التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4998 5304 - حدثنا عمرو بن زرارة، أخبرنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا". وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا. [6005 - فتح: 9 \ 439].


الشرح:

اللعان مصدر لاعن يلاعن لعانا، وإطلاق اللعان في جانب المرأة من مجاز التغليب، فإن الغضب أشد من اللعن; لأن اللعن الإبعاد، وقد يبعد من لا يغضب عليه، وهو مشتق من اللعن: وهو الطرد والإبعاد، لبعدهما من الرحمة، أو لبعد كل منهما عن الآخر فلا يجتمعان أبدا، والمغلب على اللعان حكم اليمين عندنا على الأصح.

[ ص: 425 ] وهو في الشرع: كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق به العار، والأصل فيه الآية المذكورة بطولها، نزلت في شعبان سنة تسع في عويمر العجلاني منصرفه من تبوك، أو في هلال بن أمية، وعليه الجمهور.

وخالف ابن أبي صفرة فقال: إنه خطأ، وإنما هو عويمر، قال: وأظن الغلط فيه من هشام بن حسان، وكذا قاله الطبري. ولعلهما تقاربتا فنزل فيهما أو تكرر النزول ورماها عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن العجلان الأحدي بشريك بن السحماء وهي أمته، قيل لها ذلك لسوادها، قاله ابن المنذر. وقال غيره: هي بنت عبد الله اللتبية.

وقال آخرون: هي يمانية، وهو شريك بن عبد الله بن مغيث بن الجد بن العجلان ولم تكن بالمدينة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في أيام عمر بن عبد العزيز، وليس لنا يمين متعددة إلا هو والقسامة، ولا يمين في جانب المدعي إلا فيها.

وقد اختلف العلماء في لعان الأخرس، فقال الشافعي ومالك وأبو ثور: يلاعن الأخرس إذا عقل الإشارة، وفهم الكتابة، وعلم ما يقوله، وفهم (منه) ، وكذلك الخرساء تلاعن أيضا بالكتابة .

وقال الكوفيون: لا يصح قذفه ولا لعانه، فإذا قذف الأخرس امرأته بإشارة لم يحد ولم يلاعن، وكذلك لو قذف بكتاب ، وروي مثله عن

[ ص: 426 ] الشعبي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق واحتجوا بأن هذه المسألة مبنية لهم على أصل، وهو أن صحة القذف تتعلق بصريح الزنا دون معناه، ألا ترى أن من قذف آخر فقال له: قد وطئت وطأ حراما، أو وطئت بلا شبهة لم يكن قاذفا، فإن أتى بمعنى الزنا كان قاذفا، فبان أن المعتبر في هذا الباب صريح اللفظ، وهذا المعنى لا يحصل من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا ولا يميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة، وأيضا فإن إشارته لما تضمنت وجهين لم يجز إيجاب الحد بها كالكتابة والتعريض.

قالوا: واللعان عندنا شهادة، وشهادة الأخرس عندنا لا تقبل بالإجماع، ورد بالمنع; فهو باطل كسائر الألسنة ما عدا العربية فإنها كلها قائمة مقامها، ويصح بكل واحد منها القذف، فكذلك إشارة الأخرس.

وقولهم: إنه لا يميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة باطل، إذا أقر بقتل عمد فإنه مقبول منه بالإشارة، وصورته غير صورة قتل الخطإ، وما حكوه من الإجماع في شهادته غلط.

وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته ، وإنما تقوم مقام اللفظ في الشهادة، وأما مع القدرة فلا تقع منه إلا باللفظ، وحكي أنهم يصححون لعان الأعمى، ولا يجيزون شهادته، فقد فرقوا بينهما، ولأن إشارته إذا فهمت قامت مقام النطق بما احتج به البخاري من الإشارة في الآية، فعرفوا بإشارتها ما يعرفون من نطقها

[ ص: 427 ] وبقوله تعالي: آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [آل عمران: 41] أي إيماء وإشارة، فلولا أنه يفهم منها ما يفهم من النطق لم يقل تعالى: ألا تكلم إلا رمزا فجعل الرمز كلاما.

وأيضا فإنه - عليه السلام - كبر للصلاة وذكر أنه لم يغتسل، فأشار إليهم أن اثبتوا مكانكم، وكذلك أشار إلى الصديق في الصلاة، والأحاديث فيه أكثر من أن تحصر.

وصح أنه يعقل من الإشارة ما يعقل من النطق، وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله - عليه السلام -: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ومتى كان يبلغ البيان (إلى) ما بلغت إليه الإشارة، والإعراب بما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة، والمراد أن ما بيني وبين الساعة من مستقبل الزمان بالقياس إلى ما مضى منه مقدار فضل الوسطى على السبابة. ولو كان أراد غير هذا لكان قيام الساعة مع بعثه في زمن واحد، وقيل: معناه أنه ليس بينه وبين الساعة أمة غير أمته.

وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام.

قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك.

واتفق مالك والكوفيون والشافعي أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه.

[ ص: 428 ] وقال الكوفيون: إذا كان الرجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شيء .

قال الطحاوي: الخرس مخالف للصمت، كما أن العجز عن الجماع العارض بالمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز المأيوس منه الجماع، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة .

قال المهلب: وأما الأصم فإن في أمره بعض إشكال ولكن قد يستبرأ إشكال أمره (بترديد) الإشارة على الشيء حتى يرتفع الإشكال، فإذا فهم عنه ذلك جاز جميع ما أشار به.

وأما المتكلم، فإذا كتب الطلاق بيده فله أن يقول: إنما كتبت مراوضا لنفسي لأستخير الله في إنفاذه; لأن لي درجة في البيان بلساني هي غايتي، فلا يحال بيني وبين غاية ما لي من البيان، والأخرس لا غاية له إلا الإشارة .

ثم ذكر البخاري في الباب أحاديث دالة على ما ذكره من الإشارة: أحدها: حديث يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ " .. الحديث.

ولما رواه الترمذي من حديث قتادة عن أنس قال: عن أبي أسيد الساعدي ثم قال: حديث حسن صحيح ، فعلى هذا حديث أنس مرسل.

[ ص: 429 ] ثانيها:

حديث سهل بن سعد الساعدي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت أنا والساعة كهذه من هذه" أو "كهاتين". وقرن بين السبابة والوسطى.

ثالثها:

حديث ابن عمر السالف في الصوم: "الشهر هكذا .. " إلى آخره

رابعها:

حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو: أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده نحو اليمن: "الإيمان ههنا -مرتين- ألا وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين حيث يطلع قرنا الشيطان ربيعة ومضر".

خامسها:

حديث سهل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا". وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا.

وقد ظهر لك أن المراد ببعض الناس أبو حنيفة، وخالفه مالك والشافعي. واحتجاج البخاري عليه بين، ومن اعتل له بأن الحدود تدرأ بالشبهات، فليس ببين; لأن هذا لا شبهة فيه إذا كان يعقل الإشارة ويعلم ما يقوله.

وقول الشعبي وقتادة: (إذا قال: أنت طالق وأشار بأصابعه تبين منه بإشارته). يريد أنه أشار بثلاثة أصابع، فكأنه عبر عن نيته بما أشار به بأصابعه.

وقول إبراهيم في الكتابة سلف أنه لم يفتقر في غير الأخرس إلى نية، ويقع الطلاق بنفس الكتابة إذا كان عازما وإن لم يخرج الكتاب عن يده، وإن كتب لينظر في ذلك، فإن أخرجه عن يده بقي على ذلك.

[ ص: 430 ] واختلف إذا أخرج الكتاب عن يده ولم يعلم هل كان عزم أم لا؟ فقال ابن القاسم في "المدونة": له أن يرده ما لم يبلغها الكتاب ، وقال محمد: ذلك له ما لم يخرج الكتاب، وسواء كان الكتاب: أنت طالق. أو: إذا جاءك كتابي فأنت طالق، ولا ينوي إذا خرج الكتاب من يده وإن لم يصل إليها .

فصل:

الفدادون جمع فداد وهو: الشديد الصوت من الفديد وذلك من دأب أصحاب الإبل ومن يعالجها من أهلها، هذا على رواية تشديد الدال، وزنه فعالا، عينه دال ولامه دال من فد يفد إذا رفع صوته، فجمعه فعالون، وقيل: هو جمع فدان -وهو آلة الحرث والسكة وأعواده- على رواية التخفيف يريد: أهل الحرث، وإنما ذم ذلك لأنه يشتغل عن أمر الدين ويلهى عن الآخرة، فيكون معها قساوة القلب ، فالجمع على الأول فعالين الياء والنون زائدتان، الياء حرف إعراب والنون مفتوحة عوض من الحركة، والتنوين عند أكثر النحاة، وعلى الثاني: فعاليل: النون منه من نفس الكلمة، وهي لامه وهي مكسورة لأجل حرف الجر.

وقال أبو عبيد الله القزاز: الفدادين من أهل الوبر أصحاب الإبل الذين تبلغ إبل أحدهم المائتين فأكثر إلى الألف، فإذا بلغ ماله ذلك فهو فداد، وهم مع ذلك جفاة ذوو إعجاب بأنفسهم .

[ ص: 431 ] وقال ابن فارس: (هم أهل) الحرث والمواشي .

فصل:

وقوله: ("أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا") يريد أن منزلته قريب من منزلته ليس بينهما منزلة.

التالي السابق


الخدمات العلمية