التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5017 5325 ، 5326 - حدثنا عمرو بن عباس، حدثنا ابن مهدي، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال عروة بن الزبير لعائشة: ألم ترين إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها البتة فخرجت؟ فقالت بئس ما صنعت. قال: ألم تسمعي في قول فاطمة؟ قالت: أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث.

وزاد ابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه عابت عائشة أشد العيب وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص لها النبي - صلى الله عليه وسلم -. [انظر: 5321، 5322 - مسلم: 1481 - فتح 9 \ 477].


وذكر بإسناده عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار أنه سمعهما يذكران أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق بنت عبد

[ ص: 513 ] الرحمن بن الحكم،
فانتقلها عبد الرحمن، فأرسلت عائشة أم المؤمنين إلى مروان -وهو أمير المدينة-: اتق الله وارددها إلى بيتها. قال مروان في حديث سليمان: إن عبد الرحمن غلبني. وقال القاسم بن محمد: أوما بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟ قالت: لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة. فقال مروان: إن كان بك شر فحسبك ما بين هذين من الشر.

ثم روى حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ما لفاطمة، ألا تتقي الله؟! يعني: في قولها: "لا سكنى ولا نفقة".

ثم روي من حديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال عروة بن الزبير لعائشة: ألم ترى إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها البتة فخرجت؟ فقالت بئس ما صنعت. قال: ألم تسمعي في قول فاطمة؟ قالت: أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث.

الشرح:

قال ابن عبد البر: حديث فاطمة هذا مروي من وجوه صحاح متواترة عنها .

واختلف العلماء كما قال ابن المنذر في خروج المبتوتة بالطلاق من بيتها في عدتها، فمنعت من ذلك طائفة، روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وعائشة، ورأى سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار أن تعتد في بيت زوجها حيث طلقها، وحكى أبو عبيد هذا القول عن مالك والثوري والكوفيين أنهم كانوا يرون ألا تبيت المبتوتة والمتوفى عنها إلا في بيتها.

[ ص: 514 ] وفيها قول آخر أن المبتوتة تعتد حيث شاءت، روي ذلك عن ابن عباس وجابر وعطاء وطاوس والحسن وعكرمة، وقال أحمد وإسحاق: تخرج المطلقة ثلاثا -على حديث فاطمة- ولا سكنى لها ولا نفقة.

قال ابن المنذر: وإنما اختلف أهل العلم في خروج المطلقة ثلاثا من بيتها، أو مطلقة لا رجعة للزوج عليها. فأما من له عليها الرجعة فتلك في معاني الأزواج، وكل من أحفظ عنه العلم يرى لزوجها منعها من الخروج، حتى تنقضي عدتها; لقوله تعالى: ولا يخرجن [الطلاق: 1] الآية.

وكان مالك يقول: المتوفى عنها زوجها تزور وتقيم إلى قدر ما يهدأ الناس بعد العشاء، ثم تنقلب إلى بيتها . وهو قول الليث والشافعي وأحمد .

وقال أبو حنيفة: تخرج المتوفى عنها نهارا، ولا تبيت عن بيتها، ولا تخرج المطلقة لا ليلا ولا نهارا ، وفرقوا بينهما. فقالوا: المطلقة لها السكنى عندنا، والنفقة في عدتها على زوجها، فذلك يغنيها عن الخروج، والمتوفى عنها لا نفقة لها، فلها أن تخرج في بياض النهار وتبتغي من فضل ربها .

[ ص: 515 ] وقال محمد: لا تخرج المطلقة ولا المتوفى عنها ليلا ولا نهارا في العدة .

وقالت طائفة: المتوفى عنها تعتد حيث شاءت.

روي هذا عن علي وابن عباس وجابر وعائشة وعن عطاء والحسن.

قال ابن عباس: إنما قال الله تعالى: تعتد أربعة أشهر وعشرا، ولم يقل تعتد في بيتها، فتعتد حيث شاءت . وقام الإجماع على أن الرجعية تستحق السكنى والنفقة; إذ حكمها حكم الزوجات في جميع أمورها.

واختلف في وجوب السكنى والنفقة للمطلقة ثلاثا إذا لم تكن حاملا، فقالت طائفة: لا فيهما على نص حديث الباب. وروي عن علي وابن عباس وجابر، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وممن قال لا نفقة للمبتوتة إبراهيم في رواية، والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وعروة فيما ذكره ابن أبي شيبة بأسانيد جيدة وخالف ذلك جابر بن عبد الله والحسن وعطاء والشعبي وشريح القاضي والحكم وحماد وإبراهيم والإسناد إليهم جيد .

وقالت أخرى: للمبتوتة السكنى دون النفقة. روي عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي، وهو قول مالك وابن أبي ليلى والليث والأوزاعي والشافعي.

[ ص: 516 ] وقالت طائفة ثالثة: لكل مطلقة السكنى والنفقة ما دامت في العدة حاملا كانت أو غير حامل، مبتوتة كانت أو رجعية. هذا قول الثوري والكوفيين ، وروي عن عمر وابن مسعود .

احتج الكوفيون بأن عمر وعائشة وأسامة بن زيد ردوا حديث فاطمة بنت قيس، وأنكروه عليها، وأخذوا في ذلك بما رواه الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة وهمت أو نسيت. وكان عمر - رضي الله عنه - يجعل لها النفقة والسكنى وقال ابن حزم: ما كنا لنعتد في ديننا بشهادة امرأة ، ووصل هذا أبو يوسف، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر .

وفي الدارقطني أن عمر قال لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة لا تخرجوهن من بيوتهن . ولم يقل فيه وسنة نبينا، وهذا أصح; لأنه لا يثبت .

والحديث عند النسائي بدونها قالوا: ما احتج به عمر في دفع حديث فاطمة حجة صحيحة، وذلك أن الله تعالى قال: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [الطلاق: 1] ثم قال: لا تدري لعل

[ ص: 517 ] الله يحدث بعد ذلك أمرا
[الطلاق: 1] وأجمعوا أن الأمر إنما هو الرجعة ثم قال تعالى: أسكنوهن [الطلاق: 6] الآية.

ثم قال: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن [الطلاق: 1] يريد في العدة، فكانت المرأة إذا طلقها زوجها اثنتين للسنة ثم راجعها كما أمر الله ثم طلقها أخرى للسنة حرمت عليه ووجبت عليها العدة التي جعل الله لها فيها السكنى وأمرها فيها ألا تخرج، وأمر الزوج ألا يخرجها، ولم يفرق بين مطلقة ومطلقة، فلما جاءت فاطمة هذه فروت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة"، خالفت بذلك كتاب الله; لأن الله تعالى جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وخالفت السنة; لأن عمر - رضي الله عنه - خالف ما روت، فخرج المعنى الذي منه أنكر عمر عليها ما أنكر خروجا صحيحا، وبطل حديث فاطمة فلم يجب العمل به أصلا; لما بينا.

وقال الكوفيون: إن السكنى تتبع النفقة فتجب بوجوبها وتسقط بسقوطها فقال لهم أصحاب مالك: السكنى التي في حالة الزوجية هي تبع النفقة من أجل التمكين من الاستمتاع، فلا يجوز أن تسقط إحداهما وتجب الأخرى، والسكنى بعد البينونة حق الله فلا تتبعها النفقة، ألا ترى أنهما لو اتفقا على سقوطها لم يجز أن تعتد في غير منزل الزوج الذي طلق فيه، وفي الزوجية يجوز أن ينقلها إلى حيث شاء، وبعد الطلاق ليس كذلك.

وقال من منعها وأخذوا بحديث فاطمة: إن عمر إنما أنكر عليها; لأنها خالفت عنده كتاب الله، يريد قوله: أسكنوهن وهذا إنما هو في الرجعية، وفاطمة كانت مبتوتة لا رجعة لزوجها عليها، وقد قالت أنه - عليه السلام - قال لها: "إنما النفقة والسكنى لمن كانت عليها الرجعة"

[ ص: 518 ] وفاطمة لم يكن لزوجها عليها الرجعة، فما روت من ذلك لا يدفعه كتاب الله ولا سنة نبيه، [فإن كان عمر وعائشة وأسامة أنكروا على فاطمة ما روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] وقالوا بخلافه، فقد تابع فاطمة على ذلك علي وابن عباس وجابر.

وحديث الشعبي بين في ذلك، روى هشيم: ثنا مغيرة وحصين وإسماعيل بن أبي خالد ومجالد، عن الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس فسألتها عن قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السكنى والنفقة، فقالت: طلقني زوجي البتة فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السكنى والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال مجالد في حديثه: إنما السكنى والنفقة لمن كانت له الرجعة . وأعله ابن القطان بمجالد ، ورواها أيضا عن الشعبي سعيد بن يزيد الأحمسي، وهو ضعيف .

واحتج من قال بالسكنى دون النفقة بأن حديث الشعبي غلط; لأنه قد روي عنه أنه جعل للمبتوتة السكنى وقال بعضهم: السكنى والنفقة.

وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا ابن أبي شيبة ثنا حميد، عن حسن بن صالح، عن السدي، عن إبراهيم والشعبي في المطلقة ثلاثا قال: لها السكنى والنفقة .

[ ص: 519 ] وهذا يوهن رواية الشعبي قال (أبو إسحاق) كنت مع الأسود بن يزيد في المسجد الجامع ومعنا الشعبي يحدث بحديث فاطمة أنه - عليه السلام - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة فأخذ الأسود كفا من حصى فحصبه، وقال: ويحك أتحدث بهذا أين عمر بن الخطاب ؟ قال إسماعيل: فلعله أفتى بخلاف ما روى عن فاطمة لما (روي) من إنكار الناس عليه.

وروى أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم قال في المطلقة ثلاثا: لها السكنى والنفقة ولا يجبر على النفقة.

قال إسماعيل: فلخص منصور في روايته شيئا يدل على ضبطه، وبين أن إبراهيم إنما أراد إثبات السكنى دون النفقة، وإسقاط السكنى هو الذي أنكر على فاطمة، وكذلك أنكرت عليها عائشة إطلاق اللفظ ، وكتمان السبب الذي من أجله أباح - عليه السلام - خروجها من المنزل فقالت: اتق الله ولا تكتمي السر الذي من أجله نقلك. وذلك أنها كانت في لسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها -أهل زوجها- فلذلك نقلها، لا أنه لا سكنى لها، والمرأة عندنا إذا آذت أهل زوجها جاز نقلها من ذلك الموضع، فدل أن عائشة - رضي الله عنها - علمت معنى ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة، ولم يكن قولها شيئا قالته برأيها، ألا ترى

[ ص: 520 ] قولها لمروان: دع عنك حديث فاطمة فإن لها شأنا وقالت: ألا تتقي الله فاطمة، علمت يقينا أنها عرفت قصتها كيف كانت.

وقول مروان لعائشة: إن كان بك من الشر فحسبك ما بين هذين من الشر. يدل أن فاطمة إنما أمرت بالتحويل إلى الموضع الذي أمرت به لشر كان بينها وبينهم. وإذا كان الشر والشقاق واقعا بين الزوجين جاز للحاكم أن يبعث إليها حكمين يكون لهما الجمع بينهما أو الفرقة. فكان تحويل المعتدة من مسكن إلى مسكن إذا وقع الشر أحرى أن يجوز.

وقد روي في قوله تعالى: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أحاديث: فمنهم من ذهب إلى أن الفاحشة البذاء وسوء الخلق، وهذا يشبه قول مروان السالف. وقد روي غير ذلك على ما يأتي ذكره في الباب بعد.

قال المهلب: في إنكار عائشة على فاطمة فتياها بما أباح لها الشارع من الانفصال وترك السكنى ولم تخبر بالعلة فيه: أن العالم لا يجب أن يفتي في المسألة إذا لم يعرف معناها كما لم تعرف فاطمة الوجه الذي أباح الشارع إخراجها من أجله من مسكنها، فتوهمت أنه ليس لها بهذا سكنى .

واحتج من قال بوجوب السكنى دون النفقة بقوله تعالى: أسكنوهن إلى قوله: حملهن فلو كانت النفقة تجب كما تجب السكنى لما كان لاختصاص النفقة للحامل معنى، فلما وقع الاختصاص وجب أن لا نفقة للمرأة إذا لم تكن حاملا، ووجب أيضا

[ ص: 521 ] أن تعلم أن هذه المرأة ليست التي يملك زوجها رجعتها; لأن تلك نفقتها واجبة عليه وإن كانت غير حامل على الأصل الذي كانت عليه قبل الطلاق.

واحتيج إلى ذكر السكنى في الآية لأن المبتوتة قد حدث في طلاقها ما خرجت به عن أحكام الزوجات كلها الوراثة وغيرها، فأعيد ذكر السكنى من طريق التحصين لها; ما دامت في عدتها، وأجريت مجرى التي قبلها، وأسقطت عنها النفقة التي كانت تجب لها قبل أن تبين من زوجها، ولم نجعل لها ذلك في عدتها إلا أن تكون حاملا فيجب عليه حينئذ أن يغذو ولده بغذاء أمه، كما يجب عليه إذا وضعت وقد انقضت عدتها أن يغذي ولده بغذاء التي ترضعه، فكما وجب على الأب أن ينفق على من ترضعه، وجب عليه أن ينفق على أمه ما دام في بطنها، فدل هذا كله أنها إذا لم تكن حاملا فلا نفقة لها. وسيأتي اختلافهم في سكنى المعتدة عن وفاة بعد.

فصل:

قصة فاطمة هذه سلفت في تفسير سورة الطلاق أيضا . قال الترمذي: قال بعض أهل العلم من الصحابة: لها السكنى والنفقة، منهم عمر وابن مسعود .

قال ابن حزم: ثبت ذلك عنهما. وهو قول سفيان بن سعيد، والحسن بن حي، وأهل الكوفة .

[ ص: 522 ] وفي الدارقطني من حديث حرب بن أبي العالية، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعا: "المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة" .

وفي مسلم من حديثها: "لا نفقة لك ولا سكنى" وكانت بائنا حاملا . ولأبي داود: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا . وفي الموطإ والسنن الأربعة من حديث الفريعة بنت مالك بن سنان -وهي أخت أبي سعيد الخدري- لما سألت رسول الله في الخروج من بيتها لما قتل زوجها وقالت: إنه لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، فقال لها: "اسكني في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله"، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. فلما كان زمن عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به . صححه الترمذي والذهلي والحاكم وابن حبان ، ووهم ابن حزم في إعلاله كما ستعلمه.

وروى الطحاوي من حديث الشعبي عن فاطمة أنها أخبرت عمر بأن زوجها طلقها ثلاثا فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا نفقة لك ولا سكنى". فأخبرت بذلك النخعي قال: أخبر عمر بذلك، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لها السكنى والنفقة" .

[ ص: 523 ] قال ابن حزم: في سند الأول زينب بنت كعب بن عجرة، وهي مجهولة ولم يرو حديثها غير سعد بن إسحاق بن كعب، وهو غير مشهور بالعدالة، مالك وغيره يقول: إسحاق بن سعد، وسفيان يقول: سعد .

قلت: زينب هذه صحابية، ذكرها أبو إسحاق الطليطلي وابن فتحون في جملة الصحابة، قالا: وكانت تحت أبي سعيد الخدري. وأما ما ذكره عن سعد فإن جماعة قالوا: إن سفيان وهم في تسميته، وأن مالكا هو المصيب في اسمه، ولهذا فإن الترمذي وغيره لما أخرجوه صححوه.

وقال أبو عمر: هذا حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق .

وخرجه ابن الجارود في "منتقاه" أيضا ،، ووثقه ابن المديني وصالح بن محمد، وذكره ابن حبان وابن خلفون في "الثقات" . وقال أبو عمر: ثقة لا يختلف في عدالته .

فصل:

قال الشافعي: عائشة ومروان بن الحكم وابن المسيب يعرفون أن حديث فاطمة إنما كان للشر، ويزيد ابن المسيب: استطالتها على أحمائها، وأنها كتمت في حديثها السبب; خوفا أن يسمع ذلك سامع فيرى أن للمبتوتة أن تعتد حيث شاءت، كما ذهب إليه عطاء .

[ ص: 524 ] ولابن حزم من حديث هارون عن ابن إسحاق أحسبه عن محمد بن إبراهيم أن عائشة - رضي الله عنها - قالت لفاطمة: إنما أخرجك هذا -تعني: اللسان- ثم قال: خبر ساقط لا حجة فيه; لأنه مشكوك في إسناده، ومنقطع فيما بين إبراهيم وعائشة; لأنه لم يسمع منها.

وله من حديث كاتب الليث: حدثنا الليث حدثني جعفر، عن إبراهيم، عن ابن الهرمز، عن أبي سلمة قال: كان محمد بن أسامة يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئا من ذلك -يعني انتقالها في عدتها- رماها (بما) في يده، ثم قال: وهذا ساقط; لأن كاتب الليث ضعيف جدا، ولو صح لما كان إلا إنكار أسامة لذلك، فهو كإنكار عائشة وعمر، وروى أبو صالح أيضا، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة فذكر حديث فاطمة وفيه فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها من قبل أن تحل .

قال الشافعي: وسنته - عليه السلام - في فاطمة يدل على ما تأول ابن عباس في قوله: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [الطلاق: 1] هو البذاء على أهل زوجها كما تأول إن شاء الله، ولم يقل لها - عليه السلام -: اعتدي حيث شئت، ولكنه حصنها حيث رضي بقوله: اعتدي عند ابن أم مكتوم. إذ كان زوجها غائبا ولم يكن له وكيل يحصنها . وفي أبي داود: قال ابن المسيب فوضعت على يدي ابن أم مكتوم .

[ ص: 525 ] فصل:

وقول البخاري: (ورواه ابن أبي الزناد) إلى آخره هو ثابت في بعض النسخ هنا وفي رواية أبي ذر أيضا وفي أكثرها آخر الباب بعده، وقد أخرجه أبو داود عن سليمان بن داود: أنبا ابن وهب: أخبرني عبد الرحمن فذكره .

وهو ابن أبي الزناد عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان.

قال ابن حزم: هذا حديث باطل; لأنه من رواية ابن أبي الزناد، وهو ضعيف وأول من ضعفه جدا مالك، قال: وهو يرد حديث ابن إسحاق; لأنه إن كان إخراجها من أجل لسانها فقد بطل هذا الذي علل به هنا: إنما كانت في مكان وحش .

وفي مسلم من حديث هشام، عن أبيه، عن فاطمة قالت: قلت يا رسول الله، إن زوجي طلقني ثلاثا، وأنا أخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت .

قال ابن حزم: فأمرها فتحولت. ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من كلام فاطمة، فصح أنه من كلام عروة، ولا يخلو هذا الخبر من أن يكون لم يسمعه عروة من فاطمة فيكون مرسلا، يوضحه ما رواه ابن أبي شيبة عن عروة قال: قالت فاطمة فإن كان هذا هو أصل الخبر فهو منقطع أو يكون عروة سمعه منها، ولا حجة فيه أيضا; لأنه ليس (فيه) أن

[ ص: 526 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما آمرك بالتحول; من خوف الاقتحام .

فصل:

قال الشافعي: لم أعلم مخالفا فيما وصفت من نسخ نفقة المتوفى عنها وكسوتها سنة وأقل من سنة، ثم احتمل سكناها إذا كان مذكورا مع نفقتها فإنه يقع عليه اسم المتاع أن يكون منسوخا في السنة وأقل منها كما كانت النفقة والكسوة منسوختين في السنة وأقل، واحتمل أن تكون نسخت في السنة وأثبتت في عدة المتوفى عنها حتى تنقضي بأصل هذه الآية، أو تكون داخلة في جملة (المعتدات) .

وإن الله يقول في المطلقات لا تخرجوهن من بيوتهن فلما فرض في المعتدة من الطلاق والسكنى، فكانت المعتدة المتوفى عنها في معناها، احتملت أن يجعل لها السكنى فإنها في معنى المعتدات فإن كان هذا كذا فالسكنى لها في الكتاب منصوص أو في معنى المنصوص، وإن لم يكن هكذا ففرض السكنى لها في السنة .

قال: والاختيار للورثة أن يسكنوها، فإن لم يفعلوا فقد ملكوا المال دونه .

قال البيهقي: روي عن عمر وابنه ما يدل على وجوب السكنى لها.

وقال الشافعي: بلغني عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل عن الشعبي أن عليا - رضي الله عنه - كان (يرحل) المتوفى عنها لا ينتظر بها.

[ ص: 527 ] وبلغني عن ابن مهدي، عن سفيان، عن فراس، عن الشعبي قال: نقل علي أم كلثوم بعد قتل عمر بسبع ليال; لأنها كانت في دار الإمارة.

وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تخرج المرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها، وقيل: كانت الفتنة فلذلك أحجبت أختها من قبل طلحة.

قال: وأنا مالك، عن هشام، عن أبيه في المرأة البدوية يتوفى عنها زوجها أنها (تنتوي) حيث (انتوى) أهلها. وعن عبيد الله بن عبد الله مثله.

قال: وأخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب أنه سئل عن المرأة يطلقها زوجها في بيت بكراء، على من الكراء؟ قال: على زوجها. قال: فإن لم يكن زوجها; قال: فعليها. قال: فإن لم يكن عندها؟ قال: فعلى الأمير .

فصل:

قال ابن حزم: لم يصح في وجوب السكنى للمتوفى عنها أثر أصلا، والمنزل إنما يكون ملكا للميت أو لغيره، فإن كان لغيره وهو مكرى أو مباح فقد بطل العقد بموته، وإن كان ملكا للميت فقد صار للغرماء أو الورثة أو للوصية، فلا يحل لها ذلك; لما ذكرناه، وإنما لها منه مقدار ميراثها إن كانت وارثة فقط، وقد قال بقولنا ابن عباس وطاوس والشعبي وأبو الشعثاء وسالم وعمر بن عبد العزيز ويحيى بن سعيد الأنصاري.

[ ص: 528 ] وعن الربيع أنها لما اختلعت من زوجها أتى عمها معوذ زمن عثمان، فسأله أتنتقل؟ قال: نعم، قال: وإنما أوردنا هذا; لأن المختلعة عندهم طلاق بائن .

فصل:

قال أيضا: قول عمر - رضي الله عنه - يجمع ثلاث معان: أما سنة رسول الله فهي بيد فاطمة ونحن نشهد بشهادة الله أنه لم يكن عند عمر في ذلك سنة غير عموم سكنى المطلقة فقط، وأما ما رواه عنه النخعي فلا التفات إليه; لأن إبراهيم لم يولد إلا بعد وفاته بسنتين، وأما كتاب الله فقد بينه إذ أتى به -كما تقدم- فهو حجة قاطعة لفاطمة; لأن فيها لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [الطلاق: 1] قالت: فأي أمر يحدث بعد الثلاث.

وأما قوله: (لا ندري أحفظت أم نسيت). فإن ما أمكن من النسيان على فاطمة فهو ممكن على عمر - رضي الله عنه - كما نسي أمر اليتيم وشبهه.

وليس جواز النسيان مانعا من قبول رواية المعدل الذي افترض الله قبول روايته، ولو كان كذلك لوجب على أصول خصومنا ترك خبر الواحد جملة ورد شهادة كل شاهد في الإسلام بجواز نسيانه، وكذا القول في عمر لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ هم أول مخالف له. ولو لزم هذا في فاطمة للزم في غيرها.

قال: وأما حديث إبراهيم عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لها السكنى والنفقة" لو صح لما كانت فيه حجة; لأنه ليس فيه أن عمر

[ ص: 529 ] سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة، وقد يمكن أن يسمعه يقول: للمطلقة السكنى والنفقة. فيجعل ذلك على عمومه، وهذا لا يجوز; بل يجب استعمال ذلك مع حديث فاطمة ولا بد فيستثنى الأقل من الأكثر، ولا يجوز رد نص ثابت إلا بنص ثابت لا بمشكلات لا تصح ومحتملات لا بيان فيها .

وروى ابن عبد البر في "استذكاره" عن الشعبي أنه قيل له: إن عمر لم يصدق فاطمة فقال: ألا تصدق امرأة فقيهة نزل بها هذا الأمر .

وقول مروان بن الحكم في "صحيح مسلم": لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها .

قال ابن حزم: لو أن مروان مع هذا الورع حيث فعل ما فعل كان خيرا له، وفاطمة هذه من المهاجرات الأول، وخبرها هذا صحيح كالشمس، ولم نجد لأحد خلافه .

فصل:

زعم بعض الحنفيين أن قوله تعالى: في أسكنوهن الآية يتضمن الدلالة على وجوب نفقة المبتوتة من وجوه ثلاثة:

أحدها: أن السكنى لما كانت حقا في مال الزوج، وقد أوصاها الله بنص القرآن، فكانت الآية الكريمة قد تناولت المبتوتة والرجعية اقتضى ذلك وجوب النفقة; لأنها حق في مال.

[ ص: 530 ] ثانيها: أن المضارة تقع في النفقة كهي في السكنى.

ثالثها: إن التضييق قد يكون في النفقة أيضا، فعليه أن ينفق عليها ولا يضيق عليها فيها. وقوله تعالى: وإن كن أولات حمل [الطلاق: 6] انتظمت فيها المبتوتة والرجعية.

ثم لا تخلو هذه النفقة إما أن يكون وجوبها لأجل الحمل أو لأجل أنها محبوسة في بيته والأول باطل; لأنها لو كانت لأجل الحمل لوجب إذا كان للحمل مال أن ينفق عليه من ماله كما أن نفقة الصغير في مال نفسه، وأيضا كان يجب في الطلاق الرجعي نفقة الحامل إذا كان له مال في ماله لنفقته بعد الولادة.

وكان يجب أن تكون نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها في نصيب الحمل من الميراث، فلما اتفق الجميع على أن النفقة في مال الزوج بطل أن يكون وجوب النفقة لأجل الحمل، وتعين أن يكون لأجل أنها محبوسة، وهذه العلة موجودة في المبتوتة.

فإن قيل: فما فائدة تخصيص الحامل بالذكر في إيجاب النفقة; قيل له: قد دخلت فيه المطلقة الرجعية، ولم يمنع ذلك وجوب النفقة لغير الحامل، فكذلك في المبتوتة، وإنما ذكر الحمل; لأن مدته قد تطول وقد تقصر، فأراد إعلامنا بوجوب النفقة مع طول المدة التي هي في العادة أطول من مدة الحيض . وقال الطحاوي: أجمعوا أن قوله تعالى: لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا أن الأمر هو الرجعة ثم قال: أسكنوهن إلى قوله: ولا يخرجن يعني: في العدة، ولم يفرق تعالى بين المطلقة للسنة التي لا رجعة

[ ص: 531 ] عليها، وبين المطلقة للسنة التي عليها الرجعة، فلما روت فاطمة عن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما السكنى لمن له الرجعة عليها"، قال عمر: لا ندع كتاب ربنا; لأن روايتها مخالفة له وسنة نبينا يعني: ما أسلفنا من روايته، ولما روي أنها استطالت على أحمائها، فكانت سبب النقلة من جهتها كالناشز.

فصل:

نقل ابن التين عن مالك في قوله تعالى: لا تخرجوهن من بيوتهن أنه لكل مطلقة. قال: وقيل النساء اللواتي هن أزواج، راجع إلى قوله: وإذا طلقتم النساء ويدخل فيه من لم يبت طلاقها. قال قتادة: هو من لم تطلق ثلاثا خاصة.

واستدل بقوله تعالى: لعل الله يحدث وهو من جهة الترويج، هذا لا يكون للمبتوتات. قيل: لا يلزم ذلك لجواز أن يكون المعنى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا من النسخ، أو يكون على الخصوص لمن لم تبن.

فصل:

قال عكرمة: كان ابن عباس يقرأ في مصحف أبي (إلا أن يفحشن عليكم) ويقويه قول عائشة لفاطمة: (ألا تتقي الله). أي: فأنت تعلمي لم أخرجت، وهو معنى قولها في الباب: (أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث).

وقال بعضهم: كل فاحشة لم يذكر معها في القرآن (مبينة) فهي الزنا، فإن نعتت بها فهي: البذاءة في اللسان. وعن ابن عباس: الزنا وهو أن

[ ص: 532 ] ترى فتخرج فيقام عليها الحد. وهو قول زيد بن أسلم. وقال ابن عمر والضحاك: إنها خروجها من بيتها.

فصل:

نقل ابن التين أيضا عن مالك أن قوله أسكنوهن هو لكل مطلقة، وقيل: لغير من طلقت ثلاثا.

فصل:

والوجد في الآية -بالضم-: السعة. وقرأ الأعرج بالفتح قيل: هو لحن; لأن الوجد -بالضم-: الغنى، وبالفتح: الحزن والحب والعطف. والمراد بالتضييق عليهن في المسكن، قاله مجاهد .

فصل:

وقول عائشة - رضي الله عنها - لمروان: (اتق الله وارددها إلى بيتها). معناه: أنها أنكرت على مروان إخراج المطلقة من بيتها; حتى تتم عدتها.

وقول مروان (في) حديث سليمان: إن عبد الرحمن غلبني. أي: بالحجة; لأنه احتج بالشر الذي كان بينها، فكانت كفاطمة بنت قيس.

وفيه: موعظة الإمام وأنه إذا تبين له الحق فيما حكم فيه لا يرجع إلى قول غيره. وقول عائشة: (لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة) تقول: إنها خصت بعذر فاحتج مروان بالعذر وهو بذاءة اللسان موجود في هذين.

وقال ابن وضاح: إنما اعتدت في غيره; لأن البيت لم يكن لزوجها.

[ ص: 533 ] وقولها لفاطمة: (ألا تتقي الله). يعني: في قولها: لا سكنى ولا نفقة. قال الخطابي: وفي حديثها: أن لها السكنى. يريد: اعتدادها عند ابن أم مكتوم، ثم إنه ذهب عليها معرفة السبب في نقلها فتوهمت إبطال سكناها فقالت عند ذلك لم يجعل لي النفقة ولا السكنى، فكان إخبارها عند أحد الأمرين علما، وعن الآخر وهما، وهو السكنى وبين ذلك ابن المسيب أنها كانت لسنة استطالت على أحمائها -كما سلف- فنقلت لذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية