التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4844 5137 - حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق ، قال : أخبرنا الليث ، عن ابن أبي مليكة ، عن أبي عمرو -مولى عائشة - عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله ، إن البكر تستحي . قال : " رضاها صمتها " . [انظر : 6946 ، 6971 - مسلم: 1420 - فتح: 9 \ 191 ] .


ذكر فيه حديث هشام ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، أن أبا هريرة - رضي الله عنه - حدثهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا البكر حتى تستأذن " . قالوا : يا رسول الله ، وكيف إذنها ؟ قال : "أن تسكت " .

ويأتي في الحيل ، وأخرجه أيضا مسلم والأربعة .

وحديث أبي عمرو (مولى عائشة ) واسمه ذكوان وكانت دبرته ، وهو ثقة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : يا رسول الله ، إن البكر تستحي . قال : "رضاها صمتها " .

[ ص: 418 ] ويأتي في ترك الحيل والإكراه ، وأخرجه مسلم أيضا .

الشرح :

ذكر الإسماعيلي في "جمعه " حديث يحيى بن أبي كثير أن جماعة رووا عنه هذا الحديث ، عد منهم اثني عشر ، منهم : الأوزاعي ، وبحر بن كنيز ، وقد أسلفنا في باب لا نكاح إلا بولي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : "يستأذنها أبوها " .

وقال أبو داود : أبوها ليس بمحفوظ .

وفي الباب : عن عدي بن عدي عن أبيه عدي بن عميرة ، أخرجه ابن ماجه وابن وهب ، وجعله البيهقي وأبو عبيد العرس بن عميرة : "وأمروا النساء في أنفسهن ، فإن الثيب تعرب عن نفسها ، والبكر رضاها صمتها " .

وفيه أيضا : عن ابن عمر ، أخرجه الدارقطني . وزعم الترمذي أن عمر رواه كذلك -يعني مرفوعا - والذي في أبي عبيد عنه موقوفا .

[ ص: 419 ] قال البيهقي : يحمل حديث أبي هريرة على أنه يحتمل أن يكون المراد بالبكر المذكورة فيه اليتيمة التي لا أب لها ، فقد رواه محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة مرفوعا : "اليتيمة تستأمر في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها " .

ونحن نعلم أن يحيى بن أبي كثير ومحمد بن عمرو إذا اختلفا فالحكم لرواية يحيى ; لمعرفته وحفظه ، إلا أن هذا يشبه ألا يكون اختلافا ، فيحيى أدى ما سمع في البكر والثيب جميعا ، ومحمد أدى ما سمع في البكر وحدها ، وحفظ زيادة صفة في البكر لم يروها يحيى ، وليس في الحديث ما يدفعها ، ومحمد وإن كان لا يبلغ درجة يحيى فقد قبل أهل العلم بالحديث حديثه فيما لا يخالف فيه أهل الحفظ . كيف وقد وافقه غيره في هذا اللفظ من وجه آخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر حديث شبابة بن سوار ، عن يونس بن أبي إسحاق ، سمعت أبا بردة يحدث عن أبيه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فقد أذنت ، وإن كرهت لم تكره " وهذا إسناد موصول ، رواه جماعة من الأئمة عن يونس .

وفي رواية صالح بن كيسان ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - رفعه : "ليس للولي مع (الثيب أمر ) ، واليتيمة تستأمر " . رواه معمر عن صالح ، ورواه ابن إسحاق ، عن صالح ، عن

[ ص: 420 ] عبد الله بن الفضل ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وكذا رواه شعبة وغيره من القدماء ، عن مالك ، عن ابن الفضل ، عن نافع . وفي الحديث الثابت عن عائشة ، فذكر حديثها السالف . وفي لفظ : "تستأمر اليتيمة " .

وقال الدارقطني : يشبه أن يكون قوله : "والبكر تستأمر " إنما أراد البكر اليتيمة ; لأنا قد روينا في رواية صالح ومن تابعه ممن روى أنه عليه السلام قال : "اليتيمة تستأمر " وأما قول ابن عيينة عن زياد بن سعد : "والبكر يستأمرها أبوها " . فإنا لا نعلم أن أحدا وافق ابن عيينة على هذا اللفظ ، ولعله ذكره من حفظه ، فسبق إليه لسانه .

قال أحمد : فعلى هذا الحديث في استئمار البكر ورد في الولي غير الأب .

وقوله : "الثيب أحق بنفسها من وليها " . فيه دلالة على أن الثيب لا تجبر على النكاح ، وكأنه جعل ثيوبتها علة في ذلك ، ودل على أن التي تخالفها وهي البكر تجبر على النكاح ، ودل قوله في البكر : "اليتيمة تستأمر في نفسها " أن التي لا أب لها لا تجبر على النكاح ، فدل أن البكر التي تجبر على النكاح هي التي لها أب ، وترك هذا الأصل في موضع ، لدليل أقوى منه منع من استعماله لا يدل على تركه في سائر المواضع .

واستدل بعض أصحابنا بحديث ابن عمر السالف ، قال : يجعل العلة في امتناع الإجبار كونها يتيمة ، فدل أن التي ليست يتيمة بخلافها فيما لم

[ ص: 421 ] يرد الجبر ; لكونها أحق بنفسها من وليها .

وقال أبو عبيد : أهل العراق لا يرون النكاح جائزا على البكر البالغ أبدا إلا بإذنها وإن أنكحها عليها ويوجبونه عليها بالصمت ، ويرون أن زوجها إن طلقها أو مات عنها قبل دخوله ثم زوجها الأب غيره ، أن حكمها حكم البكر إذا ، ولا تكون بمنزلة الثيب حتى تجامع جماعا يوجب لها الصداق .

وفرق الخطابي بين الاستئمار والاستئذان أن الأول طلب الأمر من قبلها ، وأمرها لا يكون إلا بنطق ، والاستئذان : طلب الإذن ، وإذنها قد يعلم بسكوتها ; لأنها إذا سكتت استدل على رضاها .

فصل :

قال ابن المنذر : في هذا الحديث النهي عن نكاح الثيب قبل الاستئمار وعن نكاح البكر قبل الاستئذان ، ودل هذا الحديث على أن البكر الذي أمر باستئذانها البالغ ; إذ لا معنى لاستئذان من لا إذن لها ، ومن سخطها وسكوتها سواء ؟ !

فصل :

اختلف في تأويل هذا الحديث ، فقالت طائفة : لا يجوز للأب أن ينكح البالغ من بناته بكرا كانت أو ثيبا إلا بإذنها ، قالوا : والأيم : التي لا زوج لها ، وقد تكون بكرا أو ثيبا .

وظاهر هذا الحديث يقتضي أن تكون البكر لا ينكحها وليها أبا كان

[ ص: 422 ] أو غيره حتى يستأمرها ، وذلك لا يكون إلا في البوالغ ; لما دل عليه الحديث ; ولتزويجه - عليه السلام - عائشة وهي صغيرة ، وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور ، واحتجوا بهذا الحديث ; لأنه - عليه السلام - قال قولا عاما : "لا تنكح البكر حتى تستأذن ، ولا الثيب حتى تستأمر " . وكل من عقد (نكاحها ) على غير ما سنه الشارع فهو باطل . ودل الحديث على أن البكر إذا نكحت قبل إذنها بالصمت أن النكاح باطل ، كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر .

وقالت طائفة : للأب أن يزوج ابنته بغير إذنها ، صغيرة كانت أو كبيرة ، ولا يزوج الثيب إلا بأمرها ، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق .

وقال أبو قرة : سألت مالكا عن قوله - عليه السلام - : "البكر تستأذن في نفسها " أيدخل في هذا الأب ؟ قال : لا ، لم يعن بهذا الحديث الأب ، وإنما عنى به غير الأب . وإنكاح (البكر ) جائز على الصغار ، ولا خيار للواحدة منهن قبيل البلوغ .

قال ابن حبيب : وقد ساوى الشارع بين البكر والثيب في مشاورتهما في نفسهما ولم يفرق بينهما إلا في الجواب بالرضى ، فإنه جعل جواب البكر بالرضى في صماتها لاستحيائها ، وجعل جوابها بالكراهة لذلك في الكلام ، فإنه لا حياء عليها في كراهيتها كما يكون الحياء في رضاها ، ولم يلزم الشارع الثيب بالصمات حتى تتكلم بالرضى ; لمفارقتها في الحياء حال البكر ; لما تقدم من نكاحها .

[ ص: 423 ] والدليل على أن المراد باستئمار البكر غير ذات الأب حديث أبي موسى - رضي الله عنه - السالف : "تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فقد أذنت " . ففرق بتسميته إياها يتيمة بينها وبين من لها أب ، فإذا كانت يتيما فيلزم الأب مؤامرتها ، ولا يجوز نكاحه عليها بغير إذنها .

وقول الكوفيين : الأيم : التي لا زوج لها ، وقد تكون كذا ، جوابه أن العرب وإن كانت تسمي كل من لا زوج لها أيما فهو على الاتساع . وأصل اللغة : عدم الزوج بعد أن كان . لكن المراد بالأيم هنا : الثيب ، والدليل على ذلك أنه قد روى جماعة عن مالك : "والثيب أحق بنفسها من وليها " مكان قوله : "والأيم أحق بنفسها ، والبكر تستأمر " فذكر الأب بعد ذكره الأيم يدل على أنها الثيب ، ولو كانت الأيم هنا البكر لبطل الولي في النكاح ، ولكانت كل بكر لا زوج لها أحق بنفسها من وليها ، وكان هذا التأويل ردا لقوله تعالى : فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن [البقرة : 232 ] يخاطب بذلك الأولياء .

واختلفوا في الثيب الصغيرة ، فقال مالك وأبو حنيفة : يزوجها أبوها جبرا كالبكر ، وسواء أصيبت بنكاح أو زنا ، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة .

وعن أبي حنيفة ومالك : إذا حملت من زنا كالبكر . وقال الشافعي : لا تزوج حتى تبلغ فتزوج بإذنها ، وسواء جومعت بنكاح أو زنا . ووافقه أبو يوسف ومحمد إذا كان الوطء زنا ، واعتلوا بأنها إذا خبرت الرجال كانت أعرف بخطبها من الولي ، فوجب أن يكون الأمر لها .

واحتج الآخرون فقالوا : لما كانت محجورا عليها في مالها حجر الصغير جاز أن تجبر على النكاح . وأيضا فإنها قد ساوت البكر الصغيرة في أنه لا يصح إجبارها ، فلا معنى لاستئمارها .

[ ص: 424 ] وعن أحمد رواية : أنه لا يملك إجبارها . وأخرى : نعم . ويحمل الحديث على غير الأب . وعندهم إذا بلغت تسع سنين لها إذن معتبر ، وإن لم تبلغها فلا إذن لها ، ولا يجوز عندهم لغير الأب تزويجها كمذهبنا .

وقال أبو حنيفة : يجوز لكل وارث -وفي رواية : يجوز لكل عصبة - ويكون لها الخيار بعد البلوغ ، وعن أحمد مثله . والجد عندنا عند عدمه كالأب .

وقال صاحب "المغني " : الكبيرة لا يجوز للأب ولا لغيره تزويجها إلا بإذنها في قول أهل العلم ، إلا الحسن فإن عنده للأب تزويجها وإن كرهت . وقال النخعي : يزوج ابنته إذا كانت في عياله ، وإن كانت بائنة مع عياله استأمرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية