التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
[ ص: 378 ] 34 - باب: قول الله -عز وجل - : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به إلى قوله : حليم [البقرة : 235 ]

أكننتم أضمرتم ، وكل شيء صنته فهو مكنون .

وقال أبو عبد الله ، وقال طلق : ثنا زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - : فيما عرضتم يقول : إني أريد التزويج ، ولوددت أني يسر لي امرأة صالحة . وقال القاسم : يقول : إنك علي كريمة ، وإني فيك لراغب ، وإن الله لسائق إليك خيرا . ونحو هذا . وقال عطاء : يعرض ولا يبوح ، يقول : إن لي حاجة وأبشري ، وأنت بحمد الله نافقة . وتقول هي : قد أسمع ما تقول . ولا تعد شيئا ، ولا يواعد وليها بغير علمها ، وإن واعدت رجلا في عدتها ثم نكحها بعد لم يفرق بينهما . وقال الحسن : لا تواعدوهن سرا [البقرة : 235 ] : الزنا . ويذكر عن ابن عباس : الكتاب أجله [البقرة : 235 ] قال : أن تنقضي العدة . [فتح: 9 \ 178 ] .


الشرح :

أما الآية فروى أبو محمد بن حيان في كتاب "النكاح " من حديث عبد الله بن أحمد ، قالت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط : أنكحني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ثم قتل عني ، فأرسل إلي الزبير بن العوام يقول : احبسي علي نفسك . فقلت : نعم . فنزلت الآية .

ومعنى أكننتم كما ذكره ، والتعليق الأول أخرجه ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد ، عن منصور بلفظ : إني فيك لراغب ، وإني أريد امرأة أمرها كذا وكذا ، ويعرض لها بالقول . وقال أبو الأحوص ، عن منصور بلفظ : يعرض الرجل فيقول : إني أريد أن أتزوج ، ولا ينصب لها في الخطبة .

[ ص: 379 ] وفي حديث عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، عنه قال : يقول : إني لراغب ولوددت أني تزوجتك ، حتى يعلمها أنه يريد تزويجها من غير أن يوجب عقدة ، أو يعاهدها على عهد .

وقول القاسم أخرجه ابن أبي شيبة أيضا ، عن يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه في المرأة يتوفى عنها زوجها ، ويريد الرجل خطبتها وكلامها ، قال : يقول : إني بك لمعجب ، وإني عليك لحريص ، وإني فيك لراغب ، وأشباه ذلك .

وثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : يقول في العدة : إني عليك لحريص . الحديث .

وتعليق عطاء أخرجه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عمرو بن دينار ، عنه ، وقول الحسن أخرجه عبد الرزاق أيضا ، عن معمر ، عن قتادة ، عنه بلفظ : هو الفاحشة . كأنه يريد الفعل ; لأن الزنا لا يجوز المواعدة فيه سرا ولا جهرا ، وهو لفظ مستعمل مشهور على ألسنة العرب .

وعند ابن أبي شيبة ، عن أبي أسامة ، عن عمران بن جرير ، عن أبي مجلز والحسن : هو الزنا ، وكذا قاله إبراهيم وأبو الشعثاء .

وقال الشعبي : هو أن يأخذ عليها عهدا وميثاقا ألا تتزوج غيره ، وقال مجاهد : سرا يخطبها في عدتها .

وقال ابن سيرين : يلقى الولي فيذكر رغبة وحرصا .

[ ص: 380 ] وقال الضحاك : لا (يقاضيها ) أن لا تتزوج غيره . وكذا قال سعيد بن جبير .

وقال الشافعي : هو الجماع ، وهو التصريح فيما لا يحل له في حالته تلك .

وقوله : (ويذكر عن ابن عباس ) إلى آخره ، هذا التعليق أخرجه إسماعيل بن أبي زياد في "تفسيره " ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عنه ، وعند ابن أبي شيبة جواز التعريض ، عن مجاهد والحسن وعبيدة السلماني وسعيد بن جبير والشعبي وأبي الضحى ، وقال النخعي : لا بأس بالهدية في تعريض النكاح ، وقال ابن إدريس ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت قيس : "انتقلي إلى أم شريك ولا تفوتينا نفسك " .

وأخرجه أبو الشيخ في كتاب "النكاح " من حديث يوسف بن محمد ثنا ابن إدريس ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا به ، ثم قال : وهذا الحديث لم يتابع عليه يوسف أحد ، ثم ساقه من حديث أبي كريب ، ثنا ابن إدريس بإسقاط أبي هريرة .

وفي الدارقطني من حديث عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عمته سكينة بنت حنظلة قالت : استأذن علي محمد بن علي بن الحسين ، ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي . فقال : قد عرفت قرابتي من رسول

[ ص: 381 ] الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقرابتي من علي ، وموضعي في العرب . قالت : فقلت : غفر الله لك أبا جعفر ، أنت رجل يؤخذ عنك ، تخطبني في عدتي ؟ ! قال : إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن علي ، وقد دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة فقال : "لقد علمت أني نبي الله ، وخيرته من خلقه ، وموضعي في قومي " فكانت تلك خطبته .

فصل :

حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله : ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ، وهذا من المحكم المجتمع على تأويله ، أن بلوغ أجله : انقضاء العدة ، وأباح الله تعالى التعريض في العدة بقوله : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [البقرة : 235 ] ; ولأنه لم يختلف العلماء في إباحة ذلك لما عدا الرخصة ، وإنما منع من العقد فيها ; لأن ذلك ذريعة إلى المواقعة فيها التي هي محبوسة على ماء الميت أو المطلق ، كما منع المحرم بالحج من عقده النكاح ; لأنه مؤد إلى الوقاع ، فحرم عليه السبب والذريعة إلى فساد ما هو فيه وموقوف عليه ، وأباح التعريض في العدة ; خشية أن تفوت نفسها .

فصل :

اختلف في ألفاظ التعريض ، والمعنى واحد ، فقال قتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى : ولكن لا تواعدوهن سرا لا يأخذ عهدها في عدتها ألا تنكح غيره قال : إسماعيل بن إسحاق [هذا أحسن ] من قول من تأول في قوله : ولكن لا تواعدوهن سرا : أنه الزنا ; لأن ما قبل الكلام

[ ص: 382 ] وما بعده لا يدل عليه ، ويجوز في اللغة أن يسمى الغشيان سرا ، فسمي النكاح سرا ، إذ كان الغشيان يكون فيه كما سمي التزويج نكاحا ، وهو أشبه في المعنى ; لأنه لما أجيز له التعريض فيه ، لم يؤذن لهم في غيره ، فوجب أن يكون كل شيء يجاوز التعريض فهو محذور ، والمواعدة تجاوز التعريض ، فوسع الله على عباده في التعريض في الخطبة ، لما علم منهم .

وبلغني عن الشافعي أنه احتج بهذا التعريض في التعريض بالقذف ، وقال : كما لم يجعل هذا التعريض في هذا الموضع بمنزلة التصريح ، كذلك لا يجعل التعريض في القذف بمنزلة التصريح ، واحتج بما هو حجة عليه ، إذ كان التعريض بالنكاح قد فهم عن صاحبه ما أراد ، فكذلك ينبغي أن يكون التعريض بالقذف قد فهم بالمراد ، فإذا فهم أنه قاذف حكم عليه بحكم القذف ، وينبغي له على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف مباح كما أبيح التعريض بالنكاح .

فصل :

اختلف في الرجل يخطب المرأة في عدتها جاهلا ، ويواعدها ويعقد بعد العدة : فكان مالك يقول : فراقها أحب إلي ، دخل بها أو لم يدخل ، ويكون بطلقة واحدة ، ويدعها حتى تحل .

قال الشافعي : إن صرح بالخطبة ، وصرحت له بالإباحة ، ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدة ، فالنكاح ثابت والتصريح لها مكروه ; لأن النكاح حادث بعد الخطبة .

[ ص: 383 ] واختلفوا إذا تزوجها في العدة ودخل بها : فقال مالك والليث والأوزاعي يفرق بينهما ، ولا تحل له أبدا ، قال مالك والليث : ولا بملك اليمين ، واحتجوا بأن عمر - رضي الله عنه - قال : لا يجتمعان أبدا وتعتد منهما جميعا .

وقال الثوري والكوفيون والشافعي : يفرق بينهما . فإذا انقضت عدتها من الأول فلا بأس أن يتزوجها . واحتجوا بإجماع العلماء أنه لو زنا بها لم يحرم عليه تزويجها ، فكذلك وطؤه إياها في العدة ، وهو قول علي ذكره عبد الرزاق ، وذكر عن ابن مسعود مثله ، وعن الحسن أيضا .

وذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن الأشعث ، عن الشعبي ، عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك ، وجعلهما يجتمعان .

واختلفوا هل تعتد منهما : فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول ، وتستأنف عدة أخرى من الآخر ، روي ذلك عن عمر وعلي ، وهو قول الليث والشافعي وأحمد وإسحاق .

وروى ابن القاسم عن مالك أن عدة واحدة تكون لها جميعا ، سواء كانت بالحيض أو الحمل أو الشهور ، وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ، وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة ، فدل ذلك على أنها في عدة من الثاني ; ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه ، وهذا غير لازم ; لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب ; لما يتلوها من عدة الثاني ، وهما حقان قد أوجبا عليها لزوجين ،

[ ص: 384 ] كسائر حقوق الآدميين ، لا يدخل أحدهما في صاحبه .

فصل :

قال الشافعي : والعدة التي أذن بالتعريض فيها هي العدة من وفاة الزوج ، ولا أحب ذلك في العدة من الطلاق الثاني احتياطا ، وإنما التي لزوجها عليها رجوع فلا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها .

وحاصل مذهبه أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات ، وأما التعريض فيحرم للرجعية ، ويحل التعريض في عدة الوفاة والبائن .

ومعنى قوله : (يعرض ولا يبوح ) يريد : ولا يصرح . يقال : باح بسره إذا أفشاه .

وقال ابن حزم : لا يحل لأحد أن يخطب معتدة من طلاق أو وفاة ، فإن تزوجها قبل تمام العدة فسخ أبدا ، دخل بها أو لم يدخل ، طالت مدته معها أو لم تطل ، ولا توارث بينهما ، ولا نفقة لها عليه ، ولا صداقا ، ولا مهرا ، فإن كان أحدهما عالما فعليه حد الزنا من جلد أو رجم ، وكذلك إن علما جميعا ، ولا يلحق الولد به إن كان عالما ، فإن كانا جاهلين فلا شيء عليهما ، فإن كان الرجل جاهلا لحقه الولد ، فإذا فسخ النكاح وتمت عدتها فله أن يتزوجها إلا أن يكون الرجل طلق امرأته ، فله أن يرجعها في عدتها منه ما لم يكن طلاق ثلاث .

[ ص: 385 ] فصل :

تضمنت آية الباب أربعة أحكام : اثنان ممنوعان وهما النكاح في العدة والمواعدة ، واثنان مباحان : التعريض والإكنان .

فصل :

قول عطاء : وإن واعدت رجلا في عدتها إلى آخره هو خلاف ما في "المدونة " من التفريق ، وإن لم يدخل استحبابا ، ونقل أشهب عنه يفرق مطلقا . زاد أشهب في "الموازية " ولا تحل له أبدا . قال عمر بن الخطاب : لا يجتمعان أبدا ، وقد سلف .

واختلف إذا دخل بعد العدة ، وقد نكح فيها ، فقال مالك في "المدونة " : يتأبد التحريم . وقال المغيرة : يتزوجها بعد الاستبراء من الماء الفاسد . وذكر ابن الجلاب أنه إذا نكح في العدة ولم يدخل بها روايتان تأبد التحريم وعدمه ، وذكر روايتين أيضا إذا دخل في العدة عالما بالتحريم هل تحل أم لا ويتزوجها إذا انقضت المدة أو تأبد تحريمها عليه ، فتحصلنا على أربع مسائل : تأبده إذا واعد فيها ، وإذا نكح فيها ولم يدخل ، وإذا نكح فيها ودخل بعد ، وإذا نكح فيها ودخل فيها عالما بالتحريم .

التالي السابق


الخدمات العلمية