التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4894 5190 - حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا هشام ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان الحبش يلعبون بحرابهم ، فسترني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنظر ، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو . [انظر : 454 - مسلم: 892 - فتح: 9 \ 255 ] .


حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وعلي بن حجر ، ثنا عيسى بن يونس ، ثنا هشام بن عروة ، عن عبد الله بن عروة ، عن أبيه عروة ، عن عائشة قالت : جلس إحدى عشرة امرأة ، فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا ،

قالت الأولى : زوجي لحم جمل ، غث على رأس جبل ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقل .

قالت الثانية : زوجي لا أبث خبره ، إني أخاف أن لا أذره ، إن أذكره أذكر عجره وبجره .

قالت الثالثة : زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق .

قالت الرابعة : زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ، ولا مخافة ، ولا سآمة .

قالت الخامسة : زوجي إن دخل فهد ، وإن خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد .

[ ص: 560 ] قالت السادسة : زوجي إن أكل لف ، وإن شرب اشتف ، وإن اضطجع التف ، ولا يولج الكف ليعلم البث .

قالت السابعة : زوجي غياياء -أو عياياء - طباقاء ، كل داء له داء ، شجك أو فلك أو جمع كلا لك .

قالت الثامنة : زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب .

قالت التاسعة : زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد .

قالت العاشرة : زوجي مالك وما مالك ؟ مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح ، وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك .

قالت الحادية عشرة : زوجي أبو زرع ، فما أبو زرع ؟ أناس من حلي أذني ، وملأ من شحم عضدي ، وبجحني فبجحت إلي نفسي ، وجدني في أهل غنيمة بشق ، فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق ، فعنده أقول فلا أقبح وأرقد فأتصبح ، وأشرب فأتقنح ، أم أبي زرع فما أم أبي زرع ؟ عكومها رداح ، وبيتها فساح ، ابن أبي زرع ، فما ابن أبي زرع ؟ مضجعه كمسل شطبة ، ويشبعه ذراع الجفرة ، بنت أبي زرع ، فما بنت أبي زرع ؟ طوع أبيها ، وطوع أمها ، وملء كسائها ، وغيظ جارتها ، جارية أبي زرع ، فما جارية أبي زرع ؟ لا تبث حديثنا تبثيثا ، ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ، ولا تملأ بيتنا تعشيشا ، خرج أبو زرع والأوطاب تمخض ، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين ، فطلقني ونكحها ، فنكحت بعده رجلا سريا ، ركب شريا وأخذ خطيا وأراح علي نعما ثريا ، وأعطاني من كل رائحة زوجا

[ ص: 561 ] وقال كلي أم زرع ، وميري أهلك . قالت : فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع . قالت عائشة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كنت لك كأبي زرع لأم زرع " .


هذا الحديث عظيم حفيل جم الفوائد ، أفرد بالتأليف ، أفرده أبو القاسم بن حبان ، والقاضي ، وابن قتيبة ، وقد أخرجه مسلم في "صحيحه " ، وكذا الترمذي في "شمائله " ، والنسائي في عشرة النساء ; عن علي بن حجر به .

ويختصر الكلام عليه في وجوه :

أحدها :

الحديث أخرجه النسائي من حديث عباد بن منصور ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، والمحفوظ حديث هشام ، عن أخيه ، كما أسلفناه .

قال عياض : اختلف في سند هذا الحديث ورفعه مع أنه [لا ] اختلاف في صحته ، وإن الأئمة قد قبلوه ولا مخرج له -فيما انتهى إلي - إلا من رواية عروة عن عائشة ، فروي من غير طريق [عن ]

[ ص: 562 ] عروة عنها من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كله هكذا ، رواه عباد بن منصور والدراوردي ، وعبد الله بن مصعب الزبيري ، ويونس بن أبي إسحاق ; كلهم عن هشام ، عن أبيه ، عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وكذا رواه أبو معشر عن هشام ، لكنه قال : عن هشام وغيره من أهل المدينة ، عن عروة ، عنها مرفوعا بطوله .

وكذا رفعه القاسم بن عبد الواحد ، إلا أنه قال : حدثني عمر بن عبد الله بن عروة ، عن عروة ، عنها ، مرفوعا ، كذا ذكره النسائي .

وقال الدارقطني : عمر ، عن أبيه ، عن عائشة ، جعلوه من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصا من غير احتمال ، وأسندوه بطوله .

وكذا ظاهر رواية حنبل بن إسحاق ، عن موسى بن إسماعيل ، عن سعيد بن سلمة عن هشام ، إلا أنه قال : عن هشام ، عن أخيه ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع " ثم أنشأ يحدث حديث أم زرع بطوله . وكذا قال أحمد بن داود الحراني ، عن عيسى بن يونس ، عن هشام ، عن أخيه عبد الله ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وكذا حكاه عنه القاسم بن سلام ، وكذلك رفعه الهيثم بن عدي عن هشام ، إلا أنه قال : عن أخيه يحيى بن عروة ، عن عروة ، وساقه كله من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصا .

[ ص: 563 ] رواه علي بن حجر ، وابن جناب ، وسليمان بن عبد الرحمن ، وغندر ، وهشام بن عمار ، ومحمد بن جعفر الوركاني ، وصالح بن مالك الخوارزمي ، عن عيسى بن يونس ، عن هشام ، عن عبد الله بن عروة ، عن عروة عنها من قولها .

وكذا أسنده سويد بن عبد العزيز ، عن هشام وحسن الحلواني ، عن ابن أبي الحسام ، عنه . وكذا رواه أبو عقبة ، عن أبيه عقبة بن خالد ، عن هشام ، إلا أنه قال : عن أبيه ، عن عائشة . وكذا قاله ابن أبي أويس ، ويوسف بن زياد ، وسليمان بن بلال ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام ، وأبو معاوية الضرير ، عنه مختصرا .

وكذا ساقه داود بن شابور ، عن عمر بن عبد الله بن عروة [عن عروة ] ، ويقال عن أبيه ، عن عائشة من قولها . وقال عقبة بن خالد أيضا : عن هشام ، حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة ، عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثله مختصرا ، يريد قوله : "كنت لك " إلى آخره ، وكذا قال أبو أويس وإبراهيم بن أبي يحيى ، عن ابن رومان ، عن عروة ، عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال النسائي إثر حديث عقبة : يريد قوله : "كنت لك " إلى آخره .

[ ص: 564 ] وقد وقع مفسرا عن غير النسائي ، قال أحمد بن حنبل : فذكر منه حرفا ، قال : "كنت لك " إلى آخره . وفي رواية ابن حبيب : قالت عائشة : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يقول لها إذا (عبر ) : "يا عائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع " . زاد في بعض الروايات : "إنه طلقها وإني لا أطلقك " . ذكرها أحمد بن خالد في "مسنده " .

وعند ابن الأنباري : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع في الألفة والوفاء لا في الفرقة والجلاء " . قال : وقال عروة : إنما يرد هذا الحديث بهذا الحرف ، فذكره .

قال القاضي : ولا خلاف في قوله : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع " . والخلاف في بقيته .

وقال الخطيب أبو بكر : المرفوع من "كنت " إلى آخره ، وما عداه فمن كلام عائشة - رضي الله عنها - حدثت به هي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بين ذلك عيسى بن يونس في روايته ، وأبو أويس ، وأبو معاوية ، وقد روي أن القائل في حديث سعيد بن سلمة : (ثم أنشأ يحدث الحديث ) هو هشام ، حكى أن أباه أنشأ يحدث الحديث ، فأوهم السامع من ذلك أن عائشة أخبرت به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقال الآجري ، عن أبي داود : لما حدث هشام بن عروة بحديث أم زرع هجره أبو الأسود ، يتيم عروة ، وقال : لم يحدث عروة بهذا ، إنما كان تحديثا بهذا يقطع السفر .

[ ص: 565 ] وفي كتاب العقيلي : قال أبو الأسود بن محمد عبد الرحمن : لم يكن أحد يرفع حديث أم زرع غير هشام . وقال الدارقطني : الصحيح عن عائشة أنها هي حدثت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقصة النسوة ، فقال لها حينئذ : "كنت لك " إلى آخره .

وقول عيسى بن يونس ، وسعيد بن سلمة ، وسويد بن عبد العزيز ، ومن تابعهم ; عن هشام ، عن أخيه عبد الله ، عن أبيه ، عنها ، وهو الصواب .

ولا يدفع قول عقبة : عن هشام ، عن (ابن ) رومان ، عن عروة ، عنها .

الوجه الثاني :

في الخبر الذي حكاه ابن الأنباري من رواية الهيثم بن عدي ، عن هشام أنها قالت : جلس إحدى عشرة امرأة في الجاهلية . والهيثم متكلم فيه . وفي الخبر الذي رواه الدراوردي أنهن من بطن من بطون اليمن ، وأنهن اجتمعن بقرية من قرى اليمن . وروي أيضا في هذا الحديث من رواية أحمد بن عبيد بن ناصح ، عن الهيثم بسنده ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وقد اجتمع نساؤه ليخصني بذلك - : "يا عائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع " . قلت : يا رسول الله ، ومن أبو زرع ؟ فقال : "اجتمع نسوة من قريش بمكة ، إحدى عشرة امرأة . . " وساق الحديث ، وهو مخالف للأول .

[ ص: 566 ] قال عياض : وقرأت في بعض كتب الأدباء أن امرأة زوجت إحدى عشرة ابنة لها في ليلة ودخل بهن أزواجهن ، فأمهلتهن سنة ثم زارتهن ، فسألت كل واحدة عن زوجها . فأخبرتها بصفة ، فوافق حديث أم زرع كلام صاحبة (المس مس أرنب ) بنصه ، وصاحبة (رفيع العماد ) ، وصاحبة (زوجي لحم جمل غث ) ، وخالف في البواقي .

ويشبه أنه موضوع ، فإن ألفاظه تنبئ عن ذلك ، ركب على حديث أم زرع ، ولا يصح أن يكون (هو ) هذا ; لصحة حديث أم زرع وضعف هذا ، وإنما ذكرنا في بعض روايات حديث أم زرع ما دل أنهن غير أخوات .

الوجه الثالث : في بيان أسمائهن :

قال الخطيب : لا أعلم أحدا سمى النسوة في حديث إلا من الطريق الذي أذكره ، وهو غريب جدا ، ثم ساقه من حديث الزبير بن بكار ، حدثني محمد بن الضحاك الحزامي ، عن الدراوردي ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي بعض نسائه فقال : "أنا لك كأبي زرع " قلت : يا رسول الله ، وما حديث أبي زرع ؟ فقال : "إن قرية من قرى اليمن كان بها بطن من بطون اليمن ، وكان منهن إحدى عشرة امرأة ، وإنهن خرجن إلى مجلس من مجالسهن " . فذكر الحديث .

وسمى الثانية عمرة (بنت عمرو ) ، وسمى الثالثة حيى بنت كعب ،

[ ص: 567 ] والرابعة مهرة بنت أبي هزومة ، أو مرومة ، والخامسة كبشة ، والسادسة هند ، والسابعة حبى بنت علقمة ، والثامنة بنت أوس بن عبد ، والعاشرة كبشة بنت الأرقم ، وأم زرع بنت أكيمل بن ساعدة .

قلت : وكما ساقه أبو القاسم عبد الحكيم بن حبان في كلامه على هذا الحديث من هذا الوجه ، ساقه من طريق الأسود بن خير المعافري ، قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة وفاطمة ، وقد جرى بينهما كلام فقال : "ما أنت بمنتهية يا حميراء -أو يا شقيراء - عن ابنتي ، إن مثلي ومثلك كمثل أبي زرع وأم زرع " فقالت : يا رسول الله ، حدثنا عنهما ، فقال : "كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة ، وكان الرجال خلوفا -يعني غيبا - فقلن : تعالين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب " . فذكر نحو حديث أبي بشر ، وسماها ابن دريد في "وشاحه " : عاتكة .

الوجه الرابع :

قولها : (جلس ) . كذا في الأصول ، ووقع في مسلم بنون ، وهنا : امرأة ، وفي أخرى : نسوة .

وللنسائي : اجتمعن .

[ ص: 568 ] ولأبي عبيد : اجتمعت . بالتاء .

قال ابن التين : وقوله : (جلس إحدى عشرة امرأة ) ، أي : جمع مثل : وقال نسوة في المدينة . قال عياض : والأحسن في الكلام حذف علامة التأنيث ونون الجماعة . وباب العدد في العربية أن ما بين الثلاثة إلى العشرة مضاف إلى جنسه ، ومن أحد عشر إلى تسعة وتسعين مميز بواحد يدل على جنسه . وما بعد هذا مضاف إلى واحد من جنسه ، وقد جاء هنا : النسوة ، وهو جنس بعد إحدى عشرة ، وهو خارج عن وجه الكلام ، ولا يصح نصبه على التفسير ; إذ لا تفسير في العدد إلا بواحد . ولا يصلح إضافة العدد الذي قبله إليه ، ووجه نصبه عندي على إضمار : أعني ، أو يكون مرفوعا بدلا من (إحدى عشرة ) ، وهو الأظهر ، وعلى هذا أعربوا قوله تعالى : وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما [الأعراف : 160 ] الأسباط بدل من اثنتي عشرة ، وليس بتفسير فيما قاله الفارسي وغيره .

وقولها : (جلس إحدى عشرة ) . قال النحويون : يجوز : جلست ، كما تقول في واحد : جلست امرأة . ولو قلت : قام الرجال جاز . ويجوز : قامت ، بتقدير : قامت جماعة الرجال ، قال تعالى : قالت الأعراب آمنا [الحجرات : 14 ] .

الوجه الخامس :

فيه : جواز نقل الأخبار عن حسن المعاشرة ، وضرب الأمثال بها ،

[ ص: 569 ] والتأسي بأهل الإحسان من كل أمة ، ألا ترى أن أم زرع أخبرت عن أبي زرع بجميل عشرته فتمثله الشارع .

وفيه : جواز تذكير الرجل امرأته بإحسانه إليها ; لأنه لما جاز من النساء كفران العشير جاز تذكيرهن بالإحسان .

الوجه السادس :

قول المرأة الأولى : (زوجي لحم جمل ، غث ) . أي : مهزول ، يقال : غث يغث ، والغث : الفاسد من الطعام ، والأصل هنا : الهزيل ; لقولها بعد : (لا سمين فينتقل ) . قال أبو سعيد النيسابوري : ليس شيء من الغثاث من الأزواج الثمانية هو أخبث غثاثة من الجمل ; (لأنه ) يجمع خبث طعم وخبث ريح ، حتى ضرب به المثل .

وقولها : (على رأس جبل ) قال أبو عبيد : تصف قلة خيره وبعده مع القلة ، كالشيء في (قبة ) الجبل الصعب لا ينال إلا بالمشقة ; لقولها : (لا سهل فيرتقى ) يعني : الجبل (ولا سمين فينتقى ) يعني : يستخرج نقيه ، بكسر النون وسكون القاف ، وهو : المخ . ومن روى : (فينتقل ) ، يريد : ليس سمين فينقله الناس إلى بيوتهم فيأكلونه ، بل يتركونه رغبة عنه كرواية . وصفت زوجها بالبخل ، وقلة الخير ،

[ ص: 570 ] وبعده من أن ينال خيره مع قلته -كما أسلفناه - كاللحم الهزيل المنتن الذي يزهد فيه فلا يطلب ، فكيف إذا كان على رأس جبل صعب وعر لا ينال إلا بمشقة . وذهب الخطابي إلى أن تمثيلها بالجبل الوعر إشارة إلى سوء خلقه والذهاب بنفسه وترفيعها تيها وكبرا . تريد : مع أنه مع قلة خيره يتكبر على عشيرته ، فيجمع إلى البخل سوء الخلق ، وهو تشبيه الجلي بالخفي ، والتوهم بالمحسوس ، والحقير بالخطير .

قال عياض : ويجوز في (غث ) الرفع وصفا لـ (لحم ) ، والكسر وصفا للجمل ، وقد روي بالوجهين ، ومنهم من رواه : (لحم غث ) . بالرفع على ما تقدم ، وبالكسر على الإضافة بتقدير حذف (جمل ) وإقامة وصفه مقامه .

وقوله : (لا سهل فيرتقى ) . يجوز فيه ثلاثة أوجه ، كلها مروية : نصب (لا سهل ) دون تنوين ، ورفعها ، وخفضها منونة . وأعربها عندي الرفع في الكلمتين .

واستدل بعض العلماء من هذا أن ذكر السوء والعيب إذا ذكره أحد فيمن لا يعرف بعينه واسمه أنه ليس بغيبة ، وإنما الغيبة أن يقصد معينا بما يكره ; لأنه - عليه السلام - قد حكى عن بعض هؤلاء النسوة ما ذكرنه من عيب أزواجهن ، ولا يحكي عن نفسه أو غيره إلا ما يجوز ويباح ، ذكره الخطابي .

[ ص: 571 ] قال عياض : ورأيت أبا عبد الله محمد بن علي التميمي لا يرتضي هذا القول ، وقال : إنما كان يكون هذا حجة أن لو سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة تغتاب زوجها ولا تسميه فأقرها عليه ، وأما هذه الحكاية عن نساء مجهولات غير حاضرات ، فينكر عليهن ، فليس بحجة في جواز ذلك وحالهن كحال من قال : في العالم من يسرق ويزني . فلا يكون غيبة ، ولكن المسألة لو نزلت لوصف امرأة زوجها بما هو غيبة وهو معروف عند السامع ، فإن ذلك ممنوع ، ولو كان مجهولا لكان لا حرج فيه على رأي بعضهم ، وللنظر فيه مجال .

فصل :

في بعض الروايات : (جبل وعر ) . أي : غليظ حزن يصعب الصعود إليه ، وروي : (على رأس قوز وعر ) . قال أبو بكر : القوز : العالي من الرمل (كأنه جبل ) ، فالصعود فيه شاق .

ويجوز في قوله : (ولا سمين ) . الرفع صفة لـ (لحم ) ، والخفض : نعت للجبل ، ذكره ابن التين . وقيل : ليس مما يرغب فيه فينقله الناس إلى بيوتهم .

الوجه السابع :

قول الثانية : (لا أبث ) . أي : لا أنشر ولا أذكر ، ورواه بعضهم : (أنث ) بالنون رفعها ، هما واحد إلا أن النون أكثر ما يستعمل في الشر . ومعنى (أذره ) أدعه . و (العجر ) تعقد العروق والعصب في الجسد حتى تراها ناتئة من الجسد .

[ ص: 572 ] و (البجر ) كذلك إلا إنها مختصة بالبطن ، فيما ذكره الأصمعي ، واحدها بجرة ، ومنه قيل : رجل أبجر ، إذا كان عظيم البطن ، وامرأة بجراء . يقال : فلان بجرة ، إذا كان ناتئ السرة عظيمها . وقال الأخفش : العجر : العقد في سائر البدن ، والبجر يكون في القلب .

وقال أبو سعيد النيسابوري : لم يأت أبو عبيد بالمعنى في هذا ، وإنما عنت أن زوجها كثير العيوب في أخلاقه ، منعقد النفس عن المكارم .

وقال ابن فارس : البجرة : خروج السرة ، والرجل (أبجر ) . وفي "المبدأ " : (وصبت ) إليه بعجري وبجري ; أي : بأمري كله .

وقال الداودي : العجر والبجر : عروق البطن والذراعين ، وبالجملة فإنها أرادت أن تكني عن جميع عيوبه من غير تفسير .

وقال ابن الأعرابي : العجر : نفخة في الظهر ، فإذا كانت في السرة فهي بجرة ، ثم ينقلان إلى الهموم والأحزان .

قال الأصمعي : يستعمل ذلك في المعايب . أي : أذكر عيوبه . وقال يعقوب : أسراره . وعبارة غيره : عيوبه الباطنة ، وأسراره الكامنة .

قال ثعلب في العجر والبجر : ومنه قول علي في الجمل لما رأى طلحة بن عبيد الله قتيلا : أعزز علي أبا محمد أن أراك معفرا (تحت ) نجوم

[ ص: 573 ] السماء وفي بطون الأودية شقيت نفسي وقتلت معشري ، إلى الله أشكو عجري وبجري . أي : همومي وأحزاني ، وقيل : العجر ظاهر ، والبجر باطنها .

قال الشاعر :


لم يبق عندي ما يباع بدرهم . . . يكفيك عجر حالتي عن بجري

    إلا بقايا ماء وجه صنته
. . . لأبيعه فعسى تكون المشتري



والهاء في (أذره ) عائدة على الخبر أي : لطوله وكثرته إن بدأته [لم أقدر ] على إتمامه ، ويعضده رواية : ولا أقدر قدره .

وفيه : تأويل آخر ذكره أحمد بن عبيد بن ناصح : أن الهاء عائدة على الزوج ، وكأنها خشيت فراقه إن ذكرته . وقاله الداودي أيضا .

وعلى هذا تكون (لا ) زائدة ، كما في قوله تعالى : ما منعك ألا تسجد [الأعراف : 12 ] ، ويحتمل عدم زيادتها -كما ذكره القرطبي - وأنها خافت أن لا تتركه معها ممسكا لها في صحبتها ، ويحتمل -كما قال عياض - رجوع الهاء إلى الزوج تأولا آخر ، أي : إن أخبرت بشيء من عيوبه ونقائصه أفضى ذلك إلى ذكر شيء أقبح منه ، وقد عاهدت صواحبها أن لا تكتم شيئا من صفاته عنهن ، فكرهت ما تعاقدت عليه معهن ، وذهبت إلى ستر عيوبه لكثرتها ، ولم تر أن

[ ص: 574 ] تذكر بعضا دون بعض ، فإنها إن ذكرت شيئا تسبب به إلى ذكر شيء آخر ، فرأت الإمساك أولى ، يدل على هذا ما وقع في بعض طرقه : أخاف أن لا أذره من سوء . قال عياض : أرى -والله أعلم - أن زوج هذه كان مستور الظاهر رديء الباطن ، فلم ترد هتك ستره ، وأنها إن تكلمت بما عاقدت عليه صواحبها كشفت من قبائحه ما استتر ، بل لوحت وما صرحت ، وجملت وما شرحت ، واكتفت بالإيماء والإجمال في الخبر عنه ، ولم تهتك الحجاب عن عوراته ما عرفت منه .

الوجه الثامن : قول الثالثة : (العشنق ) -بفتح العين المهملة ، ثم شين معجمة ، ثم نون مشددة ، ثم قاف - وهو الطويل ، قاله الأصمعي وأبو عبيد . وعبارة الجوهري عن الأصمعي أنه الطويل الذي ليس بمقل ولا ضخم ، من قول عشانقة ، والمرأة عشنقة ، تقول : ليس عندي شيء أكثر من طوله بلا نفع فله منظر بلا مخبر ، والطول في الغالب دليل السفه ، وقد علل ذلك ببعد الدماغ من القلب ، فإن ذكرت ما فيه من العيوب طلقني ، وإن سكت تركني معلقة لا أيما ولا ذات بعل . ومنه قوله تعالى : فتذروها كالمعلقة [النساء : 129 ] . وخطأهم في ذلك عبد الملك بن حبيب وقال : العشنق : المقدام على ما يريد الشرس في أموره ، بدليل وصفها له . وقال أبو سعيد النيسابوري : الصحيح غير ما ذكره أبو عبيد أنه من الرجال الطويل النجيب ، الذي ليس أمره إلى امرأته وأمرها إليه ، فهو يحكم فيها بما يشاء وهي

[ ص: 575 ] (تخافه ) . وقال صاحب "العين " : إنه الطويل العنق . وقال ابن قتيبة : وقيل : إنه القصير . قال ابن الأنباري : فكأنه جعله من الأضداد . ولا (أعرفه ) عند أهل اللغة .

قلت : فوصفها له على رأي أبي عبيد - (مدح ) ; لأن العرب تمدح الرجال والسادة بطول القامة ، ويحتمل أن تريد علاقة بالحب ; فلذلك كانت تكره النطق خوف المفارقة . وعند غيره أنها ذامة له تخبر أن له منظرا بلا مخبر .

فائدة :

العشنط بمعنى العشنق .

الوجه التاسع :

قول الرابعة : (تهامة ) . من بلاد الحجاز .

وقال ابن بطال : إنها اسم مكة ، وحرها شديد نهارا ، وليلها معتدل ، فتذهب الشدة وتعتدل .

وخصته بهذا ورضيته بحسن صحبتها ، وجميل عشرتها ، واعتدال حاله ، وسلامة باطنه ، وثقتها به ، وذلك أن الحر والقر -بضم القاف ، وهو البرد - كلاهما فيه أذى إذا اشتد ، وهذا لا غائلة عنده ، ولا شر فأخافه ، ولا يسأمني ، ولا يستثقل بي فيمل صحبتي .

[ ص: 576 ] زاد في في رواية : (والغيث غيث غمامة ) . أي : جوده ينهل ، فيحيي به الأنام كغيث الغمام .

الوجه العاشر :

قول الخامسة : (فهد ) -بفتح الفاء وكسر الهاء . وقد تسكن - تصفه إذا دخل البيت بكثرة النوم ، والغفلة في منزله على وجه المدح له ; لأن الفهد كثير النوم ، يقال : أنوم من فهد . وأسد -بفتح الهمزة وكسر السين - وصف له بالشجاعة ، ومعناه : إذا صار بين الناس أو خالط الحرب كان كالأسد ، يقال : أسد واستأسد بمعنى ، وصفته بالصفة الغالبة على هذين الحيوانين من السلاطة والسكون في حال الخلوة ، والعرب تمتدح بذلك قال :


أسد ضار إذا هيجته . . .     وأب بر إذا ما قدرا


يعلم الأقصى إذا استغنى . . .     ولا يعلم الأدنى إذا ما افتقرا



ومن هذا المعنى قوله :


فتى كان يدنيه الغنى من صديقه . . .     إذا هو ما استغنى ويبعد بالفقر



وكان علي إذا سمعه يقول : ذاك طلحة بن عبيد الله .

وقولها : (ولا يسأل عما عهد ) أي : لا يتفقد ما ذهب من ماله ، ولا يلتفت إلى معايب البيت وما فيه ، كأنه ساه عن ذلك ، يوضحه قولها : (ولا يسأل عما عهد ) يعني : عما كان عندي قبل ذلك .

[ ص: 577 ] قال عياض : قولها هذا يقتضي تفسيرين لعهد : عهد قبل ، فهو يرجع إلى تفقد المال ، وعهد الآن فهو بمعنى الإغضاء عن المعايب والاحتمال . وقال ابن أبي أويس : تقول إن دخل وثب علي وثوب الفهد ، وإن خرج كان كالأسد جرأة وإقداما . بقولها هذا يحتمل أن تريد به البطش بها والضرب لها ، أو تريد به المبادرة إلى جماعها ، وكثرة الحظ من استمتاعها دون ملاعبتها ، وتقديم الإيناس . قال ابن حبيب : وصفته بأنه في اللين والدعة والغفلة كالفهد ، ولم ترد النوم .

قال عياض : وقد ظهر لي فيه وجه آخر مع صحة ما ذكروه ، وذلك أنه يتوقف قولها : (فهد ) على الاشتقاق من خلق الفهد ، والمثل المضروب به في النوم . وفي الفهد أيضا مثل آخر ذكره أصحاب الأمثال ، كما ذكروا الأول ، وهو قولهم : أكسب من فهد . قال أبو عبد الله حمزة الأصبهاني في "شرح الأمثال " : وذلك أن الفهود الهرمة التي تعجز عن الصيد تجتمع على فهد فتي ، فيصيد عليها كل يوم شبعها ، فلا يمنع أن يكون قولها : (إذا دخل فهد ) . أي : إذا جاء المنزل جاء بالكسب والخير والفوائد كما يفعل الفهد في كسبه ، ولا فرق بين هذا وبين الأول ، إذ كل واحد منهما إنما اشتق من خلق الفهد . وكانت العرب تتمادح بالكسب والاستفادة . قال عياض : هذا التأويل عندي لا يبعد ، وإن كان الأول أظهر وأليق بالكلام ، لمطابقة لفظه ومعناه .

الوجه الحادي عشر :

قول السادسة اللف في المطعم : الإكثار منه مع التخليط من صنوف استقصائه حتى لا يبقي منه شيئا ، فمعنى (لف ) : قمش صنوف الطعام

[ ص: 578 ] وخلط ، يقال : لف الكتيبة بالكتيبة إذا خلطها . والاشتفاف في الشرب أن يستقصي ما في الإناء من الشراب ولا يسئر فيه سؤرا ، وإنما أخذ من الشفافة وهي البقية التي تبقى في الإناء من الشراب ، فإذا شربها صاحبها قيل اشتفها . وروي : استف -بالسين المهملة - وهو قريب من معناه .

وقولها : (وإن اضطجع التف ) . تعني : رقد ناحية ولم يباشرها ، وقيل : رقد وهجع ، وهما بمعنى واحد ، وقيل : إذا نام التف في ثيابه . وهذا يقتضي المدح والذم ، فالمدح بمعنى أنه ينام في ثيابه مستوفزا لصارخ يصرخ ، أو داع يدعو ، والثاني : أنه يأتي وهو تعبان ، فيكسل عن نزع ثيابه ، فينام فيها ، أو يكون نومه في ثيابه أدعى لكثرة النوم ، وذلك منه مذموم ، قالت امرأة في زوجها : يشبع ليله لطاف ، وينام ليله يخاف .

وقولها : (ولا يولج الكف ) . أي : لا يدخل يده ، و (البث ) : الحزن (فأحسبه ) كان بجسدها عيبا وداء تكتئب له ، فكان لا يدخل يده في بدنها ليمس ذلك العيب فيشق عليها ، تصف بالكرم ، (قاله ) أبو عبيد .

وأنكر عليه ، إنما عليه شكت قلة تعهده إياها تقول : يلتف منتبذا عنها إذا نام لا يقرب منها ، فيولج داخل ثوبها ، فيكون منه إليها ما يكون من الرجل إلى أهله .

[ ص: 579 ] ومعنى (البث ) : ما تظهر المرأة من الحزن على عدم الخلوة منه ، كأنها ذمته بالنهم والشره وقلة الشفقة ، وإن (أرادها ) لم يدخل يده في ثوبها ليجسها متعرفا ; لما بها على عادة الناس الأباعد فضلا عن الأزواج ، ولا معنى لما توهمه أبو عبيد من أن الداء بجسدها فيتأول بذلك ترك التفقد منه لذلك على الكرم ، وذلك أن أول الكلام ذم ، واستلام له ، ومهانته ، وسوء المعاشرة والمرافقة ، فكيف يكون آخره مدحا ووصفا بالكرم ؟ والعرب تذم الرجل بكثرة الأكل والشرب ، وتمدح بقلتها ، ثم إنها وصفته بعد بقلة الاشتغال بها ، والتعطيل لها ، وعدم مضاجعتها وإدنائها من نفسه ، وأنه لا همة له في المباضعة التي هي من ممادح الرجال ، فإن العرب كانت تتمادح بالقوة على الجماع ; لأنه دليل على صحة الذكورة ، وتذم بضده ، وممن رده عليه القتيبي والخطابي وابن حبيب وابن الأعرابي ، وقال ابن الأنباري :

لا حجة على أبي عبيد في هذا ; لأن النسوة كن تعاهدن على أن لا يكتمن (شيئا ) من أخبار أزواجهن ، فمنهن من وصفه بالخير في جميع أموره ، ومنهن بضد ذلك ، ومنهن من وصفت ما فيه من الخير وما فيه من الشر .

قال عياض : ويؤيد ما ذهبوا إليه ما أشار إليه عروة بن الزبير بقوله : هؤلاء خمسة يشكون . وقالت امرأة عبد الله بن عمرو لعمرو بن العاصي وسألها : كيف وجدت زوجك ؟ فقالت : من خير الرجال لم يفتش لنا

[ ص: 580 ] كنفا . ومنه قول عائشة - رضي الله عنها - تصف رجلا بالعفة : ما كشف من كنف أنثى قط . أي : أنه لم يكن يشتغل بالنساء ولا له فيهن مذهب ، فعبرت عن ذلك بكشف الكنف ، وهو الثوب الذي يكنفها أي : يسترها ، ومنه قولهم : في كنف الله وحفظه ، أي : ستره .

وقيل : معنى (لا يولج الكف ) أي : لا يتفقد أموري وما يهمني من مصالحي ، وهو كقولهم : ما أدخل فلان يده في الأمر ، أي : لم يشتغل به ولم يتفقد ، قاله أحمد بن عبيد بن ناصح ونحوه عن ابن أبي أويس .

الوجه الثاني عشر :

قول السابعة : (عياياء أو غياياء ) ، شك من الراوي ، هل قاله بالمعجمة أو المهملة ، والأكثر بغير شك ، والشاك عيسى بن يونس ، وعقبة بن خالد ، وسائر الرواة يقولونه بالمهملة ، وأما المعجمة فليس بشيء ، قال ابن قتيبة : هو تصحيف ، والعياياء من العي ، وهو من الإبل الذي لا يضرب النوق ولا يلقح ، وكذلك هو في الرجال كأنه عيي عن ذلك .

والطباقاء -بالمد - من العي ، الأحمق الفدم . وعبارة بعضهم : إنه المفحم الذي انطبق عليه الكلام ، أي : انغلق ، وصفته بعجز الطرفين ، وعند ابن حبان : الذي فيه رعانة وحمق ، كالمطبق عليه في حمقه

[ ص: 581 ] ورعونته . وقال ابن أبي أويس : (عياياء طباقاء ) أي : عيي مطبق عيا لا يتصرف ولا يتوجه لوجه .

وقيل : الطباقاء من الرجال : الثقيل الصدر ، الذي (يطبق ) صدره على صدر المرأة عند المباضعة . قالت امرأة امرئ القيس تذمه : ثقيل الصدر ، خفيف العجز ، سريع (الإراقة ) بطيء الإفاقة .

قال الجاحظ : وهو عكس الخصي ، فإنه بطيء الإراقة سريع الإفاقة .

وقال يعقوب : العياياء : الذي لا يهتدي لوجه .

وقال الداودي : غياياء من الغي ، وعياياء من العجز والجهل والظلمة .

وقال ابن التين : وأنكر أبو عبيد المعجمة .

قلت : ووقع في كتاب ابن بطال عنه : (عياياء ) بالعين ليس بشيء إنما هو بالغين المعجمة ، كذا رأيته في أصله ، ومعجمة في الحاشية تصحيح عليها .

لكن سيأتي عن القاضي ما يرده .

[ ص: 582 ] وقال ابن فارس: العي خلاف البيان ، يقال : رجل عيي وعياياء ، وفحل عياياء إذا لم يهتد للضراب ، قال : والطباقاء من الرجال : العيي ، ومن الإبل : الذي لا يحسن الضراب ، جعله مثل عياياء ، فكأنه كرره لما اختلف اللفظ مثل بعدا وسحقا ، وعبس وبسر .

وقال القاضي عياض : قول أبي عبيد أن الغياياء -بالمعجمة - ليس بشيء ولم يفسره ، وتابعه على ذلك سائر الشراح ، فقد ظهر لي فيه معنى صحيح -إن شاء الله - في اللغة ، بين في التأويل ، وهو أن يكون مأخوذا من الغياية ، وهي كل ما أظل الإنسان فوق رأسه من سحاب وغيره ، ومنه سميت الراية غياية ، فكأنه غطى عليه من جهله ، وسترت مصالحه ، وقد يمكن أن يكون أيضا من الغي ، وهو الانهماك في الشر ، أو من الغي وهي الخيبة . قال تعالى : فسوف يلقون غيا لأنه خائب من كل فضيلة .

وقولها : (كل داء له داء ) ، أي : كل داء من أدواء الناس فهو فيه ، ومن أدوائه ، فقد اجتمعت فيه المعايب ، فيحتمل أن يكون (داء ) خبرا لـ (كل ) ، يعني : من كل داء في الناس فهو فيه ، وأن يكون [له ] صفة لـ (داء ) و (داء ) خبر لـ (كل ) ، أي : كل داء فيه بليغ منتهاه ، كما تقول : إن زيدا رجل ، وإن هذا الفرس فرس .

وقولها : (شجك ) ، أي : أصاب شجك .

[ ص: 583 ] وقولها : (أو فلك أو جمع كلا لك ) . وجاء : (أو بجك ) والبج : الجرح في الرأس خاصة و (الفل ) في جميع (الجسد ) ، وقيل : هو الطعن ، وقال ابن الأنباري : (فلك ) : كسرك ، ويقال : ذهب بمالك ، يقال : فل القوم فانفلوا ، ويقال : كسرك بخصومته ، ويجوز أن يريد بالفل الإبعاد والطرد .

وقولها : (أو جمع كلا لك ) ، أي : جمع الضرب والخصومة .

والشج : الجرح من الطعنة ; وصفته بالحمق والتناهي في جميع النقائص والعيوب ، وسوء العشرة مع الأهل ، وعجزه عن حاجتها مع ضربها وأذاه لها ، فإذا حدثته سبها ، وإذا مازحته قبحها ، وإذا غضب إما أن يشجها في رأسها أو يكسر عضوا من أعضائها ، وهو معنى (فلك) ، أو طعنها وهو معنى (بجك ) . قال ابن دريد : (بج ) القرحة إذا شقها وكل شق بج ، وجمع ذلك كله لها من الضرب ، والجرح ، وكسر الأعضاء ، والكسر بالخصومة ، وموجع الكلام ، وأخذ مالها .

الوجه الثالث عشر :

قول الثامنة ; وصفته بحسن الخلق ولين الحديث كمس ظهر الأرنب ولينه . و (الزرنب ) : نبت من الطيب ، واحدها زرنبة ، قاله ابن حبان في "شرحه " . يحتمل أن تكون أرادت طيب (ريح ) جسده أو طيب الثناء في الناس وانتشاره فيهم كريح الزرنب . قيل : يشبه ورق الطرفاء ،

[ ص: 584 ] ويسمى رجل الجراد لشبهها بها ، وقيل : إنه الزعفران ، وقيل : إنه المسك ، وأنشد لسلمى أم الخير أم الصديق إذ كانت تنقزه :


عتيق وما عتيق . . .     ذو المنظر الأنيق


رشفت منه ريق . . .     كالزرنب العتيق



لأن غير المسك يقال فيه العتيق ، إنما هو من صفات المسك ، وقيل : إنه صنف من الآس ، وزعم ابن البيطار أنه أضرب عن كلام صاحب "الفلاحة " وإسحاق بن عمران . -يعني ما ذكره عياض من أنها شجرة عظيمة - قال : لأنه ليس بمعروف في زماننا هذا ولا من قبله أيضا . وجاء في رواية أبي عبيد : (وأغلبه والناس يغلب ) ، وصفته بالشجاعة . قال معاوية ووصف النساء يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام . وقال الأعشى الحرمازي :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهن شر غالب لمن غلب

.

الوجه الرابع عشر :

قول التاسعة إلى أن قالت : (من الناد ) . هو بحذف الياء ، وهو

المشهور في الرواية ليتم السجع ، وإن كان الفصيح في العربية إتيانها ،

وصفته بالشرف وسناء الذكر نسبا وسؤددا في قومه ، فهو رفيع فيهم ،

وأصل العماد : عماد البيت ، وجمعها عمد ، وهي العيدان التي تعمد

[ ص: 585 ] بها البيوت . وإنما هذا مثل تعني : أن بيته [رفيع ] (في ) حسبه ، رفيع في قومه .

فبيته عال بحشمته وسعادته لا كبيت غيره من الفقراء ، تقصد ارتفاعه ; ليراه أرباب الحوائج والأضياف فيأتونه ، وهذه صفة بيوت الأجواد .

وتريد بالنجاد -بكسر النون - حمائل السيف ، فكأنها وصفته بطول القامة ، فإن كان طويلا كانت حمائل سيفه طوالا ، فوصفته بالطول والجود ، وهو مما يمدح به الشعراء قال مروان في الرشيد :


قصرت حمائله عليه فقلصت . . .     ولقد تأنق قينها فأطالها



وقال الأعشى في هوذة بن علي :


رفيع العماد طويل النجاد . . .     يحمي المضاف ويعطي الفقير



وقولها : (عظيم الرماد ) وصفته بالجود وكثرة الضيافة من لحم الإبل وغيرها ، فإذا فعل ذلك عظمت ناره وكثر وقودها ، فيكون الرماد كثيرا ، وقيل : لأن ناره لا تطفأ ليلا ; ليهتدي بها الضيفان ، ومن عادة الكرام يعظمون النيران في الظلمة ويوقدونها على التلال ; ليهتدى بها . قالت الخنساء في أخيها :


وإن صخرا لتأتم الهداة [به ] . . .      (كأنه ) علم في رأسه نار



[ ص: 586 ] وقال غيرها :


متى تأته تعشو إلى ضوء ناره . . .     تجد خير نار عندها خير موقد



وقولها : (قريب البيت من الناد ) ، تريد (أنه ينزل ) بين ظهراني الناس ليعلموا مكانه ، فينزلوا عليه ولا يبعد عنهم ولا يتوارى منهم ، بخلاف اللئام .

والناد : المجتمع للمشاورة يبدو القوم حواليه ، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله فكنت عن ارتفاع بيته في الحسب برفيع العماد . وعن طول قامته بطول النجاد ، وعن كثرة القرى بعظيم الرماد ، وعلم مكانه بقريب الناد .

الوجه الخامس عشر :

قول العاشرة تريد تعظيمه ، و (ما ) استفهامية ، وفيها معنى التعظيم والتهويل وحقيقته : فما مالك وما هو ؟ أي : أي شيء هو ، ما أعظمه وأكبره وأكرمه ، ومثله قوله : الحاقة ما الحاقة [الحاقة : 1 - 2 ] . و القارعة ما القارعة [القارعة : 1 - 2 ] . أي : أي شيء هي ، ما أعظم أمرها .

وقولها : (مالك خير من ذلك ) . زيادة في التعظيم ، وتفسير لبعض الإبهام ، وأنه خير مما أشير إليه من ثناء وطيب ذكر ، أو فوق ما أعتقده فيه من سؤدد وفخر .

[ ص: 587 ] وقولها : (له إبل قليلات المسارح (كثيرات ) المبارك ) . يعني : لا يوجههن ليسرحن نهارا إلا قليلا ، ولكنهن يتركن بفنائه باركات ، فإن نزل به ضيف لم تكن الإبل غائبة عنه ولكنها بحضرته فيقريه من ألبانها ولحومها . ويروى : عظيمات المبارك ، وهو كناية عن سمنها وعظم جرمها . وعند ابن قتيبة : إذا تركت إبله كانت كثيرة ; لكثرة من ينضم إليها ممن يلتمس لحمها ولبنها ، وإذا سرحت كانت قليلة ، لقلة من ينضم إليها من الأضياف والعفاة ، وقيل : إنها إذا بركت كانت كثيرة ; لوفور عددها ، وإذا سرحت كانت قليلة ; لكثرة ما نحر منها للأضياف . وفي رواية الهيثم عن هشام في آخر ذلك : وهو أمام القوم في المهالك .

وقولها : (إذا سمعن صوت المزهر ) تريد : العود الذي يضرب به ، معناه : أنه مما كثرت عادته للضيفان وإطعامهم وشربهم ، وضرب المعازف عليهم ، ونحر الإبل ; فلذلك صارت الإبل إذا سمعت ذلك أيقن أنهن منحورات .

وقال أبو سعيد النيسابوري : إن كن لا يسرحن إلا قليلا من النهار ، ثم تحبس في المبارك سائر النهار فهي هالكة هزالا ، وإن كن يسرحن بالليل فقد (ضاع ) أضياف الليل . والتفسير : أن مسارحها قليلة ; لقلة الإبل ، وكثرة مباركها بالفناء ; لكثرة ما تثار فتحلب ثم تترك ،

[ ص: 588 ] فالقليلة إذا فعل بها هذا كثرت مباركها . وقوله : المزهر : العود ; نحن ننكره ; لأن العرب كانوا لا يعرفون العود إلا من خالط الحضر منهم ، والعود إنما أحدث بمكة والمدينة ، والذي نذهب إليه أنه المزهر ، وهو الذي يزهر النار للأضياف والطريق ، فإذا سمعت صوت ذلك وحسه ومعمعة النار ، أيقنت بالعقر .

وقال عياض : لا نعرف أحدا رواه (المزهر ) كما قال النيسابوري ، وإن كان يصح ; لأن زهور السراج والنار تلألأ سناها ، والذي رواه الناس كلهم (المزهر ) ، وهو الصواب .

قال : وقوله إن العرب لا تعرف العود إلا من خالط منهم الحضر ، فمن أخبره أن المذكورات لم يخالطن الحضر ; لأنا ذكرنا في بعض طرق هذا الحديث أنهن كن بقرية من قرى اليمن ، والقرى مرتقى الحاضرة ، وفي طريق : أنهن من مكة . مع أن العرب جاهليتها وإسلامها فيها بدويها وحضريها قد ذكرت في أشعارها المزاهر وأشباهها .

وقال الدوادي : هو الذي يضرب به ، وكان للأضياف .

الوجه السادس عشر :

قول الحادية عشرة : (زوجي أبو زرع فما أبو زرع ) . هو كقول العاشرة : (مالك وما مالك ) .

وقولها : (وأناس من حلي أذني ) هو بتشديد الياء من أذني على التثنية .

[ ص: 589 ] والنوس : الحركة من كل شيء متدل ، يقال : ناس ينوس نوسا وأناسه غيره إناسة ، وقال [ابن ] الكلبي : إنما سمي ملك اليمن ذو نواس ; لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه ، تريد : حلاني قرطه وشنوفا ينوس بأذني .

وقولها : (ملأ من شحم عضدي ) لم ترد العضد خاصة ، إنما أرادت الجسد كله ، تقول : إنما أسمنني بإحسانه إلي ، فإذا سمنت العضد سمن الجسد . وقيل : قصدت بذكرها سجع الكلام .

وقولها : (وبجحني فبجحت إلي نفسي ) أي : فرحني ففرحت ، وقد بجح الرجل يبجح إذا فرح ، وقال ابن الأنباري : معناه : عظمني . وقال ابن أبي أويس : وسع علي وترفني .

وقولها : (فوجدني في أهل غنيمة بشق ) ، تريد : تصغير غنم .

و (بشق ) أهل الحديث يقولون بالكسر ، قال أبو عبيد : وهو بالفتح : اسم موضع . وصوبه الهروي ، وقال النووي : إنه المعروف عند أهل اللغة ، وحكاهما ابن الأنباري وأنه اسم موضع ، قال ابن أبي أويس وابن حبيب : هو جبل لقلتهم ، زاد ابن أبي أويس : وقلة غنمهم .

[ ص: 590 ] قال عياض : كأنها تريد أنهم لقلتهم وقلة غنمهم حملهم على سكنى شق الجبل ، أي : ناحيته أو بعضه ; لأن الشق يقع على الناحية من الشيء وعلى بعضه ، والشق أيضا : النصف . فيكون التفسير على رواية من روى بالفتح -وهو أليق بقولها : لقلتهم - شق في الجبل كالغار ونحوه .

وله وجه آخر ذهب إليه نفطويه ، وهو بالحديث أولى وأوضح لغة .

ومعنى : الشق -بالكسر - الشظف من العيش والجهد منه ، قال ابن دريد : يقال : هو بشق وشظف من العيش ، (أي : بجهد ) منه ، وعليه نزول قوله تعالى : إلا بشق الأنفس [النحل : 7 ] .

قال الداودي : يروى بشق بفتح الباء والشين ، وبكسرهما ، والتشديد في القاف ، فمن رواه بالتخفيف : أراد موضعا ، ومن شدد هو الجهد من قوله : بشق الأنفس .

وقولها : (فجعلني في أهل صهيل وأطيط ) . الصهيل : أصوات الخيل ، والأطيط : أصوات الإبل . يعني : أنه ذهب بها إلى أهله ، وهم أهل خيل وإبل ، وكان أهلها أصحاب غنم ، ليسوا بأصحاب خيل ولا إبل .

قال عياض : وأصل الأطيط : أعواد المحامل والرحال ، ويشبه أن يريد بالأطيط هذا المعنى ، فكأنها تريد أنهم أصحاب محامل ورفاهية ; لأن المحامل لا يركبها إلا أصحاب السعة ، وكانت قديما من مراكب العرب .

[ ص: 591 ] قلت : قد ذكر المبرد أن أول من عمل المحامل الحجاج بن يوسف الثقفي ، وفيه قول الراجز :


أول عبد عمل المحاملا . . .     أخزاه ربي عاجلا وآجلا

.

وقولها : (دائس ومنق ) ، قال أبو عبيد : تأوله بعضهم من دياس الطعام ، وهو دراسه ، وأهل العراق يقولون : الدياس ، وأهل الشام يقولون : الدراس ، قال : ولا أظنها واحدة من هاتين الكلمتين ، فليسا من كلام العرب ، فإن كان كما قيل فأرادت أنهم أصحاب زرع .

وقال أبو سعيد : الدياس : الطعام الذي أهله في دياسة ، وعندهم من الطعام مقتنى فخيرهم متصل . وقال ابن التين : يريد أنهم أصحاب زرع ، يدوسونه إذا حصد وينقونه مما يخالطه . وأما : (منق ) : فالمحدثون يقولونه بالكسر ، قال أبو عبيد : ولا أدري معناه ، وأحسبه منق بالفتح ، أرادت به تنقية الطعام ، وأرادت أنهن أصحاب زرع .

قال الهروي : وقال بعضهم : المنقي : الغربال .

وقال إسماعيل بن أبي أويس : المنق -بالكسر - نقيق (أصوات ) المواشي والأنعام ، تصف كثرة ماله .

وقال أبو سعيد النيسابوري : هو مأخوذ من نقنقة الدجاج يقال : أنق الرجل إذا اتخذ دجاجا ينقنق أي : أنهم أهل طير . أي : نقلني من فقر إلى عمران .

[ ص: 592 ] وقال ابن سراج : ويجوز أن يكون (منق ) بالإسكان أي : وأنعام ذات نقى . أي : سمان . وعند ابن قتيبة : قال أبو عبيد : المنق مفتوح النون ، ولا أعرف كسرها ، وقال غيره بكسرها .

وقال النووي : المراد الذي ينقي الطعام ، أي : يخرجه من تبنه وقشوره ، وهو أجود من قول الهروي : هو الذي ينقيه بالغربال .

وقولها : (فعنده أقول فلا أقبح ) . أي : فلا يقبح علي قول يقبل مني . (وأشرب فأتقمح ) ، أي : يرويني الشراب حتى لا أحب الشرب ، مأخوذ من الناقة المقامح ، وهي التي ترد الماء فلا تشرب . وترفع رأسها ريا ، وكل رافع رأسه فهو مقمح وقامح قال تعالى : فهم مقمحون [يس : 8 ] أي : لا يستطيعون الشرب ، وكانت في قوم عندهم قلة الماء .

قال أبو عبيد : أي : أروى حتى أدع الشرب من شدة الري . قال : ولا أراها قالت هذا إلا من عزة الماء الذي عندهم ، وبعضهم يرويه : فأتقنح ، بالنون ، ولا أعرف هذا الحرف ولا أرى المحفوظ إلا بالميم .

وقال أبو سعيد : فأتقنح : هو الشرب على رسل لكثرة اللبن ; لأنها ليست بناهبة غيرها ، وإنما تنتهب ما كان قليلا يخاف عجزه ، ويقول الرجل لصاحبه إذا أحثه على أن يأكل أو يشرب : والله لتقمحنه .

والتقمح : الازدياد من الشرب ، وقال ابن السكيت في التقنح الذي لم يعرفه أبو عبيد : أتقنح : أقطع الشراب . [قال ] أبو زيد : قال الكلابيون : قنحت تنقح قنحا وهو : التكاثر في الشراب بعد الري .

[ ص: 593 ] وقال أبو حنيفة : يقال : قنحت من الشراب قنحا ، وقنحت أقنح قنحا : تكارهت عليه بعد الري . والغالب : تقنحت . والترنح : كالتقنح .

قال عياض : حكى أبو علي القالي في "البارع " و"الأمالي " : قنحت الإبل تقنح -بفتح النون في الماضي والمستقبل - قنحا بإسكانها . وقال شمر : قنحا : إذا تكارهت الشرب ، ومن رواه بالفاء والتاء (أتفتح ) إن لم يكن وهما فمعناه : التكبر والزهو والتيه . ويكون هذا الكبر والتيه من الشراب ، لنشوة سكره ، وهو على الجملة يرجع إلى عزتها عنده ، وكثرة الخير لديها ، أو يكون معنى أنفتح : كناية عن سمن جسمها واتساعه .

قال عياض : ولم يروه في الصحيح إلا بالنون ، وكذا هو في جميع النسخ . وقال البخاري : قال بعضهم : فأتقمح ، بالميم .

قال : وهو أصح ، والذي بالنون معناه : أقطع الشرب وأتمهل فيه ، وقيل : هو الشرب بعد الري .

وقولها : (فأتصبح ) . أي : أنام الصبيحة ; لأنها لها من يكفيها الخدمة من الإماء وشبهها .

وقولها : (عكومها رداح ) ، تريد : الأحمال والأعدال التي فيها الأوعية من صنوف الأطعمة والمتاع ، واحدها عكم ، كجلد وجلود . والرداح : العظيمة ، تقول : هي كثيرة الحشو . يقال للمرأة : رداح ; إذا كانت عظيمة العجز ، ثقيلة الأوراك .

[ ص: 594 ] وقال ابن حبيب : إنما هو دراح . أي : ملاء ، وليس كما قال الشارح : رداح .

قال (عياض : ما قاله ) أبو عبيد وغيره صحيح معروف ، ومعناه ظاهر ، وما أدري لم أنكر ابن حبيب وهو بنفسه معنى ما فسره هو به مع مساعدة سائر الرواة لما قاله أبو عبيد ، فإن روايتهم كلهم رداح . قال : ولم أسمعها من شيخ ، ولا وجدته في جماهير اللغة وصحاح العربية ، إلا أن يكون وهم عليه ، وإنما أراد : رداح بكسر الراء ، وأنكر فتحها فقط ، فلقوله وجه ، ويكون (رداح ) هنا بمعنى ما قاله أبو عبيد ، لكنه جمع (رادح ) كقائم وقيام ، وكذا وجدته مضبوطا عند بعض رواة الحديث بكسر الراء .

وقولها : (وبيتها فساح ) ، هو بفتح الفاء أي : واسع كبير .

وقولها : (كمسل شطبة ) ، هذا من تمادح الرجال ، وأصل الشطبة ما شطب من جريد النخل وهو سعفه ، وذلك أنه تنشق منه قضبان دقاق ينسج منها الحصر ، يقال للمرأة التي تفعل ذلك : شاطبة ، وجمعها شواطب ، فأخبرت أنه مهفهف ضرب اللحم ، شبهته بتلك الشطبة .

وعبارة ابن التين : أرادت أنه ضرب الجسم ، وهو مما يمدح به الرجال .

[ ص: 595 ] وقال أبو سعيد : تريد كأنه سيف مسلول من غمد ، شبهته بذي شطب يمان ، وسيوف اليمن كلها مشطبة ، وفي كتاب ابن حبان : الشطبة والشطب : ما شطب من سعف النخل .

وقولها : (وتكفيه -وفي لفظ : وتشبعه - ذراع الجفرة ) فالجفرة : الأنثى من أولاد الغنم ، وقيل : من أولاد الماعز ، والذكر : جفر ، وهي التي لها من العمر أربعة أشهر ، ومنه الغلام الجفر ، والعرب تمدح الرجل بقلة الأكل والشرب كما مر ، وزاد فيه بعضهم : كريم (الخل ) برود الظل ، وفي الإل . أي : وافي العهد ، وبرد الظل كناية عن طيب العشرة ، ولا يخادن أخدان السوء .

وقولها : (وملء كسائها ) ; وصفتها بالسمن ، و (غيظ جارتها ) : أي ضرتها . أرادت أن ضرتها ترى من حسنها ما يغيظها .

وقولها : (وما جارية أبي زرع ؟ لا تبث حديثنا تبثيثا ) . هو بالباء الموحدة ، ويروى بالنون ، وأحدهما قريب المعنى من الآخر : لا تظهر سرنا .

وقال ابن الأعرابي : النثاث المغتابون للمسلمين ، والأول أشبه ، بمعنى الخدمة .

وقولها : (ولا تنقث ميرتنا ) . وفي رواية : لا تنقل . يعني : الطعام لا تأخذه فتذهب به ، تصفها بالأمانة . والتنقيث : الإسراع في السير . أي : لا تذهب به وتخون .

[ ص: 596 ] وعبارة بعضهم : النقث : النقل ، والتنقيث : مبالغة . وقال ابن حبيب : لا تفسده ولا تفرقه . وقال ابن أبي أويس : لا تسرق . وقال أبو سعيد : التنقيث : إخراج ما في منزل أهلها إلى (الأجانب ) ، وهو النقث والنفث ، والثاء والفاء يتعاقبان . وقال ابن فارس : نقث القوم حديثهم : خلطوه ، كما ينقث الطعام .

وقولها : (ولا تملأ بيتنا تعشيشا ) . التعشيش : -بالعين المهملة - مأخوذ من عشعش (الخبز ) إذا فسد ; تريد : أنها تحسن الطعام المخبوز ، وتتعهده بأن نطعم منه أولا فأولا طريا ، ولا تهمل أمره فيطرح ويفسد ، ذكره ابن التين ، ثم قال : وقال الداودي : أراد أنها لا تتسمع إلى أخبار الناس فتأتينا بها .

وقال يعقوب فيما حكاه ابن قتيبة : تريد النميمة وما شاكلها .

وقال ابن حبان : تريد أنها عفيفة الفرج لا تفسق . وعبارة بعضهم : لا تخبئ خبيئا كعش الطائر ، أو كأنها لا تقم البيت فهو كعش الطائر في قذره وقشبه .

وقال النووي : لا تترك القمامة والكناسة فيه مفرقة كعش الطائر ، بل هي مصلحة للبيت معتنية بتنظيفه .

وقيل : لا تسرق طعامنا فتخبأه في زوايا البيت .

[ ص: 597 ] وقال سعيد بن سلمة ، عن هشام : تعشعش بيتنا تعشيشا .

فائدة :

في رواية الهيثم عن هشام : ضيف أبي زرع ، وما ضيف أبي زرع ؟ في شبع وري ورتع . قال ابن قتيبة : الرتع : جمع رتعة من قوله تعالى : يرتع ويلعب [يوسف : 12 ] . وقال أبو عبيد : يلهو ويتنعم . وقال الكلبي : يرتع : يذهب ويجيء وينشط ويلهو ويلعب . وفي رواية أيضا : طهاة أبي زرع ، فما طهاة أبي زرع ؟ لا تفتر ولا تعدى (تقدح ) قدرا وتنصب (أخرى ) فتلحق الآخرة الأولى ; تريد بالطهاة الطباخين ، واحدهم طاهي يقال : طها الرجل إذا طبخ . ولا تعدى . تريد : لا تصرف عن اتخاذ ذلك .

وقولها : (تقدح قدرا ) معناه : تغرف قدرا ، يقال : قدح : إذا غرف ، والمقدحة المغرفة ، وأصلها المقدوح . كالجريح والمجروح .

فائدة :

أسلفنا معنى قولها : (وملء كسائها ) . وجاء في رواية : صفر ردائها بكسر الصاد المهملة وهو الخالي .

قال الهروي : أي : ضامرة البطن ، فالرداء ينتهي إلى البطن .

[ ص: 598 ] وقال غيره : معناه أنها خفيفة أعالي البدن -وهو موضع الرداء - ممتلئة أسفله -وهو موضع الكساء - توضحه رواية : وملء إزارها .

قال عياض : أرادت امتلاء منكبيها وقيام نهديها بحيث يدفعان الرداء عن أعالي بدنها فلا يمسه ، فيصير خاليا بخلاف أسفله .

فصل :

سلف معنى قوله : (وغيظ جارتها ) . وفي رواية : عقر جارتها . بالعين المفتوحة والقاف الساكنة .

قال عياض : كذا ضبطناه عن جميع شيوخنا ، وضبطه الجياني : (عبر ) بضم العين وإسكان الباء ، وكذا ذكره (ابن الأنباري ) ، وكأن الجياني أصلحه من كتاب ابن الأنباري ، وفسره على وجهين : أحدهما من الاعتبار (أي ) : ترى من حسنها وعفتها ما تعتبر به . والثاني : من العبرة : هي البكاء . أي : ترى من ذلك ما يبكيها لحسدها وغيظها ، ومن رواه بالقاف فمعناه : تغيظها ، فتصير كمعقورة ، وقيل : تدهشها ، من قولهم : عقرا إذا دهش .

وعند الإسماعيلي : وذكرت كلب أبي زرع .

فصل :

قولها : (والأوطاب تمخض ) . تريد بالأوطاب أسقية اللبن ،

[ ص: 599 ] واحدها : وطب ، قاله أبو عبيد ، وأنكره أبو سعيد وقال : هذا منكر في العربية أن يكون فعل يجمع على أفعال ، لا يقال : كلب وأكلاب ، ولا وجه وأوجاه ، وإنما الصحيح : الأوطب في القلة والأوطاب في الكثرة .

ومعنى : (تمخض ) تحرك حتى تخرج زبدتها ويبقى المخيض ، ومعنى كلامها يحتمل أنها أرادت تبكير خروجه من منزلها غدوة ، وانطوى في أثناء ذلك كثرة خير داره ، وغزر لبنه ، وأن عندهم منه ما يشرب صريحا ومخيضا ، ويفضل عن حاجتهم حتى يمخضوه في الأوطاب ويستخرجوا زبده وسمنه .

ويحتمل أنها تريد أن خروجه في استقبال الربيع وطيبه ، وأن خروجه إما لسفر أو غيره كان في هذا الزمن ، فتكون الفائدة في الاحتمال الأول : تعريفها بخروجه عنها بكرة النهار ، والثاني : إعلامها بوقت خروجه عنها في أي فصل هو .

فصل :

قولها : (فلقي معها ولدان كالفهدين ) . وفي رواية : كالصقرين . احتاجت إلى ذكرها هنا ; لتنبه على أحد أسباب تزويجه لها ; لأن العرب كانت ترغب في الأولاد ، وتحرص على النساء المنجبات في الخلق والخلق . لكن في رواية الخطيب أنهما أخواها لا ابناها ، وأنه إنما تزوجها بكرا .

[ ص: 600 ] فصل :

وقولها : (يلعبان من تحت خصرها برمانتين ) . يعني أنها ذات كفل عظيم ، فإذا استلقت نتأ الكفل بها من الأرض حتى يصير تحت خصرها فجوة يجري فيها الرمان ، وقيل : إنهما الثديان . وأنكره أبو عبيد فقال : ليس هذا موضعه .

وحكاه ابن قتيبة عن ابن أبي أويس . قال عياض : والأول أرجح ; لا سيما وقد روي : من تحت درعها برمانتين .

وعبارة ابن التين : وصفها بكبر الكفل والصدر .

فصل :

قولها : (فطلقني ونكحها ، فنكحت بعده رجلا سريا ، ركب شريا ) .

كذا في "الصحيح " وفي رواية أبي الهيثم : فاستبدلت بعده ، وكل بدل أعور ، فتزوجت شابا . والسري : بالسين المهملة أي : من سراة الناس .

وقال عياض ، عن ابن السكيت : بالمعجمة يعني : سيدا شريفا سخيا .

و (ركب شريا ) بالمعجمة ، وهو الفرس الذي يستشري في سيره ، أي : يلح ويمضي بلا فتور ، وقال يعقوب : وهو الفرس الفائق الخيار ، ونقل ابن بطال عن ابن السكيت : ركب فرسا شريا . أي : خيارا ، من قولهم : هذا من سراة المال أي : من خياره ; ولما

[ ص: 601 ] ضبطه النووي بالمعجمة ادعى فيه الاتفاق ، ويأتي على ما حكاه ابن بطال عن ابن السكيت الإهمال أيضا .

فصل :

قولها : (وأخذ خطيا ) . يعني : الرمح ; لأنه يأتي من بلاد ناحية البحرين يقال له : الخط ، فنسب الرماح إليها ، وإنما أصل الرماح من الهند ولكنها تحمل إلى الخط في البحرين ثم تفرق منها في البلاد ، وهي قرية بسيف البحر عند عمان .

قال أبو الفتح : قيل لها ذلك ; لأنها على ساحل البحر ، والساحل يقال له : الخط ، لأنه يفصل بين الماء والتراب . والخطي : بفتح الخاء المعجمة في أخبار ثعلب في "فصيحه " : قال ابن درستويه: والعامة تكسر الخطية في كل حال ، وهو خطأ .

قلت : في "شرح ابن هشام " يقال بكسر الخاء .

قال عياض : ولا يصح قول من قال : إن الخط منبت الرماح .

وعند ابن سيده في "العويص " : كل سيف خط ; قال : فأما قول سلامة بن جندل :

يأخذن بين سواد الخط فاللوب

فإن الخط هنا : الطريق ، حكاه ثعلب .

وفي "معجم أبي عبيد " : الخط : ساحل بين عمان إلى البصرة ، ومن

[ ص: 602 ] كاظمة إلى الشحر ، ثم أنشد قول سلامة السالف ثم قال : واللوب : الحرار ، حرار قيس . قال : وإذا كانت من حرار قيس إلى ساحل البحر ، فهي نجد كلها ، قال : وقيل : الخط فيها الرماح الجياد ، وهي لعبد القيس .

فصل :

قولها : (نعما ) هو بفتح النون الإبل خاصة ، قاله عياض وابن بطال ، وابن التين ، وقال غيرهم : لجمع الإبل والبقر والغنم ، والنعم تذكر وتؤنث قال تعالى : ومن الأنعام حمولة وفرشا [الأنعام : 142 ] . ثم قال : ثمانية أزواج [الأنعام : 143 ] فذكر أنواع الماشية . ووقع في رواية : (نعما ) بكسر النون جمع نعمة ، والأشهر الأول .

وقولها : (ثريا ) هو بفتح الثاء المثلثة ثم راء مهملة ثم مثناة تحت وهو الكثير من المال وغيره ، ومنه الثروة في المال ، وهي كثرته ، قال الكسائي : يقال : قد ثرى بنو فلان بني فلان يثرونهم إذا كثروهم وكانوا أكثر منهم و (القياس ) ثرية ، لكنه ليس من حقيقي التأنيث ، ومعنى : (أراح ) : تأتي في الرواح بعد الزوال .

فصل :

قولها : (وأعطاني من كل رائحة زوجا ) . أي : أعطاني اثنين من كل

[ ص: 603 ] ما يروح من الإبل والبقر والعبيد ، والزوج هنا الاثنين ، ويقال للواحد زوج ، ويحتمل أنها أرادت صنفا ، والزوج يقع على الصنف ، ومنه قوله تعالى : وكنتم أزواجا ثلاثة [الواقعة : 7 ] وصفته بالسؤدد في ذاته ، والسعة في ذات يده ، وأنه صاحب حرب وركوب ، وأنه محسن إليها مفضل على أهلها ، ثم إنه مع هذا كله لم يقع عندها موقع أبي زرع ، وأن كثيره دون قليله ، فكيف بكثيره ، وأن حال هذا معيب إذا أضافته إلى حال أبي زرع ، مع إساءة أبي زرع أخيرا في تطليقها والاستبدال بها ، ولكن حبها له بغض إليها الناس بعده ; ولهذا كره أولو الرأي تزويج امرأة لها زوج طلقها ; لميل نفسها إليه .

وقوله : (وميري أهلك ) . أي : صليهم بالميرة ، وهي الطعام ، وأصله من امتيار البوادي من الحواضر .

فصل :

قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - : ("كنت لك كأبي زرع لأم زرع" ) قاله ; تطييبا لنفسها ومبالغة في حسن معاشرتها ، ثم استثنى من ذلك الأمر المكروه منه أنه طلقها "وإني لا أطلقك" ; تتميما لتطييب نفسها ، وإكمالا لطمأنينة قلبها ، ورفعا للإيهام ; لعموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع ، إذ لم يكن فيها مذمة سوى طلاقه لها .

وقد جاء في رواية أبي معاوية الضرير ما يدل أن الطلاق لم يكن من قبل أبي زرع واختياره ، فإنه قال : لم تزل به أم زرع حتى طلقها .

وجاء أن عائشة قالت : بأبي أنت وأمي ، بل أنت خير لي من أبي زرع . وهو جواب مثلها في فضلها وعلمها ، فإنه - عليه السلام - لما أخبرها أنه

[ ص: 604 ] لها كهو ; لفرط محبة أم زرع له وإحسانه إليها . أخبرته هي أنه عندها أفضل . وهي له أحب من (أم زرع لأبي زرع ) .

فصل :

قد أسلفنا في الوجه الخامس أن فيه التأسي بأهل الإحسان إلى آخره ، وهو ما ذكره المهلب واعترضه القاضي فقال : هذا عندي غير مسلم ; لأنا لا نقول أنه - عليه السلام - اقتدى بأبي زرع ، بل أخبر أنه لها كأبي زرع ، وأعلم أن حاله معها مثل حالة ذلك لا على سبيل التأسي به ، فأما قوله فيه التأسي فصحيح ما لم تصادمه الشريعة .

فصل :

قوله لها : ("كنت لك" ) أي : أنا لك ; كقوله تعالى : كنتم خير أمة [آل عمران : 110 ] أي : أنتم خير أمة ، ويمكن بقاؤها على ظاهرها كما قال القرطبي : إني كنت لك في علم الله السابق ، ويمكن أن يكون مما أريد به الدوام كقوله : وكان الله سميعا بصيرا [النساء : 134 ] .

فصل :

في فوائده مختصرا غير ما سلف : فيه : جواز إعلام الرجل بمحبته للمرأة إذا أمن عليها من هجر أو شبهه .

وفيه : ذكر محاسن النساء للرجال إذا كن مجهولات، بخلاف المعينات ، فذلك منهي عنه في قوله : "لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها " .

[ ص: 605 ] وفيه : ما يدل على التكلم بالألفاظ العربية والأسجاع ، وإنما كره ذلك للتكلف .

وفيه : حسن المعاشرة مع الأهل ومحادثتهن بما لا إثم فيه ، وأن بعضهن ذكرت ما في زوجها من عيبه ، ولم يكن ذلك (غيبة ) إذا كانوا لا يعرفون ، وإنما الغيبة من عين بما يكره ذكره .

وفيه : جواز قول المرء لصاحبه : بأبي أنت وأمي .

وفيه : الرد على من لم يجز قول هذا ، وما يحكى عن الحسن ومن قال بقوله ، وأنه لا يفدي أحدكم بمسلم ، فهذه عائشة قد قالته وأبواها مسلمان .

وفيه : شكر المرأة إحسان زوجها ، وعليه ترجم النسائي ، وخرج معه في الباب حديث ابن عمر : "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر زوجها " .

وفيه : مدح المرء في وجهه إذا علم ذلك غير مفسد ولا مغير نفسه ، والشارع مظنة كل مدح ، ومستحق كل ثناء ، وأن من أثنى بما أثنى فهو فوق ذلك كله .

وما أحسن قول البوصيري فيما أخبرنا غير واحد عنه :


دع ما ادعته النصارى في نبيهم . . .     واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم


فمبلغ العلم فيه أنه بشر . . .     وأنه خير خلق الله كلهم



وقد ورد في الأثر أنه - عليه السلام - كان لا يقبل الثناء إلا من مكافئ .

[ ص: 606 ] قال القتبي : إلا أن يكون ممن أنعم عليه - صلى الله عليه وسلم - فيكافئه الآخر الثناء ، ورده ابن الأنباري وغلطه ; لأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله ; لأن الله تعالى جعله للناس كافة وهداهم ورحمهم به ، فكلهم تحت نعمته ، والثناء عليه فرض عليهم لا يتم الإسلام إلا به ، وإنما المعنى لا يقبل الثناء إلا من رجل عرف حقيقة إسلامه ممن لا ينبذ بنفاق ، وقيل : مكافئ : مقارب في مدحه غير مفرط فيه ، قال - عليه السلام - : "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى - عليه السلام - " .

فصل :

قال عياض : وفي قوله : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع " في الألفة (والرفاء ) .

فائدة :

إن لم يصح النهي عنه جواز قوله للمتزوج ; لأنه إذا قال أحد الزوجين لصاحبه ، فلا يمتنع أن يقوله الأجنبي لأحدهما . وقد اختلف العلماء في هذا ، فروي جوازه عن عبد الملك بن حبيب ، وعن شريح أيضا ، وكرهه آخرون . منهم عقيل بن أبي طالب فيما رواه عنه الحسن .

قال الطبري : ولم يسمع منه ، وقد سلف قريبا .

[ ص: 607 ] فصل :

فيه جواز المزح في بعض الأحيان ، وإباحة المداعبة مع الأهل ، وبسط الوجه مع جميع الناس بالكلام السهل الحلو ، وكان - عليه السلام - يمزح ولا يقول إلا حقا ، أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسناد جيد ، بلفظ : قال : قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال : "إني لا أقول إلا حقا " . ثم قال : حديث حسن . وأخرجه الزبير في "كتاب الفكاهة والمزاح " من هذا الوجه بلفظ : قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنك تداعبنا ، قال : "إني وإن داعبتكم فإني لا أقول إلا حقا " .

ورواه أيضا مرسلا عن بكر بن عبد الله المزني ، وعن يحيى بن أبي كثير : كان رجل من الصحابة ضحاكا ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "ما يعجبون ، إنه ليدخل الجنة وهو يضحك " . وعن طلحة بن خراش وعبد الرحمن بن ثابت وعبد الله بن بسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب فخذ الفاكه بن سكن وقال : "استعطي يا أم عمرة " . وقال لأبي اليسر "يا أم اليسر " . قالوا : فألقى الفاكه يده على فرجه لا يشك أنه عاد امرأة فقال - صلى الله عليه وسلم - : "ما لك ؟ " فقال : ما شككت أني عدت امرأة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "إنما أنا بشر أمزح معكم " . وسماه من يومئذ الموقن .

وأما ما روي عن ذم المزاح والنهي عنه فيما روى ابن الأعرابي ، عن المطين ، عن ابن نمير ، عن المحاربي ، عن أبيه ، عن عبد الملك ، عن عكرمة ، عن مولى يرفعه : "لا تمار أخاك ولا تمازحه " .

[ ص: 608 ] وحدثنا أبو داود ، وساقه إلى عبد الله بن السائب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا : "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا " ، فليس هذا من المزاح المحمود المباح ، فإنما يهيج (الضغائن ) ، ويعد من السباب والكذب ، أو يتسلط به على ضرر رجل أو ماله ، فليس من المزاح المحمود ، ولا هو من جنس ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه ليس مما ورد عنه من ذلك شيء زائد على خفض الجناح وبسط الوجه وطلب التودد . ومن ذهب إلى أنه يسقط الهيبة كما قال أكثم بن صيفي ،

فلعله في الإكثار منه والتخلق به .

وأما قول من قال : إنما سمي (المزاح ) مزاحا ; لأنه زاح عن الحق فلا يصح لفظا ولا معنى ، أما المعنى ، فلما ذكرنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا ، وأما اللفظ ; فلأن الميم في المزاح أصلية ثابتة في الاسم والفعل ، ولو كان كما قال كانت تكون زائدة ساقطة من الفعل .

فصل :

وفي الحديث أيضا أن كنايات الطلاق لا يقع بها الطلاق إلا بالنية ; لأنه - عليه السلام - قال : "كنت لك كأبي زرع " ومن جملة أفعاله أنه طلق امرأته أم زرع ، ولم يقع عليه - عليه السلام - طلاق بتشبيهه ; لكونه لم ينو الطلاق ، وقد سلف في رواية : "غير أني لم أطلقك " .

[ ص: 609 ] فصل :

في الباب حديث عائشة - رضي الله عنها - : كان الحبش يلعبون بحرابهم ، فيسترني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنظر ، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو .

وقد سلف في العيد وفي المساجد ، وأن لعبهم كان في المسجد ، وادعى بعضهم نسخه بقول الله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع [النور : 36 ] وبحديث : "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم " ، وأبداه أبو عبد الملك بحثا ، فقال : يحتمل أن يكون منسوخا ; لأن نظر النساء إلى الرجال وإلى اللهو فيه ما فيه ، وهو عجيب .

وقوله : (فاقدروا قدر الجارية ) يقال : قدرت الأمر كذا أقدر وأقدر إذا نظرت فيه ودبرته ، وقدر بفتح الدال كما ذكره ابن التين .

قال الهروي : قدرت على الشيء أقدر قدرا قدرا وقدرة ومقدرة وقدرانا . قال : ومنه يقال : أقدر بدرعك .

وضبطه عند ابن فارس بإسكان الدال ، والمعنى : أن الجارية تطيل المقام ; لأنها مشتهية للنظر .

التالي السابق


الخدمات العلمية