التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4986 [ ص: 378 ] 22 - باب: حكم المفقود في أهله وماله

وقال ابن المسيب: إذا فقد في الصف عند القتال تربص امرأته سنة. واشترى ابن مسعود جارية والتمس صاحبها سنة فلم يجده وفقد، فأخذ يعطي الدرهم والدرهمين وقال: اللهم عن فلان وعلي. وقال هكذا فافعلوا باللقطة.

وقال الزهري في الأسير يعلم مكانه: لا تتزوج امرأته، ولا يقسم ماله، فإذا انقطع خبره فسنته سنة المفقود.

5292 - حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد -مولى المنبعث- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ضالة الغنم، فقال: "خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب". وسئل عن ضالة الإبل، فغضب واحمرت وجنتاه، وقال: "ما لك ولها؟ معها الحذاء والسقاء، تشرب الماء، وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها". وسئل عن اللقطة، فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها، وعرفها سنة، فإن جاء من يعرفها، وإلا فاخلطها بمالك". قال سفيان: فلقيت ربيعة بن أبي عبد الرحمن -قال سفيان ولم أحفظ عنه شيئا غير هذا- فقلت: أرأيت حديث يزيد مولى المنبعث في أمر الضالة، هو عن زيد بن خالد؟ قال نعم. قال يحيى: ويقول ربيعة: عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد. قال سفيان: فلقيت ربيعة فقلت له. [انظر: 91 - مسلم: 1722 - فتح: 9 \ 430].


(وقال ابن المسيب: إذا فقد في الصف عند القتال تربص امرأته سنة) كذا هو في الأصول وعليه جرى ابن بطال وغيره وعند ابن التين ستة أشهر. والأول هو ما ذكره ابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر وحفص، عن داود، عن سعيد تعتد امرأته سنة.

[ ص: 379 ] وحدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قالا في امرأة المفقود: تتربص أربع سنين، وتعتد أربعة أشهر وعشرا .

قال المهلب: تبع سعيد في هذا حكمه - عليه السلام - بتعريف اللقطة سنة. قال ابن المنذر: وعند سعيد إذا فقد في غير صف فأربع سنين.

وقال الأوزاعي: إذا فقد ولم يثبت عن أحد منهم أنهم قتلوا ولا أسروا (فعليهن) عدة المتوفى (عنهن) ثم يتزوجن. وقال مالك: ليس في انتظار من فقد عند القتال وقت.

وجعل أبو عبيد حكمه 1 حكم امرأة المفقود، وبه قال أبو الزناد. والجواب في هذا عند الثوري والشافعي وأصحاب الرأي كجوابهم عن امرأة المفقود .

فائدة:

قوله: (تربص) أصله تتربص فحذف إحدى التائين كقوله تعالى: نارا تلظى [الليل: 14].

ثم قال البخاري: (واشترى ابن مسعود جارية والتمس صاحبها فلم يجده وفقد، فأخذ يعطي الدرهم والدرهمين وقال: اللهم عن فلان، فإن أتى فلي وعلي وقال: هكذا فافعلوا باللقطة)، وقال: (عن ابن عباس نحوه).

[ ص: 380 ] أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد، عن شريك، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل: اشترى عبد الله جارية بسبعمائة درهم. فغاب صاحبها، فأنشده حولا أو قال: سنة، ثم خرج إلى المسجد فجعل يتصدق ويقول: اللهم فله فإن أتى فعلي. ثم قال: هكذا فافعلوا باللقطة وبالضالة .

ثم قال البخاري: (وقال الزهري في الأسير يعلم مكانه: لا تتزوج امرأته، ولا يقسم ماله، فإذا انقطع خبره فسنته سنة المفقود). وهو كما قال، فقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن زوجة الأسير لا تنكح حتى يعلم يقين وفاته ما دام على الإسلام. وهذا قول النخعي والزهري ومكحول ويحيى الأنصاري، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي ثور وأبي عبيد وبه نقول .

ثم ذكر البخاري حديث زيد بن خالد الجهني السالف في باب اللقطة وإدخال البخاري له في الباب من دقة نظره، كما نبه عليه ابن المنير، وذلك أنه وجد الأحاديث متعارضة بالنسبة إلى المفقود; فحديث ضالة الغنم يدل على جواز التصرف في ماله في الجملة، وإن لم تتحقق وفاته.

وينقاس عليه تصرف المرأة في نفسها بعد إيقاف الحاكم وتطليقه بشروطه. والحديث عن ابن مسعود وما معه يؤيده، ويقابل هذا على المعارضة حديث ضالة الإبل، فمقتضاه بقاء تمليكه أبدا حتى تتحقق وفاته بالتعمير أو غيره، وبحسب هذا التعارض اختلف العلماء في

[ ص: 381 ] الجملة، واختار البخاري إيقاف الأهل أبدا إلى الوفاة يقينا أو التعمير، ونبه على أن الغنم إنما يتصرف فيها خشية الضياع بدليل التعليل في الإبل. والإبل في معنى الأهل; لأن بقاء العصمة ممكن كبقاء الإبل مملوكة له .

فصل:

واختلف العلماء في حكم المفقود إذا لم يعرف مكانه وعمي خبره، فقالت طائفة: إذا خرج من بيته وعمي خبره أن امرأته لا تنكح أبدا ولا يفرق بينه وبينها حتى يوقن بوفاته أو ينقضي تعميره، وسبيل زوجته سبيل ماله، روي هذا القول عن علي ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومحمد والشافعي ، وإليه ذهب البخاري والله أعلم، لأنه بوب كما سلف، وذكر حديث اللقطة والضالة.

ووجه الاستدلال من ذلك: أن الضالة إذا وجدت ولم يعلم ربها فهي في معنى المفقود; لأنه لا يعلم من هو ولا أين هو، فلم يزل الجهل به وبمكان ملكه عن ماله وبقي محبوسا عليه، فكذلك يجب أن تكون عصمته باقية على زوجته، لا يحلها إلا بيقين موته أو انقضاء تعميره. وهذه الزوجية ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، ولا تحل إلا بيقين قتله.

وقالت طائفة: تتربص امرأته أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا، ثم تحل للأزواج، روي هذا عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وعطاء، وإليه ذهب مالك وأهل المدينة، وبه قال

[ ص: 382 ] أحمد وإسحاق .

واحتج ابن المنذر لهم فقال: اتباع خمسة من الصحابة أولى. قال: وقد دفع أحمد ما روي عن علي من خلاف هذا القول وقال: أن رواه أبو عوانة ولم يتابع عليه قلت: ورواه عنه الحكم وهو منقطع، لكن قد صح عن أبي قلابة وإبراهيم والشعبي وجابر بن زيد وابن سيرين والحكم وحماد مثل قوله .

قال ابن المنذر: وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة، وكما وجب تأجيل العنين تقليدا لعمر وابن مسعود، كذلك وجب تأجيل امرأة المفقود; لأن العدد الذين قالوا بالتأجيل أكثر وهم أربعة من الخلفاء، وقد قال - عليه السلام -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي" .

فصل:

واختلفوا إذا فقد في الصف عند القتال، وقد أسلفنا عن ابن المسيب أنه تؤجل امرأته سنة، وروى أشهب عن مالك أنه يضرب لامرأته أجل سنة بعد أن ينظر في أمرها ، ولا يضرب لها من يوم فقد.

[ ص: 383 ] وسواء فقد في الصف بين المسلمين أو في قتال المشركين، فروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالك: إذا فقد في المعترك أو في فتن المسلمين بينهم، أنه ينتظر بمقدار ما ينصرف المنهزم، ثم تعتد امرأته ويقسم ماله .

وروى ابن القاسم، عن مالك في المفقود في فتن المسلمين أنه (يضرب) لامرأته سنة، ثم تتزوج . واحتج المهلب لهذا القول بحديث اللقطة; لأنه حكم - عليه السلام - بتعريف سنة.

وقال الكوفيون والثوري والشافعي في الذي يفقد بين الصفين كقولهم في المفقود: لا يفرق بينهما، كما أسلفناه عنهم .

واتفق مالك والكوفيون والشافعي في الأسير لا يستبين موته أنه لا يفرق بينه وبين امرأته ويوقف ماله وينفق منه عليها. وفرق الأبهري بين الأسير والمفقود أن الأسير غير مختار لترك الرجوع إلى زوجته ولا قاصد لإدخال الضرر عليها، فلم يجز رفع نكاحه، وهو كالذي لا يقدر على الوطء (لعلة عرضت له) . والمفقود غير معذور بالتأخير عن زوجته إذ لا سبب له ظاهر منعه به من ذلك. حكم زوجة الأسير في النفقة عليها من ماله كامرأة المفقود لأنا نقدر أن نوصلها إلى حقها من النفقة سواء غاب أو حضر.

[ ص: 384 ] ولا خلاف أنه لا يفرق بين الأسير وزوجته حتى يصح موته أو فراقه، ومالك يعمر الأسير إلى أن تعرف حياته وقتا ثم ينقطع خبره فلا يعرف له موت، يعمره ما بين السبعين إلى الثمانين، وكذلك يعمر المفقود بين الصفين، والمفقود الذي فقد في غير الحرب يعمره كذلك أيضا في ماله وميراثه.

والكوفيون يقولون: لا يقسم ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش مثله، وهذا يشبه قول مالك، وقال الشافعي: لا يقسم ماله حتى تعلم وفاته .

وروى محمد بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة يرفعه "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان" . قال أبو حاتم: حديث منكر، ومحمد يروي عن المغيرة أحاديث مناكير بواطيل .

فصل:

لم يبين سعيد بن المسيب هل كان الصف في أرض الإسلام أو أرض العدو، وقد أسلفنا قول مالك فيه في المعركة بين المسلمين، وعنه أيضا: ليس في ذلك أجل، وتعتد زوجته من يوم التقاء الصفين، قال: وكذلك كان في صفين والحرة وقديد فتبين كلهم عرف مصرعه،

[ ص: 385 ] وأسلفنا عن رواية ابن القاسم: تتربص سنة ثم تعتد. وقال أيضا: العدة داخلة في السنة. وقال في "العتبية": فما قرب من الديار يتلوم السلطان لزوجته باجتهاده بقدر انصراف من انصرف وانهزام من انهزم، ثم تعتد، ثم تتزوج. وفيما بعد مثل إفريقية تنتظر سنة. وقال محمد عنه فيما بعد: تتربص أربع سنين. وقال أصبغ: يضرب لها بقدر ما يستقصى أمره ويستبرأ خبره، وليس لذلك حد معلوم .

وأما ماله فمنهم من قال: بعد يوم التقاء الصفين يقسم حينئذ. ومن قال: تعتد أربع سنين يعمر، ومن قال: سنة اختلف على قوله: هل يقسم حينئذ أو يوقف إلى التعمير؟

وأما فقيد (معترك) في أرض الشرك فقيل كالأسير أو تتربص سنة من يوم ينظر السلطان في أمره ثم تعتد، أو تتربص أربع سنين. ثلاثة أقوال: الأول في "العتبية"، والثاني لأشهب، والثالث في كتاب محمد .

وذكر عن بعض أصحاب مالك أن الناس أصابهم سعال بطريق مكة، وكان الرجل لا يسعل إلا يسيرا فيموت، فمات في ذلك عالم كثير، ففقد مائتان من الخارجين إلى الحج ولم يبن لهم خبر، فرأى مالك قسمة أموالهم ولا يضرب لهم أجل المفقود ولا غيره.

وأما فقيد أرض الإسلام فاختلف فيه في عشرة مسائل: من يتولى الكشف عن خبره: أهو سلطان بلد أو الخليفة خاصة؟ قاله أبو مصعب.

[ ص: 386 ] ورواية الأربع سنين: هل هو من يوم اليأس من خبره -كما قاله في "المدونة" أو من يوم الرفع- قاله في "المختصر"- وهل يكون أحق بها بعد انقضاء عدتها- قاله في "المدونة"- أم لا؟ قاله ابن نافع.

وإذا قلنا: هو أحق بها هل يفوت بعقد الثاني أو بدخوله؟

وأما علة الاقتصار على أربع: هل هي لأنها أقصى أمد الحمل، أو المدة التي تبلغها المكاتبة سيرا ورجوعا أو بناء على المولي جعل لكل شهر سنة، أو تعتد اتباعا لعمر؟.

وهل تحل ديونه بعد الأربع، -قاله مالك- أو لا؟ قاله أصبغ والشافعي.

وهل يعمر سبعين، أو مائة وعشرين، أو تسعين، أو ثمانين. قال الداودي، عن بعض الرواة: رواية سبعين وهما، وأحسبها: تسعين، والقول بمائة وعشرين، قاله ابن عبد الحكم، وهو قول النعمان ، وقال الشافعي: يعمر أقصى ما لا يعيش إليه أحد، وقاله مالك مرة. ذكره الداودي.

وإذا قامت امرأة المفقود ثانية بحقها: هل يضرب له أجل آخر أو يجزئ بالأول؟ قاله مالك. وإذا قضي بفراق زوجته بعد الأربع، ولم يكن دخول وموت بالتعمير، هل تأخذ نصف الصداق؟ قاله عبد الملك. أو جميعه؟ قاله مالك. وقال أبو حنيفة: لا يفرق حتى يبلغ التعمير .

[ ص: 387 ] وهو أحد قولي الشافعي، وثانيهما كمالك. وقال قتادة وأحمد: يقسم ماله عند انقضاء أربع سنين.

فصل:

قوله في حديث زيد بن خالد في الغنم: "خذها" يؤخذ منه أنه إذا أكل الشاة في فلاة أنه لا ضمان عليه، وهو أظهر الروايتين عن مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: يضمنها، ورواه بعض المدنيين عن مالك، وهذا التعليل دال على أنها في حكم المتلف فلا قيمة في إتلافها; ولأنه أضافها إلى واجدها كإضافتها إلى الذئب.

فصل:

والحذاء: خف البعير. والعفاص: الخرقة. والوكاء: الخيط، وقاله ابن القاسم أيضا، وعكس ذلك أشهب فقال: العفاص: الخيط، والوكاء: الظرف.

فصل:

الحديث حجة على أبي حنيفة حيث قال بالتقاط الإبل.

فصل:

قوله: ("فإن جاء من يعرفها وإلا فاخلطها بمالك") أخذ بظاهره داود على أنه يتملكها، وخالف فقهاء الأمصار، والمراد: خلطها به على جهة الضمان كالسلف، بدليل الرواية الأخرى، "فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه".

فصل:

قوله فيه: (قال سفيان: فلقيت ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سفيان -ولم أحفظ عنه شيئا غير هذا-: أرأيت حديث يزيد مولى المنبعث في

[ ص: 388 ] أمر الضالة عن زيد بن خالد؟ قال: نعم. قال يحيى -يعني: بن سعيد- ويقول ربيعة: عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد، قال سفيان: فلقيت ربيعة فقلت له) قال ابن التين: فقد حفظ عن الزهري وهو مات قبل ربيعة، مات الزهري سنة أربع وعشرين ومائة، ويقال: سنة (خمس ومائة) ، ومات ربيعة سنة ثلاثين ومائة وإنما قال ذلك; لأن أكثر مقاصد سفيان الحديث والغالب على ربيعة الفقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية