التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5167 5485 - وقال عبد الأعلى: عن داود، عن عامر، عن عدي أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يرمي الصيد فيقتفر أثره اليومين والثلاثة، ثم يجده ميتا وفيه سهمه. قال: "يأكل إن شاء". [انظر: 175 - مسلم: 1929 - فتح:9 \ 610].


ذكر فيه حديث عاصم عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أرسلت كلبك وسميت فأمسك وقتل، فكل، وإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيها قتل، وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك، فكل، وإن وقع في الماء فلا تأكل". وقد سلف.

وقال عبد الأعلى: عن داود، عن عامر، عن عدي، به. قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة، ثم يجده ميتا، وفيه: قال: "يأكل إن شاء".

هذا أسنده أبو داود، عن الحسين بن معاذ، عن عبد الأعلى، وعن ابن مثنى، عن عبد الوهاب كلاهما عن داود .

[ ص: 370 ] واختلف العلماء في الصيد يغيب عن صاحبه، فقال الأوزاعي: إذا وجد من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا من كلبه فليأكله ، وهو قول أشهب وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ قالوا: إذا مات ما نفذت الجوارح أو السهم مقاتله ولم يشك في ذلك فليؤكل ، وروي عن مالك -فيما حكاه ابن القصار- والمعروف عنه خلافه، قال أصبغ: بخلاف الكلب والباز.

قال في "الموطأ" و"المدونة": لا بأس بأكل الصيد وإن غاب عنه مصرعه، إذا وجدت به أثرا من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت فإذا بات لم يؤكل. وروي عنه الأخذ بظاهر هذا الحديث وبحديث أبي ثعلبة: "فكله بعد ثلاث ما لم ينتن" وسوى فيه بين السهم والكلب.

وعنه: لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب عنك، وعنه الفرق بين السهم فيؤكل وبين الكلب فلا يؤكل .

وقال ابن التين : فيه ثلاث روايات في الكلب والبازي إذا بات ووجد منفذ المقاتل: يؤكل، لا يؤكل، الفرق بين ما صيد بسهم فيؤكل أو بجارح فلا. وفي رابع: يكره فيهما، قال في رواية ابن القصار: كان صاحب مطلبه أم لا.

وقال أبو حنيفة: إذا توارى عنه الصيد والكلب وطلبه فوجده قد قتله جاز أكله، وإن ترك الكلب الطلب واشتغل بعمل غيره، ثم ذهب في طلبه فوجده مقتولا والكلب عنده كرهت أكله ; دليله حديث داود، عن

[ ص: 371 ] الشعبي السالف: (فيقفو أثره) وقال الشافعي: إنه لا يأكله إذا غاب عنه; لاحتمال أن يكون غيره قتله، وقال ابن عباس: كل ما أصميت ودع ما أنميت ، قال أبو عبيد: [الإصماء] أن يرميه فيموت بين يديه لم يغب عنه، والإنماء أن يغيب عنه فيجده ميتا .

احتج لأهل المقالة الأولى الذين وافقوا حديث عدي، وقالوا: إنه - عليه السلام - أجاز أكله بعد يومين وثلاثة إذا وجد فيه أثر سهمه، ألا ترى أنه - عليه السلام - بين له ما يحل له أكله بشرط إذا وجد فيه أثر سهمه أو سهمه، وهو يعلم أنه قتله فإذا عدم الشرط لم يحل.

واحتج الكوفيون بحديث عدي المذكور معلقا. فيقال لهم: قد جاء حديث (عدي) في أول الباب، وفيه: "فكل" ولم يذكر الاتباع فيستعمل الجميع، فيجوز أن يؤكل وإن لم يتبعه إذا كان فيه سهمه ولا أثر فيه غيره، ويستعمل خبركم إذا شاهده قد أنفذ مقاتله ثم غاب الصيد عنه ثم وجده على حاله مقتولا، واستعمال الأخبار أولى من إسقاط بعضها، وأما قولهم: إذا لم يتبعه لم يأمن أن يكون قد صار مقدورا عليه، فإننا نقول: هذا حكم بشيء مظنون وإنما يجوز أكله إذا لم ير فيه (أثرا غير كون سهمه فيه) ، ولو روعي هذا الذي ذكروه لوجب أن يتوقف عن كل صيد; لأنه يجوز أن يكون (مات) خوفا

[ ص: 372 ] وفزعا وإن شاهدناه واتبعناه، وإن وجدنا السهم فيه ولا أثر فيه غيره، فالظاهر أنه مات منه.

وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مر بالروحاء فإذا هو بوحش عقير فيه سهم قد مات. فقال - عليه السلام -: "دعوه حتى يجيء صاحبه" فجاء البهزي فقال: يا رسول الله، هي رميتي. فأمره أن يقسمه بين الرفقة وهم محرمون ، فلو كان الحكم يختلف بين أن يتبعه حتى يجده أو يشتغل عنه ثم يطلبه ويجده; لاستفسر الشارع فلما لم (يسكت) عن ذلك وقال: "دعوه حتى يجيء صاحبه" ولم يزد: هل كان يتبعه؟ علم أن الحكم لا يختلف، والحجة لقول مالك فيما مضى ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن الرجل يرمي الصيد فيجد فيه سهمه من الغد، قال: لو أعلم أن سهمك قتله لأمرتك بأكله ولكن لا أدري قتله برد أو غيره، وفي حديث آخر عنه: وما غاب عنك ليلة فلا تأكله .

قال ابن القصار من المالكية: وهو عندي على الكراهة.

وقوله: ("يأكل إن شاء") فيه دليل لأبي حنيفة أنه إن لم يتبعه لا يأكل، وقال محمد: إذا وجده وقد أنفذت مقاتله وكان رماه بسهم أكل، وإن كان بكلب أو باز لم يؤكل.

فصل:

قوله: (فيقتفي أثره). أي: يتبعه، وفي رواية أبي ذر: فيقتفر

[ ص: 373 ] معناه: يتبع أيها، وكذلك تقفرت واقتصر ابن بطال على رواية: فيقتفر، ثم قال: واقتفوت الأثر: اتبعته.

فصل:

أخرج مسلم من حديث أبي ثعلبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكل ما لم ينتن". وفي رواية في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: "فكله ما لم ينتن فدعه" .

وأما ابن حزم فقال: لا يصح -كما سيأتي- لأنه من طريق معاوية بن صالح ، وقال مرة: إنه ليس بالقوي . قلت: أخرج له مسلم هذا الحديث، ووثقه أحمد وابن مهدي وابن سعد وأبو زرعة والعجلي والبزار ويحيى بن معين وابن حبان وابن شاهين وغيرهم، نعم كان ابن سعيد لا يرضاه .

واختلف في تأويل قوله: "ما لم ينتن" فمنهم من قال: إذا أنتن لحق بالمستقذر الذي تمجه الطباع فلو أكله جاز، كما جاء أنه أكل إهالة سنخة ، قال بعضهم أي: منتنة. ومنهم من قال: هو معلل بما يخاف منه من الضرر على آكله وعلى هذا يكون أكله محرما إن كان الخوف محققا.

[ ص: 374 ] فصل:

قوله: ("وإن وقع في الماء فلا تأكل") هذا محمله على الشك المحقق في السبب القاتل للصيد، والشك تردد بين مجوزين لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فما كان كذلك لم يؤكل وأما إذا تحقق أن سهمه أنفذ مقاتله قبل وقوعه في الماء أو شبهه، فمذهب الجمهور: أكله.

وروى ابن وهب فيما ذكره عن مالك كراهته، وعنه إذا سقط في الماء أو وقع من أعلى جبل بعد إنفاذ مقاتله أكل وقبل إنفاذها لا ، وعن أبي حنيفة والشافعي: [عدم] أكله على كل حال ذكره ابن التين وزعم بعض الحنفية أنه إذا رماه فأدماه ثم نزع الخف وخاض في الماء فوجده ميتا وكان محال لو خاض فيه متخففا لوجده حيا يحل . ذكره في "المحيط". وقال القاضي بديع: لا يحل.

ولو رماه في الهواء فلم يصبه فلما عاد السهم إلى الأرض فأصاب صيدا يحل لبقاء فعله، ولهذا لو أصاب إنسانا حالة العود أو مالا يضمن.

فصل:

قال ابن حزم: وسواء أنتن أو لم ينتن، ولا يصح الأثر الذي فيه في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: "فكله ما لم ينتن"; لأنه من طريق معاوية بن صالح (ولا) الخبر الذي فيه: "فإن تغيب عنك فلم يصل" ; لأنه من

[ ص: 375 ] حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ولا الأثر الذي فيه: كل ما أصميت ولا تأكل ما أنميت، وتفسير الإصماء: أن تقعصه، والإنماء: أن يستقل بسهمه حتى يغيب عنه [فيجده] بعد ذلك ميتا، يوما أو نحوه. كذا روينا تفسيره عن ابن عباس لأن راوي المسند في ذلك محمد بن سليمان بن مسمول وهو منكر الحديث -قلت: قد وثقه يحيى بن معين وذكره ابن حبان في "ثقاته" عن عمرو بن تميم، عن أبيه وهو منكر الحديث. قلت: ذكره ابن حبان في "ثقاته" وترجم له البخاري وابن أبي حاتم . قال: وأبوه مجهول، ولا الخبر الذي فيه أن رجلا قال: يا رسول الله، رميت صيدا فتغيب عني أياما فقال - عليه السلام -: "إن هوام الأرض كثيرة" لأنه مرسل، ولا الخبر الذي فيه قال - عليه السلام -: "لو أعلم أنه لم (يعن على) قتله دواب الغار لأمرتك بأكله"; لأنه مرسل، وفيه الحارث بن نبهان وهو ضعيف .

قلت: بل منكر الحديث كما قاله البخاري وغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية