك إذا أذن لمعرفته فهذا على

[ ص: 265 ] كل حال نكاح ولي ، ولو أن هذا الولي جعل أمرها إلى غريب فزوجها منه كان جائزا ; لأنه لابد من أن يكون للمنكح ولاية عليها ، وإن كان الزوج أقرب إليها منه .

وقال أبو حنيفة في قوله : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى [النساء : 3 ] وفي قوله : في يتامى النساء [النساء : 127 ] : أن اليتيمة لا تكون إلا غير بالغة ، يدل على أن لوليها أن ينكحها قبل البلوغ ، وهو أحد أقوال مالك وليس بالمشهور ، والآخر : لا ينكحها . والآخر : يتزوجها إذا احتاجت .

وقد يقال : إن من لم يبلغ لم يرث شيئا إلا أن يقول الولي واليتامى مجاز ; لقوله : وآتوا اليتامى أموالهم [النساء : 2 ] سماهم يتامى وقد بلغوا .

وفيه : أن للولي حقا في الولاية . ومعنى الآية : أن الله تعالى خاطب الأولياء إن خفتم أن تقوموا بالعدل فتزوجوا غيرهن ممن طاب لكم من النساء ، ثم ذكر العدد ، وهو قول عائشة .

وقال ابن عباس : معناها قصر الرجال على أربع لأجل أموال اليتامى ، نزلت جوابا لتحرجهم على القيام بإصلاح أموال اليتامى ، وفسر عكرمة قول مولاه هذا بأن لا تكثروا من النساء فتحتاجوا إلى أخذ أموال اليتامى ، وقال السدي وقتادة : معناه : إن خفتم الجور في أموالهم فخافوا مثله في النساء ، فإنهن كاليتامى في الضعف ولا تنكحوا أكثر مما يمكنكم إمساكهن بالمعروف .

التالي السابق


الخدمات العلمية