التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5230 [ ص: 605 ] 5 - باب: من قال: الأضحى يوم النحر

5550 - حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، أي شهر هذا". قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذا الحجة؟". قلنا: بلى. قال: "أي بلد هذا؟". قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس البلدة؟". قلنا: بلى. قال: "فأي يوم هذا؟". قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟". قلنا: بلى. قال: "فإن دماءكم وأموالكم -قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم- عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه- وكان محمد إذا ذكره قال: صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: - ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ ". [انظر: 67 - مسلم: 1679 - فتح: 10 \ 7]


ذكر فيه حديث أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". الحديث بطوله، وقد سلف في الحج ، وفيه: "أليس يوم النحر" قالوا: بلى.

و (ابن أبي بكرة) اسمه عبد الرحمن أول مولود ولد بالبصرة، وأبو بكرة سلف غير مرة أن اسمه نفيع بن مسروح.

[ ص: 606 ] واختلف العلماء في أيام الأضحى مع إجماعهم، كما قال ابن عبد البر في "استذكاره" : إن الأضحى بعد انسلاخ ذي الحجة على أقوال:

أحدها: يوم النحر ويومان بعده، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس ذكره ابن القصار، وذكره ابن وهب عن ابن مسعود، وعبارة ابن حزم في إيراد أثر علي: النحر ثلاثة أيام أفضلها أولها.

ثانيها: كذلك وزيادة يوم آخر فصارت أربعة، وهو قول عطاء والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأبي ثور، وروي ذلك عن علي وابن عباس قالا: أيام النحر: الأيام المعلومات.

وعبارة ابن حزم عن ابن عباس: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ثم قال: كذا في كتابي، ولا أدري لعله وهم .

قال ابن بطال : وهو اختلاف من قولهما . وقال عطاء: النحر أربعة أيام إلى آخر أيام التشريق. وفي رواية: النحر ما دامت الفساطيط بمنى. وقال الحسن: النحر يوم النحر وثلاثة أيام بعده، حكى هذا كله ابن حزم، ثم قال: وعن الزهري فيمن نسي أن يضحي يوم النحر: لا بأس أن يضحي أيام التشريق، قال: وقال عمر بن عبد العزيز: الأضحى أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده .

[ ص: 607 ] قال ابن بطال : وليس عن الصحابة غير هذين القولين، وبهما قال أئمة الفتوى وللتابعين فيها شذوذ نذكره .

وكذا قال ابن عبد البر في "استذكاره": لا يصح عندي في هذه المسألة إلا قولان: الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومالك، والذي ذهب إليه الشافعي لأنهما رويا عن جماعة من الصحابة .

ثالثها: يوم واحد وهو يوم النحر، وهو قول ابن سيرين وعليه ترجم البخاري، وحكاه ابن حزم عن حميد بن عبد الرحمن أنه كان لا يرى النحر إلا يوم النحر، وهو قول أبي سليمان .

رابعها: يوم واحد في الأمصار، وفي منى ثلاثة أيام، وهو قول سعيد بن جبير وجابر بن زيد.

خامسها: يوم النحر وستة أيام بعده وهو قول قتادة.

سادسها: عشرة أيام حكاه ابن التين .

سابعها: وهو أغربها أنه إلى آخر يوم من ذي الحجة، روي عن الحسن البصري، قال ابن التين : ويؤثر عن عمر بن عبد العزيز أيضا، ونقله ابن حزم عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن قال: الأضحى إلى هلال المحرم لمن استأنى بذلك .

وهذه الأقوال لا أصل لها في السنة ولا في أقوال الصحابة، كما قال ابن بطال : وليس استدلال من استدل من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أليس يوم

[ ص: 608 ] النحر" لا يكون نحر ولا ذبح في غيره بشيء; لأن النحر في أيام منى، قد نقله الخلف عن السلف وجرى عليه العمل في جميع الأمصار فلا حجة مع من خالفه .

وفي "صحيح أبي حاتم بن حبان" من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " (كل) فجاج مكة منحر وفي كل أيام التشريق ذبح" .

قال صاحب "الاستذكار": أخرجه ابن أبي حسين، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، رواه عنه سليمان بن موسى، واختلف عليه في إسناده فروي عنه متصلا ومنقطعا، واضطرب عليه أيضا في ابن أبي حسين، وروي من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعا لكن قال فيه أبو حاتم: إنه موضوع، وأخرجه أبو الشيخ من حديث جبير كما سلف، ومن حديث حجاج، عن الزهري، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعا "منى كلها منحر"، وعن جابر مثله، وكان مالك لا يرى لأحد أن يضحي بليل.

واحتج بقوله تعالى: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [الحج: 28] قال: فذكر الأيام دون الليالي، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا بأس بالذبح ليلا في أيام النحر لأن الله تعالى إذا ذكر الأيام فالليالي تبع لها، وإذا ذكر الليالي فالأيام تبع لها، وبه قال أشهب وإسحاق وأبو ثور .

وأجمعوا أنه لا يجوز أن يضحي قبل طلوع الفجر يوم العيد، وقد

[ ص: 609 ] سلف في صلاة العيد. اختلف العلماء في الأيام المعلومات والمعدودات.

وأما ابن حزم فقال: التضحية جائزة من طلوع الشمس يوم النحر إلى أن يهل هلال المحرم ليلا ونهارا إذ لم يخص تعالى وقتا دون وقت ولا رسوله فلا يجوز تخصيص وقت بغير نص; لأن التقرب إلى الله تعالى بالتضحية حسن ما لم يمنع منه نص أو إجماع، ولا نص في ذلك ولا إجماع إلى آخر ذي الحجة . ثم نقل عن مالك بن أنس الأضحى إلى آخر يوم من ذي الحجة.

قال ابن حزم: وروينا عن مجاهد عن مالك بن ماعز أو عكسه الثقفي أن أباه سمع عمر يقول: إنما النحر في هذه الثلاثة الأيام، وكذا قاله ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأنس بن مالك، وبه يقول أبو حنيفة ومالك ولا يصح شيء من هذا كله، أما طريق عمر ففيها مجهولان. وطريق علي، فمن حديث ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ عن المنهال وهو متكلم فيه .

قلت: هو من رجال البخاري -قال الحاكم: ومسلم- وقال العجلي وابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان وابن شاهين في "الثقات"، وقال الدارقطني: صدوق .

قال: وطريق ابن عباس فيها أبو حمزة وهو ضعيف. قلت: لعله أبو جمرة، وقد أثنى عليه غير واحد.

[ ص: 610 ] وطريق ابن عمر فيها إسماعيل بن عياش، وعبد الله بن نافع، وكلاهما ضعيف، وطريق أبي هريرة فيها معاوية بن صالح وليس بالقوي عن أبي مريم وهو مجهول .

قلت: لا، فقد روى عنه مع معاوية، يحيى بن أبي عمرو الشيباني.

وقال أحمد: قالوا لي بحمص هو معروف عندنا ثم أحسنوا الثناء عليه، ويذكرون أنه كان قائما بشأن مسجدهم وأنه وفد على عمر بن عبد العزيز.

وقال العجلي: مدني ثقة. وفي "تاريخ أبي زرعة" ويعرف بصاحب القناديل، وكان خالد بن الوليد أسره بالمسجد. وقيل: هو مولى أبي هريرة، وقال ابن أبي حاتم: اسمه عبد الرحمن بن ماعز الأنصاري.

قلت: ومعاوية بن صالح وثقه ابن مهدي والعجلي والنسائي وأبو زرعة ويحيى بن معين وابن سعد وابن حبان والبزار وابن شاهين، وذكر ابن حيان صاحب "تاريخ الأندلس" أن مالكا روى عنه وناهيك بهذا جلالة ونبلا.

قال ابن حزم: أما من قال: إنه يوم النحر وحده. قال: إنه مجمع عليه وما عداه مختلف فيه ولا توجد شريعة باختلاف لا نص فيه، وأما من قال بقول أبي حنيفة ومالك فإنهم يضحوا، فإنه روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف، قالوا: ومثل هذا لا يقال بالرأي.

قال ابن حزم: إن كان هذا إجماعا فقد خالف فيه عطاء والحسن والزهري وعمر بن عبد العزيز وأبو سلمة وسليمان بن يسار وأف لكل إجماع يخرج عنه هؤلاء.

[ ص: 611 ] قلت: مذهبك أن الإجماع إجماع الصحابة فكيف تلزم باحتجاج التابعين- وقد روينا عن ابن عباس ما يدل على خلافه لهذا القول .

وقال أبو عمر: اختلف في ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر، فروي عنهم ما ذكر أحمد في الأضحى ثلاثة أيام عن غير واحد من الصحابة، وروي عنهم: الأضحى أربعة أيام: (يوم النحر) وأيام التشريق كلها، ولم يختلف عن أبي هريرة وأنس في أن الأضحى ثلاثة أيام .

قال: وقد روينا خبرا صحيحا يلزم القائل بالمرسل اتباعه -ومعاذ الله أن نحتج بمرسل- قال أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأضحى إلى هلال المحرم" .

فصل:

قوله: ("إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض")، قال أبو عبيد: يقال إن بدء ذلك كان والله أعلم أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم، وهذا هو النسيء الذي قال الله فيه: إنما النسيء زيادة في الكفر [التوبة: 37] الآية، وكان ذلك في كتابه، والنسيء: هو التأخير، ومنه قيل: بعت الشيء نسيئة، فكانوا يحرمون صفر يريدون به المحرم ويقولون: هو أحد

[ ص: 612 ] الصفرين، قال: وقد تأول بعض الناس في قوله: "ولا صفر" على هذا، ثم يحتاجون أيضا إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده لحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك، فكذلك تتدافع شهرا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها فقام الإسلام، وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله تعالى به، وذلك بعد دهر طويل.

وزعم بعض الناس أنهم كانوا يستعجلون المحرم عاما فإذا كان قابل ردوه إلى تحريمه والتفسير الأول أحب إلي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" وليس في التفسير الأخير استدارة، وعلى هذا الذي فسرناه يكون قوله تعالى: يحلونه عاما ويحرمونه عاما [التوبة: 37] مصدقا له لأنهم إذا حرموا في العام المحرم وفي قابل صفر، ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضا أحلوه وحرموا الذي بعده، فهذا تأويل قوله تعالى: يحلونه عاما ويحرمونه عاما .

قال أبو عبيد: وفي هذا تفسير آخر يقال إنه في الحج حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى: ولا جدال [البقرة: 197] قال: قد استقر الحج في ذي الحجة لا جدال فيه وفي غير حديث سفيان يروى عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كانت العرب في الجاهلية يحجون عامين في ذي القعدة وعامين في ذي الحجة فلما كانت السنة التي حج فيها أبو بكر - رضي الله عنه - قبل حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الحج في السنة الثانية (من) ذي القعدة، فلما كانت السنة التي حج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في العام المقبل عاد الحج

[ ص: 613 ] إلى ذي الحجة .

وقال ثابت بن حزم: روى سفيان بن حسن قال: حدثني أبو بشر عن مجاهد قال: حج أبو بكر في ذي الحجة.

فصل:

ذكر ثابت في "غريب الحديث" حديث أبي بكرة وقال فيه: "أليس البلدة" بفتح اللام. قال: ومنى أيضا يسمونها البلدة وقد ذكر الله تعالى مكة في كتابه فقال: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة [النمل: 91] بإسكان اللام فلا أعرف ما قال ثابت إلا أن تكون لغة العرب أيضا بفتح اللام.

فصل:

معنى قوله: ("أليس يوم النحر") أي: يوم تنحر فيه الأضاحي في سائر الأقطار والهدايا بمنى.

وقوله: (قال محمد: وأحسبه قال: "وأعراضكم")، محمد هو ابن سيرين.

وقوله: ("أوعى له من بعض من سمعه") كذا هو أوعى، وفي رواية: أرعى، قيل: وهو الأشبه; لأن المقصود الرعاية له والامتثال، ويحتمل أن يريد بأوعى: أحفظ للقيام وبحدوده عاملا به.

وقوله: ("ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان") قال الداودي: هو تأكيد، وقال بكر بن العلاء: إنما قال ذلك; لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبا، وكان مضر تحرم رجبا نفسه; فلذا قال: "الذي بين جمادى وشعبان".

[ ص: 614 ] وقوله: "منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر" كذا عدها من سنين، وفيه خلاف سلف في موضعه، وحكى ابن قتيبة عن قوم أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهو عجيب من إنكارهم رجبا.

التالي السابق


الخدمات العلمية