التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
444 [ ص: 562 ] 70 - باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد

456 - حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة، قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي. وقال أهلها: إن شئت أعطيتها ما بقي- وقال سفيان مرة: إن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا- فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرته ذلك، فقال: "ابتاعيها فأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق". ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر -وقال سفيان مرة: فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر -فقال: " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليس في كتاب الله؟! من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة". قال علي: قال يحيى. وعبد الوهاب، عن يحيى، عن عمرة. وقال جعفر بن عون: عن يحيى قال: سمعت عمرة قالت: سمعت عائشة. رواه مالك، عن يحيى، عن عمرة، أن بريرة. ولم يذكر صعد المنبر. [1493، 2155، 2168، 2536، 2560، 2561، 2563، 2564، 2565، 2578، 2717، 2726، 2729، 2735، 5097، 5279، 5284، 5430، 6717، 6751، 6754، 6758، 6760 - مسلم: 1504 - فتح: 1 \ 550] .


ذكر فيه حديث سفيان، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة، في قصة بريرة وأنه - عليه السلام - قام على المنبر فقال: "ما بال أقوام.. " الحديث.

قال علي -يعني: ابن المديني- قال يحيى وعبد الوهاب، عن يحيى، عن عمرة. وقال جعفر بن عون: عن يحيى: سمعت عمرة: سمعت عائشة.

ورواه مالك، عن يحيى، عن عمرة، أن بريرة. ولم يذكر صعد المنبر.

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في باب: البيع والشراء مع [ ص: 563 ] النساء من طريق عروة عن عائشة، وفي باب: إذا اشترط في البيع شروطا لا تحل من حديث هشام عن أبيه عنها.

وهو حديث أخرجه مسلم أيضا والأربعة مطولا، ومختصرا.

وأخرجه البخاري في مواضع أخر:

في الزكاة في باب الصدقة على موالي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي العتق، والمكاتب، والهبة، والبيوع، والطلاق، والفرائض (13)، [ ص: 564 ] والشروط، وكفارة الأيمان.

وأخرجه البخاري في الطلاق من حديث ابن عباس، وفي الفرائض من حديث ابن عمر وأخرج مسلم طرفا منه من حديث أبي هريرة.

وقول البخاري: (قال يحيى وعبد الوهاب عن يحيى عن عمرة) يريد: أن الحديث من طريق يحيى -يعني: القطان- وعبد الوهاب مرسل، يؤيده ما قاله الإسماعيلي: ليس فيما عندنا من حديث يحيى بن سعيد وعبد الوهاب عن يحيى ذكر المنبر وصعوده، وحديثهما مرسل.

وقوله: (وقال جعفر..) إلى آخره أفاد به تصريح سماع يحيى من عمرة، وسماع عمرة من عائشة، وقد أخرجه النسائي في الفرائض كذلك مسندا.

[ ص: 565 ] وقوله: (ورواه مالك عن يحيى) إلى آخره، رواه النسائي في الفرائض: عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك، قال ابن عساكر: مرسل.

إذا عرفت ذلك فالكلام عليه من وجوه -مع أن الأئمة أفردوه بالتأليف: ابن جرير وابن خزيمة، وغيرهما، وليس بصريح فيما ترجم له البخاري من ذكر البيع والشراء على المنبر وفي المسجد:

أحدها:

بريرة -بفتح الباء- فعيلة من الموالي قيل: إنها قبطية، وإنها ابنة صفوان، لأمها صحبة أيضا، روى عبد الملك عنها، وهو يدل على تأخرها إلى بعد الأربعين؛ لأن معاوية ولي سنة أربعين أو إحدى وأربعين، وهو ولاه ديوان المدينة وعمره ست عشرة سنة، وكان لها ولد من زوجها مغيث -بالغين- أو مقسم، وهي أول مكاتبة في الإسلام، كما أن سلمان الفارسي أول مكاتب على الأصح.

ثانيها:

كانت هذه الواقعة قبل قصة الإفك؛ لأن في حديث الإفك قال علي: واسأل الجارية فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فسألها، فذكرت ما هو مذكور في قصة الإفك، وكانت قصة الأول في غزوة المريسيع؛ وهي [ ص: 566 ] غزوة بني المصطلق، قال البخاري: قال ابن إسحاق: سنة ست، وقال ابن عقبة: سنة أربع.

وقال ابن سعد: خرج إليها يوم الإثنين، لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس من مهاجره؛ فقصتها ما بين دخوله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة، وما بين قصة الإفك.

ثالثها:

مكاتبة: مفاعلة؛ لأنها بين السيد وعبده، إما من الكتابة أو الإلزام.

رابعها:

قولها: (أتتها بريرة تسألها في كتابتها) أي: أتتها لتستعين بها في كتابتها، كما جاء مبينا في رواية أخرى في "الصحيح".

وذكر شيخنا قطب الدين في "شرحه" هنا اختلاف العلماء فيما إذا طلب العبد الكتابة من السيد، ونقل عن الجمهور أن إجابته، مندوبة بشروط، لا واجبة، وكأنه فهم أن المراد بسؤالها كتابتها: أن عائشة تكاتبها، وليس كذلك لما علمته.

خامسها:

فيه: حل السؤال للمكاتب من غير كراهة، ولا ينتظر العجز خلافا [ ص: 567 ] لمن أبعد؛ وقال: إنه ليس له السؤال حتى يعجز ويظهر أثر حاجته.

سادسها:

فيه أيضا: جوازها لغير القوت وستر العورة، وكره بعضهم المسألة لغير ذلك.

سابعها:

فيه: قبول خبر العبد والأمة؛ لأن بريرة أخبرت أنها مكاتبة، فأجابتها عائشة بما أجابت.

ثامنها:

كان على بريرة تسع أواق كاتبت عليها، كما ثبت في "الصحيح"، وفي رواية معلقة للبخاري: أنها دخلت عليها تستعينها وعليها خمس أواق؛ والأولى أثبت.

ويحتمل أن هذه الخمس هي التي حلت من نجومها.

واستدل به من منع الكتابة الحالية، وهو قول جماعة، وخالف أبو حنيفة، فصححها، ونقل عن مالك أيضا، وعند الشافعي: أنه لا يجوز على نجم واحد بل لا بد من نجمين فصاعدا.

تاسعها:

فيه دلالة على جواز منع المكاتب.

وهو قول أحمد ومالك في رواية، والشافعي في أحد قوليه، فإنها [ ص: 568 ] كانت مكاتبة وباعها الموالي واشترتها عائشة، وأمر - صلى الله عليه وسلم - ببيعها، وعليه بوب البخاري: بيع المكاتب إذا رضي المكاتب، وفيه قول ثالث: أنه يجوز للعتق دون الاستخدام.

ومن منع حمل الحديث على أن بريرة عجزت نفسها، وفسخوا الكتابة بعجزها وضعفها عن الأداء والكسب، ولا يحتاج في التعجيز إلى حكم حاكم، وإن خالف فيه سحنون معللا بخوف التواطؤ على حق الله تعالى.

عاشرها:

قوله: ("ابتاعيها فأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق") وفي أخرى: "واشترطي لهم الولاء"؛ نسبت هذه اللفظة إلى التفرد بها، وأولت بأن (اللام) بمعنى (على)، وأحسن منه أن هذا الشرط خاص بهذه القضية.

الحادي عشر:

فيه: ثبوت الولاء للمعتق، وألحق به ما في معنى العتق كما إذا باعه نفسه ونحوه.

الثاني عشر:

قوله: (ثم قام على المنبر) فيه: صعوده عند الحاجة إليه.

وقوله: ("ما بال أقوام") فيه استعمال الأدب وحسن المعاشرة، وجميل الموعظة؛ لأنه - عليه السلام - لم يواجه صاحب الشرط بعينه؛ لأن المقصود يحصل له ولغيره من غير شهرة.

[ ص: 569 ] الثالث عشر:

قوله: ("من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له") أي: ليس مشروعا في حكم الله، قال - عليه السلام: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

وقوله: ("وإن اشترط مائة مرة") المراد به: التكثير، وحديث عائشة هذا أوضحت الكلام عليه في "شرح العمدة"، وذكرت في آخره خمسين فائدة ملخصة، فراجعها منه.

وموضع الحاجة من الترجمة ومطابقة الحديث: أن المساجد إنما اتخذت للذكر والتلاوة والصلاة وما كان فيها من البيع والشراء وسائر أمور الدنيا، إنما هو للتعليم، والتنبيه على الاحتراز من مواقعة الحرام، ومخالفة السنن، والموعظة في ذلك.

وقد روي النهي عن البيع والشراء في المسجد، وهو قول مالك وجماعة من العلماء، وقد روي من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا رأيتم الرجل يبيع ويشتري في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم الرجل ينشد فيه الضالة فقولوا: لا رد الله عليك".

[ ص: 570 ] وذكر مالك عن عطاء بن يسار: أنه كان يقول لمن أراد أن يبيع في المسجد: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة.

قال الطحاوي: ومعنى البيع الذي نهي عنه في المسجد الذي يغلب عليه ويعمه حتى يكون كالسوق، وأما ما سوى ذلك فلا بأس به، وكذا التحلق الذي نهي عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه فهو مكروه، وغير ذلك لا بأس به.

وقد أجمع العلماء أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه، إلا أن المسجد ينبغي أن يجنب جميع أمور الدنيا، ولذلك بنى عمر بن الخطاب البطحاء خارج المسجد، وقال: من أراد أن يلغط فليخرج إليها. فوجب تنزيه المسجد عما لم يكن من أمور الله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية