التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
455 467 - حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه عاصب رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر". [3656، 3657، 6738 - فتح: 1 \ 558] .


ذكر فيه حديثين:

أحدهما: قال فيه: حدثنا محمد بن سنان، ثنا فليح، ثنا أبو النضر، عن عبيد بن حنين، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله تعالى".. الحديث.

[ ص: 613 ] الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه أيضا في فضل أبي بكر، وأخرجه مسلم في الفضائل.

ثانيها:

هكذا ثبت في روايتنا: عبيد، عن بسر، عن أبي سعيد، وكذا رواه محمد بن زكريا النيسابوري، فقال: حدثنا معاذ بن سليمان الحراني، ثنا فليح.

وذكر أبو علي الجياني أن رواية محمد بن سنان عن معافى بن سليمان ليست محفوظة عن أبي النضر، وقال ابن السكن عن الفربري: قال محمد بن إسماعيل: هكذا رواه محمد بن سنان، عن فليح، وهو خطأ، وإنما هو -عن عبيد وعن بسر- يعني: بواو العطف.

وكذا خرجه مسلم، عن سعيد بن منصور عن فليح به، قال: جميعا: عن أبي سعيد، ورواه عن فليح كرواية سعيد يونس بن محمد عند ابن أبي شيبة، ورواية أبي زيد المروزي في "صحيح البخاري" حدثنا محمد بن سنان، ثنا فليح ثنا أبو النضر، عن عبيد، عن أبي سعيد، ورواه البخاري في فضل أبي بكر عن عبد الله بن محمد أبي عامر [ ص: 614 ] - يعني: العقدي، ثنا فليح، ثنا سالم، عن بسر، عن أبي سعيد، وفي الهجرة عن إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك، عن أبي النضر، عن عبيد، عن أبي سعيد بلفظ: "أن يؤتيه الله من زهرة الدنيا ما شاء" وفيه: فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.

وكذا رواه عن مالك عبد الله بن مسلمة وابن وهب ومعن، ومن طريقه أخرجه مسلم، ومطرف وإبراهيم بن طهمان -وسماه عبد الله بن حنين- ومحمد بن الحسن، وعبد العزيز بن يحيى؛ قال الدارقطني: لم أره في "الموطأ" إلا في "كتاب الجامع" للقعنبي ولم يذكره في "الموطأ" غيره، ومن تابعه فإنما رواه في غير "الموطأ".

قلت: ففليح لم ينفرد به بل توبع، وإن كان بعضهم لين روايته، فيجوز أن يكون حدث به مرة، عن عبيد، ومرة عن بسر، ومرة جمعهما، وأخرجه الترمذي من طريق أبي المعلى مرفوعا، وقال: غريب، وأخرجه أيضا من حديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بسد الأبواب إلا باب أبي بكر.

ثالثها:

أبو النضر. اسمه: سالم بن أبي أمية، مولى عمر بن عبيد الله بن معمر.

[ ص: 615 ] وعبيد بن حنين مدني أخو عبد الله، ومحمد تابعي ثقة، مات بالمدينة سنة خمس ومائة، عن خمس وسبعين سنة.

وبسر بن سعيد -بالباء الموحدة والسين المهملة- مات بالمدينة سنة مائة -وقيل: إحدى- عن ثمان وسبعين سنة.

رابعها:

قوله: (فبكى أبو بكر) زاد مسلم: فسمى هذا وبكى. وإنما أبهم الشارع ذكر العبد؛ ليظهر فهم أهل المعرفة، ونباهة أهل الحذق، وكان ذلك كله في الصديق، وفي مسلم أنه قال لرسول الله: فديناك بآبائنا وأمهاتنا؛ لأن الصديق فهم أن العبد هو رسول الله، وكان ذلك في مرض موته، كما ستعلمه، في حديث ابن عباس بعده، فبكى حزنا على فراقه، وانقطاع الوحي، وغير ذلك من أنواع الخيرات.

وفي قول أبي سعيد: (وكان أبو بكر أعلمنا) هو لائح في كونه أعلم الصحابة إذ لم ينكره أحد ممن حضر، ولا شك فيه، ولما علم الشارع ذلك منه اختصه بالخصوصية العظمى، وقال: "إن أمن الناس علي.. " إلى آخره فظهر أن للصديق من الفضائل والحقوق ما لا يشاركه في ذلك مخلوق.

خامسها:

قوله - صلى الله عليه وسلم: ("إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر")، قال العلماء ومنهم الخطابي: أي: أكثرهم جودا وسماحة لنا بنفسه وماله، [ ص: 616 ] وليس هو من المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة؛ لأنه مبطل للثواب، لأن المنة لله ولرسوله في قبول ذلك وغيره، قال الخطابي: والمن في كلام العرب الإحسان إلى من لا تستثيبه قال تعالى: هذا عطاؤنا فامنن [ص: 39]. وقال: ولا تمنن تستكثر [المدثر: 6]، أي: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت.

وقال القرطبي: وزن "أمن" أفعل من المنة بمعنى: الامتنان، أي: أكثر منة، ومعناه: أن أبا بكر له من الحقوق ما لو كان بغيره لامتن بها وذلك؛ لأنه بادر بالتصديق، وبنفقة الأموال وبالملازمة والمصاحبة إلى غير ذلك بانشراح صدر ورسوخ علم بأن الله ورسوله لهما المنة في ذلك والفضل، لكن رسول الله بجميل أخلاقه وكرم أعراقه اعترف بذلك عملا بشكر المنعم ليسن كما قال للأنصار، وفي "جامع الترمذي" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ما لأحد عندنا يد إلا وكافأناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله -عز وجل- بها يوم القيامة".

سادسها:

قوله - صلى الله عليه وسلم: ("لو كنت متخذا من أمتي خليلا.. ") إلى آخره، وفي رواية: "لكن أخي وصاحبي".

اعلم أن أصل الخلة الافتقار والانقطاع، فخليل الله، أي: المنقطع إليه، لقصره حاجته عليه، وقيل: إنها للاختصاص أو الاصطفاء، وسمى إبراهيم بذلك؛ لأنه والى فيه، وعادى فيه، وقيل: لأنه تخلل [ ص: 617 ] بخلال حسنة، وأخلاق كريمة، وخلة الله له: نصره وجعله إماما لمن بعده، وقال ابن فورك: الخلة صفاء المودة بتخلل الأبرار، وقيل: اصطفاء المحبة، وقيل: الخليل من لا يتسع قلبه لغير خليله، وقيل: من التخلل أي: أن الحب تخلل قلبه وغلب على نفسه، والخل الصديق. حكاه ابن قرقول.

وقوله: "من أمتي" قيل: اتخذ خليلا من الملائكة. حكاه ابن التين، ويرده "ولكن صاحبكم خليل الرحمن"، وفي رواية: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي"، و(اتخذ) تتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف الجر، فيكون بمعنى: اختار واصطفى، وهنا سكت عن أحد مفعوليها، وهو الذي دخل عليه حرف الجر، فكأنه قال: لو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت منهم أبا بكر، وقد تتعدى (اتخذ) لأحد المفعولين بحرف الجر، وقد تتعدى لمفعول واحد، وكل ذلك في القرآن.

ومعنى الحديث: أن أبا بكر متأهل لأن يتخذ الشارع خليلا لولا المانع المذكور، وهو أنه امتلأ قلبه بما تخلله من معرفة الرب تعالى وصحبته ومراقبته حتى كأنه مزجت أجزاء قلبه بذلك، فلم يتسع قلبه لخليل آخر وعلى هذا فلا يكون الخليل إلا واحدا ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلق القلب به فهو حبيب، وذلك أثبت للصديق ولعائشة أنهما أحب الناس إليه، ونفى عنهما الخلة، وعلى هذا فالخلة فوق المحبة.

وقد اختلف أرباب القلوب في ذلك، فذهب الجمهور منهم إلى أن [ ص: 618 ] الخلة أعلى تمسكا بهذا الحديث، وذهب أبو بكر بن فورك إلى أن المحبة أعلى؛ لأنها صفة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل من الخليل - عليه السلام - وقيل: هما سواء، فلا يكون الخليل لا حبيبا، ولا الحبيب إلا خليلا.

وزعم القزاز فيما حكاه ابن التين أن معنى الحديث: لو كنت أخص أحدا بشيء من العلم دون الناس لخصصت به أبا بكر؛ لأن الخليل من تفرد بخلة من الفضل لا يشركه فيها أحد كما اتخذ الله إبراهيم خليلا جعلها عليه بردا وسلاما.

سابعها:

قوله: ("ولكن أخوة الإسلام") قال ابن التين: رويناه بغير همز، ولا أصل لهذا، وكأن الهمزة سقطت هنا، وهي ثابتة في باب المواضع، وكذا قال ابن بطال: وقع في الحديث (ولكن خوة الإسلام)، ولا أعرف معناه، قال: وقد وجدت الحديث بعده (خلة) بدل (خوة)، وهو الصواب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صرف الكلام على ما تقدمه من ذكر الخلالة، وأتى بلفظ مشتق منها، وهو الخلة، قال: ولم أجد خوة بمعنى خلة في كلام العرب.

قوله: (ما يبكي الشيخ، إن يكن الله) قال ابن التين: رويناه بكسر همزة (إن) على أنه شرط ويصح فتحها، ويكون منصوبا بأن فيكون المعنى ما يبكيه لأجل أن يكون الله تعالى خير عبدا.

ثامنها:

فيه التعريض بالعلم للناس، وإن قل فهماؤه خشية أن يدخل عليهم مساءة أو حزنا.

[ ص: 619 ] وفيه: أنه لا يستحق أحد حقيقة العلم إلا من فهم، وأن الحافظ لا تبلغ درجته إنما يقال للحافظ عالم بالنص لا عالم بالمعنى، ألا ترى أن أبا سعيد جعل لأبي بكر مزية تفهمه أوجب له بها العلم حقيقة، وإن كان قد أوجب العلم للجماعة.

وفيه: الحض على اختيار ما عند الله والزهد في الدنيا، والإعلام لمن أحبك ذلك من المسلمين.

وفيه: أن على الإمام شكر من أحسن صحبته ونصرته، بتعزيز الدين والاعتراف بذلك واختصاصه بالفضيلة التي لم يشارك فيها كما اختص هو - عليه السلام - أبا بكر بما لم يخص فيه غيره وذلك؛ أنه جعل بابه في المسجد ليخلفه بالإمامة.

وفيه: أن المرشح بالإمامة يخص بكرامة تدل عليه.

وفيه: أن الخلة فوق الصداقة، والصحبة.

وفيه: ائتلاف النفوس بقوله: "ولكن أخوة الإسلام أفضل" فتألفهم بأن حرمة الخلة بمعنى شامل عنده وإن كان قد فضل الصديق بما يدل على ترشيحه للأمر بعده.

تاسعها:

قوله: ("لا يبقين باب في المسجد إلا سد إلا باب أبي بكر") وجاء: "لا يبقين في المسجد خوخة"، كما ستعلمه من حديث ابن عباس.

والخوخة بفتح الخاء باب صغير، قال ابن قرقول: وقد يكون عليها مصاريع، وقد لا يكون إنما أصلها فتح في الحائط، وكانت الصحابة فتحوا بين مساكنهم وبين المسجد خوخات؛ اغتناما لملازمة المسجد [ ص: 620 ] وللكون فيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان فيه غالبا إلا إنه لما كان يؤدي ذلك إلى اتخاذ المسجد طريقا، وكانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول فيه، كما أخرجه أبو داود بإسناده الصحيح، أمر - صلى الله عليه وسلم - بسد كل خوخة كانت هنالك واستثنى خوخة الصديق إكراما له، وخصوصية به؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالبا.

عاشرها:

استدل بهذا الحديث على إمامة الصديق، واستخلافه بعده؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج من باب بيته، وهو في المسجد للصلاة، فلما أن غلق الأبواب إلا باب أبي بكر دل على أنه يخرج إليه منه للصلاة، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - نبه على أنه من بعده يفعل هكذا، وحديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بسد الأبواب إلا باب علي، استغربه الترمذي وقال البخاري: حديث "إلا باب أبي بكر" أصح، وقال الحاكم: تفرد به مسكين بن بكير الحراني، عن شعبة، قال ابن عساكر: وهو وهم.

قلت: قد تابعه إبراهيم بن المختار.

وعند ابن عدي مضعفا عن أنس قال بعض الناس: سد الأبواب إلا باب أبي بكر، فقال: "إني رأيت على أبوابهم ظلمة، وعلى باب أبي بكر نورا". قال: فكانت الأخيرة أعظم عليهم من الأولى.

[ ص: 621 ] الحديث الثاني:

حديث ابن عباس: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة.. الحديث.

ويأتي في الفرائض بزيادة: فإنه أنزله أبا أو قال قضاه أبا.

وقوله: (عاصبا رأسه) قال ابن التين: المعروف عصب رأسه تعصيبا.

التالي السابق


الخدمات العلمية