التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5041 5356 - حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول". [انظر: 1426 - فتح: 9 \ 500]


ذكر فيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول".

تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني. ويقول العبد: أطعمني واستعملني. ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟ فقالوا: يا أبا هريرة، هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة.


وحديثه أيضا: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول".

[ ص: 15 ] الشرح:

قد سلف في العليا والسفلى أقوال، وأن أصحها: العليا: المعطية، والسفلى: السائلة، وليس كل مسئول يكون أفضل من سائل; فقد سأل موسى والخضر أهل قرية أن يطعموهما، وقال - عليه السلام -: "هو لها صدقة ولنا هدية".

وقوله: (هذا من كيس أبي هريرة). أي: من قوله، يعني: تقول المرأة إلى آخره. وفي رواية للنسائي: فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: "امرأتك تقول: أطعمني وإلا فارقني". الحديث .

واحتج به من يرى الفسخ بالإعسار، وهو مالك والشافعي، خلافا لأبي حنيفة .

واختلف في الأجل في مقداره عند المالكية، هل هو شهر أو ثلاثة أيام ونحوها، إلا أن تكون تزوجته فقيرا تعلم حاله، فلا فسخ إذا .

وقد قال تعالى: ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن [الطلاق: 6]، وفي إمساكها، والحالة هذه ضرر، ولا شك أن النفقة في مقابلة الاستمتاع، بدليل النشوز، وكما أن لها مفارقته بالإيلاء والعنة، فكذا هنا.

وقوله: ("ما كان عن ظهر غنى") قيل: المعنى: ما ساق إلى المعطى غنى، وفيه نظر، بل المراد ما لم يجحف بالمعطي، أي: ما سهل عليه، يؤيده الحديث السالف: "أفضل الصدقة ما ترك غنى".

[ ص: 16 ] فصل:

ادعى المهلب الإجماع على أن نفقة الأهل والعيال واجبة، والحديث ظاهر فيه، وكذا قوله: "وابدأ بمن تعول" ولم يذكر إلا الصدقة، دل على أن نفقته على من يعول من أهل وولد محسوب له في الصدقة، وإنما أمرهم الله ببداءة الأهل، خشية أن يظنوا أن النفقة على الأهل لا أجر لهم فيها، فعرفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غيرها إلا بعد أن يقوتوهم .

فصل:

وقوله: ("ابدأ بمن تعول") إنما قاله; لأن حق نفس المرء عليه أعظم من حق كل أحد بعد الله. إذا صح ذلك، فلا وجه لصرف ما هو مضطر إليه إلى غيره، إذا كان ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه وأهله، وإنما له إحياء غيره بغير إهلاك نفسه وولده وأهله، إذا فرض عليه النفقة عليهم وليست النفقة على غيرهم فرضا عليه، ولا شك أن الفرض أولى لكل أحد من إيثار التطوع عليه.

فصل:

وفيه: أن النفقة على الولد ما داموا صغارا فرض عليه; لقوله (إلى من تدعني). وكذلك نفقة العبد والخادم (للمرأة) واجبة عليه قلت: وكذا يدل له "ابدأ بمن تعول" أيضا، بل أولى في الدلالة; لأنه من عياله.

[ ص: 17 ] فصل:

نفقة الزوجة ثابتة بالنصوص والإجماع، ومن النص: قوله - عليه السلام - يوم عرفة: "لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وقوله لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" .

فصل:

وقام الإجماع أيضا على أنه يجب عليه نفقة أولاده الأطفال لا مال لهم ولا كسب.

واختلفوا -كما قال ابن المنذر- في نفقة من بلغ منهم ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولد صلبه الذكور حتى يحتلموا، والنساء حتى يزوجهن ويدخل بهن، فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها، فلا نفقة لها على أبيها، وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها، ولا نفقة لولد الولد على الجد عند مالك .

وقالت طائفة: ينفق على ولده حتى يبلغ الحلم والمحيض، ثم لا نفقة عليه إلا أن (يكونوا) زمناء وسواء في ذلك الذكور والإناث; ما لم يكن لهم أموال، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا، ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم، وهو قول الشافعي، وقال الثوري: يجبر الرجل على نفقة ولده الصغائر والرجال، غلاما كان أو جارية، فإن كانوا كبارا أجبر على نفقة النساء، ولا يجبر على نفقة الرجال إلا أن يكونوا زمناء وأوجب [ ص: 18 ] طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد، على ظاهر حديث هند، ولم يستثن ولدا بالغا دون طفل .

قلت: هذه واقعة عين لا عموم لها، والعموم في الأفعال غير لازم. وقوله: (يقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني). يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف، ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك; لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها; بدليل قوله تعالى: [حتى إذا بلغوا النكاح] الآية [النساء: 6]، فجعل بلوغ النكاح حدا في ذلك.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إسقاط النفقة على أهل اليسار منهم، سقط بذلك نفقتهم، وكل مختلف فيه فمردود إلى قول الشارع .

وقال ابن حزم: يجبر على النفقة على ذوي رحمه المحرمة، إن كانوا فقراء، ولا عمل بأيديهم تقوم مؤنتهم منه، وهم الأعمام والعمات وإن علوا، والخالات والأخوال وإن علوا، وبنوا الإخوة وإن سفلوا، إلا الأبوين والأجداد والجدات والزوجات، فإنه يكلف أن يصونهم عن خسيس الكسب إن قدر على ذلك، ويباع عليه في كل ما ذكرناه ما به عنه غنى من عقار وعرض وحيوان، ولا يباع من ذلك ما إن بيع عليه هلك وضاع، قال: وقالت طائفة: لا يجبر أحد على نفقة أحد.

[ ص: 19 ] وقال الشعبي: ما رأيت أحدا أجبر أحدا على أحد. يعني: نفقته وقالت طائفة: لا ينفق أحد إلا على الوالد الأدنى، والأم التي ولدته من بطنها، ويجبر الرجل دون المرأة على النفقة على الولد الأدنى الذكر، حتى يبلغ فقط، وعلى الابنة الدنيا وإن بلغت، حتى يزوجها فقط، ولا تجبر الأم على نفقة ولدها وإن مات جوعا، وهي في غاية الغنى، وليس على الولد أن ينفق على زوجة أبيه ولا على أم ولده; إذ لم يوجب ذلك قرآن ولا سنة، إن عليه أن يقوم بمطعم أبيه وملبسه ومؤنة خدمته فقط .

فصل:

اختلف في المعسر، هل يفرق بينه وبين امرأته بعدم النفقة؟ فقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لزوجته الخيار بين أن تقيم عنده -ولا يكون لها شيء في ذمته أصلا- وبين أن تطلب الفراق، يفرق الحاكم بينهما .

قلت: عندنا أنها إذا صبرت صارت دينا عليه.

ونقله ابن التين عن عمر وعلي وأبي هريرة من الصحابة، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وقال: إن ذلك سنة.

قال ابن حزم: أما قول عمر فلا حجة لهم فيه; لأنه لم يخاطب بذلك إلا أغنياء قادرين على النفقة، وذلك أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ادعو فلانا وفلانا أناسا قد انقطعوا عن المدينة ورحلوا [ ص: 20 ] عنها، إما أن يرجعوا إلى نسائهم، وإما أن يبعثوا بنفقة إليهن، وإما أن يطلقوا ويبعثوا بنفقة ما مضى. رويناه من طريق عبد (الرزاق) ، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره .

ورواه الشافعي فيما ذكره الحاكم في "فضائله" بلفظ: فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن (طلقوا) بعثوا بنفقة ما حبسوا. رواه عن مسلم ، عن عبيد الله، عن نافع ، وليس فيه حكم المعسر، بل قد صح عنه إسقاط المرأة للنفقة إذا أعسر بها الزوج.

وعن ابن المسيب قولان: أحدهما: يجبر على مفارقتها، والثاني: يفرق بينهما، وهما مختلفان، فأيهما السنة؟ وأيهما كان السنة فالآخر خلافها؟ ولم يقل سعيد: إنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحتى لو قاله لكان مرسلا لا حجة فيه، فكيف وإنما أراد بلا شك أنه سنة من دونه - عليه السلام -، لعله أراد بما تقدم عن عمر . وقال الشافعي، فيما ذكره الحاكم في "فضائله": الذي يشبه أن يكون سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقالت طائفة: لا يفرق بينهما، وتلزم الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم. هذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون.

[ ص: 21 ] وعبارة ابن حزم: وقالت طائفة: يطلقها عليه الحاكم. ثم اختلفوا، فقال مالك: يؤجل في عدم النفقة شهرا أو نحوه، فإن انقضى وهي حائض أخر حتى تطهر، وفي الصداق عامين، ثم يطلقها عليه الحاكم طلقة رجعية، فإن أيسر في العدة فله ارتجاعها . وفي "الإشراف"، عن حماد بن أبي سليمان: يؤجل سنة. وعن عمر بن عبد العزيز: شهرا أو شهرين. وقال الشافعي: لا يؤجل أكثر من ثلاث .

وقالت طائفة: لا يؤجل إلا يوما واحدا، ثم يطلقها الحاكم عليه، وممن روينا نحو هذا عنه: سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن سعيد، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، قال: وأما الرواية عن سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز في تأجيل شهر أو شهرين فساقطة جدا; لأنها من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الجبار بن عمر، وكلاهما لا شيء .

واحتج الشافعيون على أصحاب مالك بقولهم: إذا كلفتموها صبر شهر; ولا سبيل إلى صبر شهر بلا أكل، فأي فرق بين ذلك وبين تكليفها الصبر أبدا؟

قال ابن حزم: يقال له: إذا طلقتموها عليه وكلفتموها العدة -وربما كانت أشهرا- فقد كلفتموها الصبر بلا نفقة مدة لا حياة معها بلا أكل.

وقالوا للحنفي: قد اتفقنا على التفريق بين من (عن) عن امرأته وبينها بضرر فقد الجماع، فضرر فقد النفقة أشد. أجاب الحنفيون بأنا اتفقنا [ ص: 22 ] نحن وأنتم على أنه إذا وطئها مرة فأكثر ثم أعسر بنفقتها، فيلزمكم ألا تفرقوا بينهما.

وقالت طائفة كقولنا، كما روينا من طريق مسلم، عن جابر رضي الله عنه قال: دخل عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وقال: "هن حولي يسألنني النفقة" فقام أبو بكر - رضي الله عنه - إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر - رضي الله عنه - إلى حفصة يجأ عنقها، وكلاهما يقول: ويحكن تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأله شيئا أبدا ما ليس عنده .

قال ابن حزم: إنما أوردنا هذا لما فيه عن أبي بكر وعمر وابنتيهما، ومن المحال المتيقن أن يضربا طالبة حق بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال عطاء، وسئل عمن لم يجد ما يصلح امرأته من النفقة: ليس لها إلا ما وجدت، وليس لها أن يطلقها.

وقال الحسن: تواسيه، وتتقي الله، وتصبر، وينفق عليها ما استطاع.

وسئل ابن شهاب عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته يفرق بينهما؟ قال: تستأنى، ولا يفرق بينهما، وتلا لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا [الطلاق: 7].

قال معمر: وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مثل قول الزهري سواء، ومن طريق عبد الرزاق، عن سفيان بن سعيد، في المرأة يعسر زوجها بنفقتها، قال: هي امرأته ابتليت فلتصبر، ولا نأخذ بقول من فرق [ ص: 23 ] بينهما ، وهو قول ابن شبرمة، وأبي حنيفة، قال: تتعلق النفقة بذمته إذا حكم بينهما حاكم، وأبي سليمان وأصحابهم.

بيان صحة قولنا قول الله تعالى: لينفق ذو سعة من سعته الآية [الطلاق: 7]، وقوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [البقرة: 286].

فمن قدر على بعض النفقة والكسوة، سواء قل ما يقدر عليه أو كثر، فالواجب أن يقضى عليه بما قدر، وأسقط عنه ما لا يقدر، فإن لم يقدر على شيء من ذلك سقط عنه، ولم يجب أن يقضى عليه بشيء، فإن أيسر بعد ذلك قضي عليه من حين يوسر، ولا يقضى عليه بشيء بما أنفقته على نفسها مدة عسره، وهذا بخلاف ما وجب لها من نفقة أو كسوة يمنعها إياها وهو قادر عليهما، فهذا يؤخذ به أبدا، أعسر بعد ذلك أو لم يعسر; لأنه قد كلفه الله إياه وهو واجب عليه فلا يسقط عنه إعساره، لكن الإعسار يوجب أن ينظره إلى الميسرة فقط، ولو أن الزوج يمنعها النفقة والكسوة أو الصداق ظلما، أو لأنه فقير لا يقدر، لم يجز لها منع نفسها منه من أصل ذلك، فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية كلفت النفقة عليه، ولا يرجع عليه بشيء من ذلك إن أيسر، إلا أن يكون عبدا، فنفقته على سيده; لأن الزوجة وارثة، فعليها نفقته بنص القرآن.

وقال عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة: إذا لم يقدر الزوج على النفقة يسجن، ولا يطلق، ولا آمره بطلاقها، إذا عجز يحبس أبدا .

[ ص: 24 ] فصل:

قال ابن حزم: ولا يلزمه لها حلي ولا طيب، فإن منعها النفقة والكسوة وهو قادر عليهما، سواء أكان حاضرا أو غائبا، هو دين في ذمته، يؤخذ منه أبدا، ويقضى لها به في حياته، وبعد موته من رأس ماله، يضرب به مع الغرماء، وليس عليه أن ينفق على خادمها، ولو أنه ابن الخليفة وهي بنت الخليفة، إنما عليه أن يقوم لها بمن يأتيها بالطعام والماء غدوة وعشية، وبمن يكفيها جميع العمل من الكنس والفرش، وإنما تجب لها النفقة مياومة، فإن أخرها أدب، وإن عجلها ثم طلقها بائنا وعندها فطر يوم أو غداء أو عشاء قضي عليها برده إليه، وإن ماتت كان مأخوذا من رأس مالها .

فصل:

من حجج من قال: لا تفريق، الآية السالفة وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة [البقرة:280] فوجب أن ينظر إلى أن يوسر. وبقوله: وأنكحوا الأيامى منكم [النور: 32] إلى قوله إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [النور: 32] فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح، واحتج عليهم من قال بالتفريق بحديث الباب، وهو نص قاطع في موضع الخلاف، وهو قولها: (إما أن تطعمني، وإما أن تطلقني). وقالوا أيضا: المراد بالآية الثانية الفقير التي حالته منحطة عن حالة الغني، لا الفقير الذي لا شيء معه أصلا، بدليل أنه ندبه إلى النكاح، وأجمعوا أنه من لا يقدر على نفقة الزوجة غير مندوب إلى النكاح، وأما الآية الأولى [ ص: 25 ] فإنما وردت في المداينات التي تتعلق بالذمم، واحتجوا بقوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [البقرة: 231] وإذا لم ينفق عليها فهو مضر بها، فوجب عليه الفراق إن طلبته. قال الكوفيون: لو كان ذلك هنا واجبا لم يجب الإمساك وإن رضيته. فيقال لهم: قامت دلالة الإجماع على جواز إمساكهن إذا رضين بذلك، وأما الإعسار فلو أعسر بنفقة خادم أو حيوان له فإن ذلك يزيل ملكه عنه ويباع عليه، فكذلك الزوجة، وأيضا فالعنين يجبر على طلاق زوجته إذا لم يطأ، والوطء لمدة يمكن الصبر على فقدها، ويقوم بدنها بعدمها، بخلاف القوت كما سلف، فكانت الفرقة عند عدم النفقة.

فصل:

اختلفوا -كما قال ابن المنذر- في السائل يتزوج وهي تعلم أن مثله لا يجزئ النفقة، فقال مالك: لا أرى لها قولا بعد ذلك وقال الشافعي: يفرق بينهما إذا سألت ذلك - فإن فرق الإمام بينهما تكون تطليقة، وهو أحق بها إن أيسر ما دامت في العدة. قال الشافعي: تكون فرقة بلا طلاق، ولا يملك رجعتها. قال ابن المنذر: تكون انقطاعا للعصمة من غير طلاق، وتكون فيه الرجعة .

فروع:

قال مالك والشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد: تباع العروض في نفقة الزوجة.

قال أبو حنيفة: النفقة في ماله في الدنانير والدراهم، ولا يباع من عروضه شيء إلا برضاه.

[ ص: 26 ] وعن الشعبي أنه فرض لامرأة (في قوتها) خمسة عشر صاعا بالحجازي، ودرهمين لدهنها وحاجتها في كل شهر .

وقال أصحاب الرأي: يفرض لامرأة المعسر في كل شهر بكذا. قال أبو بكر: لو جاز أن يفرض لشهر تقبضه في أول الشهر لجاز أن يفرض لسنة وتقبضه في أول السنة.

والصحيح من ذلك ما ذهب إليه الشافعي أن ينفق عليها يوما بيوم، فإن مرضت مرضا شديدا لا يقدر معه على إتيانها كانت عليه نفقتها -هذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي- فإذا قالت امرأة الرجل: هو موسر، (فأفرضوا) على قدر ذلك. فقال هو: أنا معسر. فالقول قوله مع يمينه، فإذا قامت البينة على ما يدعي أخذ بما قال، هذا قول الحنفيين والشافعي وأبي ثور.

فإذا كان للرجل على المرأة دين فقال: (احسبوا من مالي عليها) . وجب ذلك، وقاضها به في قول أصحاب الرأي، وقال أبو ثور فيها قولان: الأول: ما أسلفناه، والثاني: يترك إلى أن يوسر. وإذا كان على الزوج صداق ونفقة فدفع شيئا، فاختلفا فيما دفع، فقال الزوج: من المهر. وقالت: من النفقة. فالقول قول الزوج مع يمينه، في قول الشافعي وأصحاب الرأي وأبي ثور، فإن اختلفا في النفقة، فقال الزوج: دفعتها إليها. وأنكرت، قال الشافعي وأبو ثور: القول قولها مع يمينها.

[ ص: 27 ] وقال أصحاب الرأي: إذا قال الزوج: قضى علي القاضي منذ شهر وإنما لك نفقة شهر. فقالت: قضى لي بنفقة ثلاثة أشهر. فالقول في ذلك قوله مع يمينه، وعليها البينة. وقال مالك: القول قوله إذا كان مقيما، فإن كان غائبا فالقول قولها من يوم رفعت أمرها إلى السلطان، فإن بعث لها الزوج بقوت فقال: هو من الكسوة. وقالت: بل هو هبة. فالقول قوله مع يمينه، في قول الشافعي وأصحاب الرأي وأبي ثور ، وكان أبو حنيفة والشافعي يوجبان على الذمي نفقة زوجته الذمية إذا أسلمت وهي حامل، حتى تضع وأجر الرضاع .

التالي السابق


الخدمات العلمية