1. الرئيسية
  2. التوضيح لشرح الجامع الصحيح
  3. كتاب الأشربة
  4. قول الله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون

التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5256 5578 - حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن المسيب يقولان: قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يزني [الزاني] حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن أبا بكر كان يحدثه عن أبي هريرة، ثم يقول: كان أبو بكر يلحق معهن: "ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن". [انظر: 2475 - مسلم: 57 - فتح 10 \ 35]


ثم ساق فيه أربعة أحاديث:

أحدها:

حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة".

ثانيها:

حديث شعيب عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما، ثم أخذ اللبن، فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، ولو أخذت الخمر غوت أمتك.

تابعه معمر وابن الهادي وعثمان بن عمر والزبيدي عن الزهري .

قلت: وابن الهادي هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي، والزبيدي محمد بن الوليد.

ثالثها:

حديث أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا لا يحدثكم به

[ ص: 11 ] غيري قال: "من أشراط الساعة أن يظهر الجهل، ويقل العلم، ويظهر الزنا، وتشرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيمهن رجل واحد".

رابعها:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزني [الزاني] حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن أبا بكر كان يحدثه عن أبي هريرة ، ثم يقول: كان أبو بكر يلحق معهن: "ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن".

الشرح:

متابعة معمر أخرجها البخاري في أحاديث الأنبياء مسندة .

ومتابعة ابن الهادي، قال الحاكم: أراد حديث ابن الهادي، عن عبد الوهاب بن بخت، عن الزهري ، قلت: وهي في النسائي .

[ ص: 12 ] ومتابعة الزبيدي أخرجها أيضا عن كثير بن عبيد المذحجي ومحمد بن صدقة، عن محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري .

وأخرجه ابن حبان، عن محمد بن عبيد الله، عن كثير بن عبيد، عن ابن حرب .

وأخرجه البخاري في التفسير عن أحمد بن صالح، عن عنبسة بن خالد، عن يونس .

[ ص: 13 ] ومتابعة عثمان بن عمر أراد بها روايته عن يونس بن يزيد، عن الزهري ، كما قاله الحاكم وغيره ، وقد سلف في الإسراء طرف من هذا، وأنه أتي بثلاثة أقداح .

وحديث ابن عمر أخرجه مالك، عن نافع، ووقفه على عبد الله ، والبخاري أخرجه من طريقه عنه، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، وأخرجه مسلم والنسائي .

وله طريق آخر عن ابن عمر أخرجه ابن أبي عاصم من حديث يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد عنه مرفوعا: "من شرب الخمر فجعلها في بطنه لم تقبل له صلاة سبعا، إن مات فيها مات كافرا، وإن أذهبت عقله عن شيء من الفرائض لم تقبل منه صلاة أربعين يوما، فإن مات فيها مات كافرا".

[ ص: 14 ] وخرجه الترمذي وحسنه ، وله طريق آخر من حديث أبي هريرة أخرجه النسائي من حديث [. . .] مرفوعا: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لباس أهل الجنة، وشرب أهل الجنة، وآنية أهل الجنة" الذهب.

وروى ابن أبي عاصم بإسناد جيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "مدمن الخمر كعابد وثن" .

قال ابن عدي في "كامله": تفرد به محمد بن سليمان الأصفهاني ، وخالف سليمان بن بلال فرواه عن سهيل، عن محمد بن عبد الله، عن أبيه موقوفا .

وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث خطأ . ولابن عدي من

[ ص: 15 ] حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - مثله وفيه ضعف.

وفي التنفير عنه أحاديث أخر: حديث أصرم بن حوشب، ثنا فضيل أبو معاذ، عن أبي حريز عبد الله بن الحسين، عن أبي بردة، عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر" أخرجه الأصفهاني في "ترغيبه" ، ولابن سعد، قال أبو موسى: ما أبالي أشربت الخمر أم عبدت هذه السارية من دون الله .

وعن عروة بن رويم قال - صلى الله عليه وسلم - : "أول ما نهاني ربي عن شرب الخمر وعبادة الأوثان" .

ومن حديث أبي يعلى أحمد بن علي، ثنا موسى بن محمد بن حيان، ثنا عبد القدوس بن الحواري، ثنا أبو هدبة، عن أشعث (الحرازي) ، عن أنس رفعه: "من فارق الدنيا وهو سكران دخل القبر وهو سكران، وبعث من قبره وهو سكران، وأمر به إلى النار وهو سكران إلى جبل يقال له: سكران، فيه عين يجري منها القيح والدم، وهو طعامهم

[ ص: 16 ] وشرابهم ما دامت (السماوات) والأرض"
.

ومن حديث عطيه العوفي، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "لا يدخل الجنة مدمن سكر" الحديث.

وأخرجه ابن أبي عاصم في "الأشربة" من حديث يزيد بن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد عنه بلفظ: "خمر" بدل من "سكر".

ومن حديث القاسم بن عبد الرحمن الشامي، عن أبي أمامة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر" .

ولابن أبي حاتم من حديث حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا: "من لقي الله وهو مدمن خمر كان كعابد وثن" .

[ ص: 17 ] وقد سلف من حديث أبي هريرة ، ولفظه عند أحمد: "مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن" .

ومن حديث مجاهد، عن (زيد الجرشي) : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يدخل الجنة مدمن خمر" قال أبو حاتم: حديث منكر .

ولابن عدي في "كامله" من حديث عثمان بن عفان مرفوعا: "لا يجمع الإيمان والإدمان في صدر رجل أبدا، يوشك أحدهما أن يخرج الآخر" أسنده عمر بن سعيد بن شريح، عن الزهري، ووقفه يونس ومعمر وشعيب وغيرهم عنه . قال أبو داود وهو الصواب.

[ ص: 18 ] ولأحمد في كتاب "الأشربة" من حديث خلدة بنت طلق، عن أبيها طلق مرفوعا: "والذي نفسي بيده لا يشربها رجل ابتغاء لذة (سكره) فيسقيه الله الخمر يوم القيامة" .

ولابن أبي عاصم من حديث سالم عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: "ما من أحد يشرب الخمر فيقبل الله له صلاة أربعين يوما وليلة، ولا يموت وفي مثانته منها شيء إلا حرم الله عليه الجنة، وإن مات في الأربعين مات ميتة جاهلية" .

[ ص: 19 ] ولابن عدي من حديث الحسن بن عمارة، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي أوفى، يرفعه: "شارب الخمر كعابد اللات والعزى" قال: الذي يشربه ولا يستفيق منه؟ قال: لا، الذي يشربه كلما وجده ولو بعد حول .

ولأبي الليث من حديث شهر عن أسماء بنت يزيد مرفوعا: "من شرب الخمر كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال" .

قال أبو الليث: إنما شبهها بعبادة الأوثان; لأن الله تعالى سماها رجسا وأمرنا باجتنابها فقال: رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [المائدة: 90]، وقال: فاجتنبوا الرجس من الأوثان [الحج: 30]، وقد روي عن ابن مسعود: من شربها نهارا أشرك بالله حتى يمسي، ومن شربها ليلا أشرك به حتى يصبح، وإذا مات فانبشوا قبره، فإن لم تجدوه مصروفا عن القبلة فافعلوا ما أردتم .

فصل:

حديث أبي هريرة له طريق آخر من حديث عائشة، وفي آخره: "إياكم إياكم" أخرجه ابن أبي عاصم بإسناد جيد.

[ ص: 20 ] وأخرجه أيضا من حديث ليث، عن مدرك، عن ابن أبي أوفى مرفوعا: "لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" .

وذكره ابن حزم من حديث ابن عباس مرفوعا صحيحا: "لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر" الحديث، وعائشة وأبي هريرة، ثم قال: هو نقل متواتر يوجب صحة العلم .

فصل:

تحريم الخمر قليلها وكثيرها معلوم من الدين بالضرورة، والإجماع قائم عليه، وشاربها مستحلا كافر، أو غير مستحل فاسق إذا شربها في حال التكليف والاختيار، ولنذكر ما يتعلق بالكتاب والسنة فيه.

أما الكتاب: فالآية التي افتتح بها البخاري إنما الخمر والميسر [المائدة: 90] الآيتين، ويبين الله فيها علية تحريم الخمر بقوله: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [المائدة: 91] إلى قوله منتهون وهاتان الآيتان تتضمن دلائل عدة على تحريمها، فمنها قوله تعالى رجس يعني: نجسا مبعدا؛ بدليل قوله: قل لا أجد إلى قوله: فإنه رجس [الأنعام: 145].

فبين في هذه الآية الرجس المأمور باجتنابه في الآية الأخرى وإنه حرام بنص الله عليه.

ثانيها: قوله: من عمل الشيطان [المائدة: 90]

ثالثها: قوله: فاجتنبوه لعلكم تفلحون [المائدة: 90] أي كونوا أجانب منه، وهذا أمر؛ لقوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان [الحج: 30] واجتنبوا الطاغوت [النحل: 36].

[ ص: 21 ] والأمر للوجوب، وحصل له الفلاح إن اجتنب ذلك، وذلك يفيد الوجوب أيضا، وضد الفلاح الفساد، وكل شيء هو سبب لحصول العداوة والبغض بين الإخوان واجب اجتنابه، وعكس ذلك ما يؤدي إلى الصلاح.

وقوله: ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وكل شيء يكون سببا للصد عن هذين ففرض اجتنابه وواجب تركه، ألا ترى إلى قوله تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله [هود: 18، 19]، ثم قال تعالى: فهل أنتم منتهون [المائدة: 91] وهو استفهام طريقه التوبيخ والردع والزجر، وهذه اللفظة يقال: إنها أبلغ لفظ للعرب في التكبر والمنع، وقال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي [الأعراف: 33] والمراد بالإثم: الخمر، قال الشاعر:


شربت الإثم حتى زال عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول



وعزي إلى امرئ القيس.

وقال تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [البقرة: 219] فلما جعل الغلبة للإثم علم أن ذلك محرم

قال ابن عباس: قوله: يسألونك عن الخمر والميسر [البقرة: 219] الآية، ثم نزل: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [النساء: 43] فكانوا لا يفعلونها عند الصلاة، فإذا صلوا العشاء فعلوها، فلا يصبحون حتى تذهب عنهم، فإذا صلوا الصبح فعلوها، فما يأتي الظهر حتى تذهب عنهم، ثم إن ناسا شربوها فقاتل بعضهم بعضا، وتكلموا بما لا يرضى الله، فأنزل الله تعالى إنما الخمر والميسر [المائدة: 90] الآية. فحرم الخمر ونهى عنها وأمر باجتنابها كما أمر باجتناب الأوقات.

[ ص: 22 ] وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - لما نزلت: فهل أنتم منتهون [المائدة: 91] قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "حرمت" .

وقال عمر: انتهينا انتهينا، إنها تذهب المال . والمفسرون على أن المحرم لها هذا. وقال جماعة من الفقهاء: المحرم لها آيتان يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير [البقرة: 219] والأخرى: قل إنما حرم ربي الفواحش إلى والإثم [الأعراف: 33].

والميسر: القمار بالأزلام، كذا في "الصحاح" ، والمفسرون يقولون: هو نحر الجزور، قاله ابن التين ، وقد سلف في سورة المائدة واضحا.

والأنصاب: الأوثان، وقال النحاس في "ناسخه": قال جماعة من العلماء: إن قوله: يسألونك عن الخمر والميسر ناسخة لما كان مباحا من شربه.

وقال آخرون: هي منسوخة بتحريمه بقوله: فاجتنبوه [المائدة: 90]، فمن قال بهذا احتج بأن المنافع التي فيها إنما كانت قبل التحريم ثم نسخت، قاله الضحاك وعطاء. واحتج من قال: إنها ناسخة بالأحاديث المتواترة التي فيها ثبات نزول تحريمها وبغير ذلك، فمن الحجج قول عمر - رضي الله عنه - : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت يسألونك عن الخمر [البقرة: 219] فقال: اللهم بين لنا، فنزلت لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [النساء: 43] فقال: اللهم بين لنا في الخمر، فنزلت إنما الخمر [المائدة: 90] الآية، فقال عمر: انتهينا انتهينا.

[ ص: 23 ] وفي حديث سعد بن أبي وقاص: لما شرب وأخذ رجل بلحيته، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته، فنزلت إنما الخمر والميسر [المائدة: 90] وفي حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس: نزل تحريم الخمر في حيين من قبائل الأنصار، لما ثملوا شج بعضهم بعضا، فنزلت إنما الخمر والميسر [المائدة: 90]، فهذا بين أن الآية ناسخة. والقول الأول جائز. وأبين منه أنها محرمة بقوله تعالى فاجتنبوه [المائدة: 90]، فإذا نهى الله عن شيء فهو محرم. وقد يجمع بين هذا الاختلاف أن عمر سأل بيانا شافيا ولم يقل: فنزلت، فيجوز أن يكون سؤال عمر وافق ما كان من سعد ومن الخبر، وائتلفت الأحاديث .

والأزلام فيما قاله قتادة وغيره: قداح يكتب في أحدها: تأمرني بالخروج، وعلى الآخر: لا تأمرني، والآخر منها لا يكتب عليه شيء، فيجيلها، فإن خرج الأول خرج، وإن خرج الثاني لم يخرج، وإن خرج الثالث رجع فأجالها .

فصل:

وهذه الأحاديث المذكورة في الباب وغيرها دالة على تحريمها; لشدة الوعيد فيها حيث يحرمونها في الآخرة.

ومعناه عند أهل السنة: إن أنفذ عليه الوعيد، وكذا قوله: (غوت أمتك) فإن الغي محرم، وفي هذا دليل على أن الأقدار عند الله بشروط، متى وقعت الشروط وقعت الأقدار، ومتى لم تقع لم يوقع على ما سبق من هدايته لغيره إلى تلك الشروط ولغيرها من الأقدار التي أراد أن يعقدها عليه من هدى أو ضلال.

[ ص: 24 ] وقوله: "أن يظهر الزنا وتشرب الخمر" ففرق بينهما في الرتبة، فكذلك هما في التحريم.

وأما قوله: "لا يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن" فهو أشد ما جاء في شارب الخمر، وقد تعلق بظاهره الخوارج، وكذا المعتزلة: أن الفاسق المسلم لا يسمى مؤمنا، فكفروا المؤمنين بالذنوب، والذي عليه أهل السنة وعلماء الأمة أن المراد: مستكمل الإيمان; لأنهما أنقص حالا ممن لم يأت شيئا منها لا محالة; لا أنه كافر بذلك، وسأتقصى مذاهب العلماء في تأويله في الحدود إن شاء الله. وأبعد من حمله على الفعل مستحلا أو عظم ذنبه حتى قارب الكفر أو لا يكون آمنا من العذاب.

قال ابن حزم: روينا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مسندا: يخلع منه الإيمان كما يخلع سرباله، وإذا رجع رجع إليه الإيمان .

وفي حديث ابن عباس أنه سئل عن ذلك فشبك بين أصابعه ثم زايلها، وفي لفظ عنه: لا يزني الزاني إلا خلع الله ربقة الإيمان منه، فإن شاء أن يرده إليه رده، وإن شاء أن يمنعه منعه .

وفي حديث أبي هريرة: "ينتزع منه الإيمان ما دام على خطيئة، فإذا فارقها رجع إليه". وفي رواية عنه: "زال الإيمان كالظل" .

وعن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد مرفوعا مثله .

[ ص: 25 ] وفي آخره: هذا نهي يقول: حين هو مؤمن فلا يفعل حتى يفعل هذه الأمور، ويلزم من قال: الإيمان (المزيل) للشارب في حال شربه أو الزاني، وما في الحديث أنه التصديق أن يقول: إن الشارب وشبهه قد يبطل تصديقهم، ومن بطل فهو كافر، ويلزمه أن تجري عليه أحوال الكفار، وهو خلاف إجماع من يعتد به ويعرف بضرورة الحس أو من واقع شيئا من الذنوب أن تصديقه ما زال حتى يصح أن الزائل هو الطاعة فقط، وهذا أمر مشاهد بيقين; لأن هذه الأمور ليس شيء منها طاعة فليست إيمانا، وهذا الحديث من الحجج القاطعة على أن الطاعات كلها إيمان، وأن ترك الطاعة ليس إيمانا .

فصل:

وإنما أدخل البخاري هذه الأحاديث في هذا الباب - والله أعلم - بالوعيد والتشديد في الخمر ليكون عوضا من حديث ابن عمر في الباب في مسلم، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها [و] لم يتب منها لم يشربها في الآخرة" .

وفي رواية له: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" .

قال ابن بطال : وإنما لم يخرجه في صحيحه; لأنه يروى موقوفا [ ص: 26 ] فلذلك تركه ، وسيأتي بعد الخوض في ذلك.

فصل:

قال الطبري : وفي قوله إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة الآية [المائدة: 91] الدلالة على تحريم الله على عباده المؤمنين أن يعادي بعضهم بعضا، والأمر منه لهم بالألفة والتآخي والتواصل، ودلت الآية على أن تحريم الخمر إنما كان من أجل إيجابه لشاربه العداوة والبغضاء في الخمر والميسر بين عباده أن المعنى الذي حرم ذلك من أجله أوكد في التحريم وأبعد من التحليل، والعداوة والبغضاء إذا بين المؤمنين أشد وأعظم عند الله - بدلالة هذه الآية - من شرب الخمر والقمار، وكذلك التفريط في الصلاة وتضييع وقتها أعظم عند الله من شرب الخمر والقمار. وفي ذلك دليل أن عداوة المؤمن للمؤمن عدل بتضييع وقت الصلاة والتفريط فيها وفي ذكر الله; لأن الله جمع بين جميع ذلك في تحريمه السبب الذي يوجب لأهله ذلك، فحرم الله الخمر والميسر لمصلحة خلقه .

فصل:

أول أيضا بمعنى "حرمها في الآخرة" أنه في وقت دون غيره، كقوله: "نساء كاسيات عاريات" الحديث ; لأنه لو حرمها في الجنة أبدا كانت عقوبة شربها تتبعه في الجنة، وكل من دخلها فهو مغفور له، ذكره ابن التين ، قال: وقيل: فينساها فلا تجري له على بال، وقيل: تسلب شهوتها.

[ ص: 27 ] وقال القرطبي: ظاهر الحديث تأييد التحريم، وإن دخل الجنة فيشرب من جميع أشربتها إلا الخمر، ومع ذلك فلا يتألم لعدم شربها، ولا يحسد من يشربها، ويكون حاله كحال أصحاب المنازل في الخفض والرفعة، فكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه وليس ذلك بعقوبة له، قال تعالى: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا [ الحجر: 47] وقيل: إنه يعذب في النار، فإذا خرج منها بالرحمة أو الشفاعة ودخل الجنة لم يحرم شيئا، وكذا قولنا في لبس الحرير والشرب في آنية الذهب والفضة .

فصل:

أشراط الساعة: علاماتها، واحدها شرط؛ بفتح الشين والراء.

وقوله: "حتى يكون خمسين امرأة قيمهن رجل واحد" يحتمل أن يريد نساء وسراري، وأن يريدهما وذوات محارم معهما، ذكره ابن التين ، والظاهر أنه كناية عن كثرة النساء وقلة الرجال.

فصل:

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث دليل على تحريم الخمر، وأن شربها من الكبائر; لأن هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخولها; لأن الله تعالى أخبر أن الجنة فيها أنهار من خمر، والظاهر أن من دخلها لا بد له من شرب خمرها، ولا يخلو من حرمها في الجنة ولم يشربها فيها وقد دخلها من أن يكون يعلم أن فيها خمرا لذة للشاربين وإنه حرمها عقوبة أو لا يكون يعلم بها، فإن يكن لا يعلم فليس في هذا شيء من الوعيد; لأنه إذا لم يعلم بها ولم يذكرها ولا رآها لم يجد ألم فقدها، فأي عقوبة في هذا؟!

[ ص: 28 ] ويستحيل أن يخاطب الله ورسوله بما لا معنى له، وإن كان عالما بها وبموضعها ثم حرمها عقوبة إذا لم يتب قبل الموت، وعلى هذا جاء الحديث، فإن كان كذا فقد لحقه حينئذ حزن وغم وهم لما حرم من شربها هو ويرى غيره شربها، والجنة دار لا حزن فيها ولا غم، قال الله تعالى وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن [ فاطر: 34] وقال: وفيها ما تشتهيه الأنفس [الزخرف: 71] وقال: لا يمسهم فيها نصب [الحجر: 48]، ولهذا - والله أعلم - قال بعض من تقدم: إن من شرب الخمر ولم يتب منها لم يدخل الجنة. وهو مذهب غير مرض عندنا إذا كان على القطع في إبعاد الوعيد، ومحمله عندنا أنه لا يدخل الجنة إلا أن يغفر الله له إذا مات غير تائب منها، كسائر الكبائر.

وكذلك قولهم: لم يشربها في الآخرة، معناه عندنا: إلا أن يغفر الله له فيدخل الجنة ويشربها، وهو عندنا في المشيئة; إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بذنبه، فإن عذبه بذنبه ثم أدخله الجنة برحمته لم يحرمها إن شاء الله، وإن غفر له فهو أحرى أن لا يحرمها.

وعلى هذا التأويل يكون معنى "حرمها في الآخرة" أي: جزاؤه وعقوبته أن يحرمها في الآخرة، ولله جل وعز أن يجازي عبده المذنب على ذنبه، وأن يعفو عنه فهو أهله، قال تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 48]

وهذا الذي عليه عقد أهل السنة، أن الله تعالى يغفر لمن يشاء ما عدا الشرك، ولا ينفذ الوعيد على أحد من أهل القبلة، وجائز أن يدخل الجنة إذا غفر الله له، فلا يشرب فيها خمرا ولا كرها ولا يراها ولا تشتهيها نفسه .

[ ص: 29 ] قلت: لكن في "صحيح الحاكم" - وقال: صحيح - من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" .

وأخرجه أيضا ابن حبان في "صحيحه" ، وقبلهما أبو داود الطيالسي في "مسنده" ، والظاهر أن هذه الزيادة: "وإن دخل الجنة" إلى آخره من بقية كلامه - صلى الله عليه وسلم - ، ولئن كانت من كلام الراوي فكذلك; لأنه أعلم بالمقال، فيقوى الاحتمال (السابق) وهو نسيانه له أو سلب شهوته.

فصل:

قد أسلفنا أن الإثم المراد بها هنا الخمر وهو أحد أسمائها، وحكاه الرازي قولا بعد أن قال: الإثم هو الذنب والجرم، وقد حرم الله الإثم كما سلف، فإذا كان الإثم حراما فما حصل فيه الإثم فهو حرام، وسميت إثما لأنها سببت الإثم .

وأما أبو جعفر النحاس فقال في "ناسخه": وأما قول من قال: إن الخمر يقال لها: الإثم، فغير معروف من حديث ولا لغة .

[ ص: 30 ] قلت: لكن القزاز في "جامعه" وصاحب "الواعي" وآخرون صرحوا بأنه الخمر، قال أبو عبد الله: الإثم في هذه الآية أكثر (الناس) على أنه الخمر، وأنها أوجبت تحريمه.

فصل:

قد أسلفنا أن الرجس، ولا عين توصف بذلك، فإنها محرمة .

يدل على ذلك الميتة والدم والبول، والرجس قد ورد مرة، والمراد به: الكفر.

قال تعالى: فزادتهم رجسا إلى رجسهم [التوبة: 125] يعني: الكفر، ولا يصح أن يكون مرادا هنا; لأن الأعيان لا تصح أن تكون إيمانا ولا كفرا، ولأن الخمر لو كانت كفرا لوجب أن يكون العصير قبل أن يصير خمرا إيمانا؛ إذ الكفر والإيمان طريقهما الاعتقاد والقول.

قال ابن عبد البر: الرجس ذكره الله تعالى مقرونا بالميتة والدم وقال: فاجتنبوا الرجس من الأوثان [الحج: 30] وقال: فإنه رجس، وهذا أقوى في التحريم وأوكد عند العلماء .

فصل:

جاء في أحاديث أن الذي حرم شربها حرم بيعها، فمن جوز بيعها لأهل الذمة فقد خالفها، روينا من حديث حماد بن أبي حنيفة، عن أبيه، عن محمد بن قيس، عن أبي عامر الثقفي: أنه كان يهدي [ ص: 31 ] لرسول الله كل عام راوية خمر، فأهدى له راوية في العام الذي حرمت فيه الخمر، فقال له - عليه السلام - : "قد حرمت الخمر فلا حاجة في خمرك" فقال: أفأبيعها وأستعين بثمنها؟ فقال له - عليه السلام - : "إن الذي حرم شربها حرم بيعها". وروي أن تميما هو المهدي، وفي آخره: "لعن الله اليهود" فذكر قصة الشحوم، والخمر حرام وثمنها حرام .

وبه إلى محمد بن قيس قال: سألت ابن عمر، أو سأله أبو كثير عن بيع الخمر، فقال: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فحرموا أكلها، واستحلوا بيعها وأكل ثمنها، وإن الذي حرم الخمر حرم بيعها وأكل ثمنها. وروينا في "سنن أبي داود" من حديث جابر مرفوعا: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة" .

[ ص: 32 ] ومن حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم بيع الخمر وثمنها .

وقال عمر بن الخطاب: لا تحل التجارة في شيء لا يحل أكله ، وروينا في "الأوسط" للطبراني من حديث (عبد الله بن عمر) ، عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي بكر بن حفص، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، أن رجلا من ثقيف يكنى أبا تمام قال: يا رسول الله، وذكر الخمر أستنفق بثمنها؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الذي حرم شربها حرم ثمنها". قال أبو موسى المديني في كتابه "معرفة الصحابة": يصحف هذا بأبي عامر أو لم يحدد الراوي كنيته.

وروينا في "سنن أبي داود" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن في الخمر عشرة منها: بائعها ومبتاعها . وفي إسناده عبد الرحمن الغافقي، قال ابن معين: لا أعرفه ، وذكره ابن يونس في "تاريخه" وأوضح أنه معروف، وذكره الحاكم في " مستدركه" شاهدا لحديث ابن عباس مثله، ثم قال في حديث ابن عباس: إنه صحيح الإسناد .

[ ص: 33 ] وكذا صححه ابن حبان، وهو حجة على كراهة بيع العصير فيمن يتخذه خمرا، وفيه حديث نص فيه ضعيف.

قال ابن عبد البر: وروي عن أنس أنها لما حرمت جاء رجل إلى رسول الله، فقال: كان عندي مال ليتيم فاشتريت به خمرا، أفتأذن لي أن أبيعها؟ فقال: "قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها". ولم يأذن له في بيع الخمر .

قال: والمسلم لا يثبت له على الخمر ملك لحال، كما لا يثبت على الميتة والدم والخنزير والصنم.

وقوله: "إن الذي حرم شربها" فيه إجماع من المسلمين كافة عن كافة لا يحل لمسلم بيعها ولا التجارة فيها ، روى عبد الله بن عمر أنه - عليه السلام - قال: "الخمر حرام وبيعها وثمنها حرام" .

وعن ابن عباس: أن جبريل قال: يا محمد، إن الله لعن الخمر وبائعها ومبتاعها. الحديث .

[ ص: 34 ] فائدة:

ينعطف على ما مضى في لبس الحرير في "مسند عبد بن حميد" من حديث شريك، عن جابر، عن خالته أم عثمان، عن الطفيل ابن أخي جويرية، عن جويرية، قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من لبس ثوبا من حرير في الدنيا ألبسه الله ثوبا من نار يوم القيامة" .

فصل:

[اختلف] أهل اللغة في اشتقاق اسم الخمر على ألفاظ قريبة (المعاني) ، متداخلة كلها موجودة المعنى في الخمر؛ إما لأنها تخمر العقل؛ أي: تغطيه وتستره أو الدماغ، ومنه الخمار; لأنه يغطي الرأس، قال النحاس : وهو أصح ما فيه وأجله إسنادا، قاله الفاروق على المنبر بحضرة الصحابة .

وفي "الأشربة" لأحمد عنه: ما خمرته وعتقته فهو خمر .

وفي لفظ: ما عتقت وخمرت فهي خمر. وإما لأنها صعد صفوها ورسب كدرها، (كما) قاله سعيد بن المسيب . وإما لأنها من المخامرة وهي المخالطة; لمخالطتها العقل. أو لأنها تركت حتى أدركت، يقال: خمر العجين؛ إذا بلغ إدراكه.

[ ص: 35 ] فصل:

وهي مؤنثة، وقد تذكر، ونعوتها موبقات كما قال الفراء، ولها أسماء كثيرة وكنى، ذكر ابن المعتز مائة وعشرة، وزاد عليه أبو القاسم اللغوي مائتين وأربعين اسما، وذكرت في "لغات المنهاج" منها مائة وتسعين لابن دحية، ومن كناها: أم ليلى، ومن أسمائها: الدم والسلان والمأذى والمزة وأم زنبق والساهرة والمفتاح والمنومة والديانة وعبد النور. وفي كتاب أبي حنيفة الدينوري من أسمائها: الفضيخ والطلاء والباذق ونصيف والبتع.

فصل:

قال ابن قتيبة في كتاب "الأشربة" : حرم الله بالكتاب الخمر وبالسنة السكر، وعوضا منها صنوف الشراب من اللبن والعسل وحلال النبيذ، وليس في شيء مما وقع فيه الحظر والإطلاق شيء اختلف فيه الناس اختلافهم في الأشربة وكل ما حل فيها وما يحرم على قديم الأيام مع قرب العهد بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وعليه وتواتر الصحابة وكثرة العلماء المأخوذ عنهم المقتدى بهم، حتى يحتاج ابن سيرين مع بارع علمه وثاقب فهمه إلى أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ، حتى يقول

عبيدة - وقد لحق خيار الصحابة وعلماءهم منهم: علي وابن مسعود - : اختلف علينا في النبيذ. وفي رواية: أحدث الناس أشربة (كثيرة)، فما لي شراب منذ عشرين سنة إلا لبن أو ماء وعسل .

[ ص: 36 ] وإن شيئا وقع الاختلاف فيه في ذلك العصر بين أولئك الأئمة لحري أن يشكل على من بعدهم وتختلف فيه آراؤهم ويكثر فيه تنازعهم. وقد ثبت من مذاهب الناس وحجة كل فريق منهم لمذهبه وموضع الاختيار من ذلك السبب الذي أوجبه، والعلة التي غلبت عليه ما حضرني بمبلغ العلم ومقدار الطاعة، فنقول:

أجمع الناس على تحريم الخمر إلا قوما من مجان أصحاب الكلام وفساقهم ممن لا يعبأ الله بهم؛ فإنهم قالوا: ليست محرمة، وإنما نهى الله عن شربها تأديبا، كما أمر في الكتاب بأشياء ونهى فيه عن أشياء على جهة التأديب وليس منها ما هو فرض، كقوله: فكاتبوهم [النور: 33] وقوله: واهجروهن في المضاجع واضربوهن [النساء: 34] وكقوله: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك [ الإسراء: 29].

قالوا: لو أراد تحريمها لقال: حرمت عليكم الخمر، كما ذكر في الميتة وغيرها. وليس للشغل بهؤلاء وجه ولا تشقيق الكلام بالحجج عليهم معنى؛ إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على إجماع، وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يخيل على عاقل ولا جاهل; لأن الناس أجمعوا على أن ما غلى وقذف بالزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر، وأنه لا يزال خمرا حتى يصير خلا، وأنها ليست محرمة العين كالخنزير، وإنما حرمت بعرض دخلها، فإذا زايلها حلت، كما كانت قبل الغليان حلالا; كالمسك كان دما عبيطا ثم جف، وحديث رائحته فيه خل وطاب، وكان جماعة من الصحابة يحرمونها على أنفسهم في الجاهلية لعلمهم بسوء مصرعها وكثرة جناياتها، قالت عائشة - رضي الله عنها - : ما شرب أبو بكر - رضي الله عنه - خمرا في جاهلية ولا إسلام.

وقال عثمان - رضي الله عنه - كذلك، وكان عبد الرحمن بن عوف ممن ترك

[ ص: 37 ] شربها، وقيل للعباس بن مرداس في جاهليته: لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جرأتك؟ قال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي، وأصبح سيد قومي وأمسي سفيههم .

وكان قيس بن عاصم يأتيه تاجر خمر فيشتري منه، فشرب يوما فسكر سكرا قبيحا فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم (بشيء)، ثم أنه أنهب ماله ومال الخمار وأنشأ شعرا، فلما صحى خبرته ابنته مما صنع، قال: لا أذوق الخمر أبدا. وكان عثمان بن مظعون حرمها في الجاهلية وقال: لا أشرب شرابا يذهب عقلي ويضحك بي من هو دوني، فبينا هو بالعوالي إذ أتاه آت فقال: أشعرت أن الخمر قد حرمت؟ وتلا عليه آية المائدة، فقال: تبا لها لقد كان بصري فيها نافذا.

وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق في كتاب "قطب السرور" جماعة كثيرة فعلت ذلك، تركناهم اختصارا.

فصل:

وذكر أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه "اختلاف العلماء": أن سفيان قال: أشرب العصير ما لم يغل، وغليانه أن يقذف بالزبد، فإذا غلى فهو خمر. وكذلك قال أصحاب الرأي ، وهو قول الشافعي .

وقال أحمد وإسحاق : يشرب العصير ما لم يغل، أو يأتي عليه

[ ص: 38 ] ثلاثة أيام، فإذا أتى عليه ثلاثة أيام ولم يشرب غلى أو لم يغل، واحتجوا بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : أشرب العصير ما لم يأخذ شيطانه، قال: ومتى يأخذ شيطانه؟ قال: في ثلاثة أيام .

وقال الشافعي : ما دام العصير حلوا لم يشتد فهو حلال، وسواء أتى عليه ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر إذا لم يتغير عن حاله وكان حلوا مثل أول عصره .

فصل:

قال النحاس: أوقع قوم شبهة فقالوا: الخمر هي المجمع عليها، ولا يدخل فيها ما اختلف فيه، وهذا ظلم من عظيم القول يجب على قائله [أن] لا يحرم شيئا اختلف فيه، واحتجوا أيضا بأن من قال: الخمر التي لا اختلاف فيها محلها كافر - كما مر - وليس كذلك غيرها. وهذان الاحتجاجان أشد ما لهما، فأما الأحاديث التي جاءوا بها فلا حجة فيها؛ لضعف أسانيدها، ولتأويله إياها على غير الحق.

وقد قال ابن المبارك: ما صح تحليل النبيذ الذي يسكر كثيره عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن إبراهيم النخعي، فأما الاحتجاجان الأولان اللذان يعتمدون عليهما فقد بينا الرد في أحدهما وسنذكر الآخر؛ فالخمرة المحرمة تنقسم قسمين; مجمع عليه: وهي عصير

[ ص: 39 ] العنب إذا رغا وأزبد، فهذه التي من أحلها كفر، والأخرى التي لا يكفر من أحلها، وهي التي جاء بها التوقيف عن رسول الله أنه الخمر وعن أصحابه بالأسانيد التي لا يدفعها إلا حاد عن الحق أو جاهل؛ إذ [قد صح] عنه تسميتها خمرا وتحريمها، فمن ذلك حديث عائشة: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البتع ; فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام" .

قال أبو جعفر: فلو لم يكن في هذا الباب إلا هذا الحديث لكفى; لصحة إسناده واستقامة طريقه، وقد أجمع الجميع أن الآخر لا يسكر إلا بالأول، فقد حرم الجميع بتوقيف الشارع، وفي هذا الباب بما لا يدفع حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - يرفعه: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" . قال أحمد: هذا إسناد صحيح .

وعن أبي موسى وأبي هريرة مرفوعا: "كل مسكر حرام" ، قال أبو جعفر: فهذه الأسانيد المتفق على صحتها. وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعا: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". فهذا تحريم ما أسكر كثيره نصا بهذا الإسناد المستقيم.

[ ص: 40 ] قال البزار: وقد روي التحريم عن عائشة - رضي الله عنها - ، قال يحيى بن معين فيما حكاه ابن عبد البر: هو أصح حديث روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر .

وعن سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعمر وابنه وابن عباس وأنس وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة وخوات بن جبير وقرة بن إياس وأبي موسى الأشعري والديلم بن الهوسع وبريدة الأسلمي وأم سلمة وميمونة وقيس بن سعد.

وحديث عائشة وابن عمر صحيح، وسائر الأحاديث يؤيد بعضها بعضا .

قلت: وحديث ابن عباس إسناده في غاية الصحة، وحديث أبي هريرة على شرط الشيخين، ولفظ ابن أبي عاصم في حديث أم سلمة رضي الله عنها: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر. وفي سنده شهر.

وعند أحمد، قال جنادة: سألت عطاء بن أبي رباح عما أسكر أو خدر، قال: حرام .

ولفظ حديث قيس بن سعد بن عبادة من حديث ابن زحر، عن بكر ابن سوادة، عن قيس مرفوعا: "إن الله حرم الخمرة والكوبة، وإياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم" .

[ ص: 41 ] ولفظ حديث ديلم عند ابن أبي عاصم: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نبيذ يتخذ من القمح، قال: "هل يسكر؟" قلت: نعم. قال: "فاجتنبوه". فقلت: إن الناس غير تاركيه؟ قال: "إذا لم يتركوه فاقتلوهم" .

قال أبو جعفر: وما تبين أن الخمر يكون من غير عصير العنب من لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن اللغة والاشتقاق ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الخمر من النخلة والعنب"، وفي لفظ: "في هاتين الشجرتين النخلة والعنب" . وخالف ذلك قوم فقالوا: لا تكون إلا من العنب، ونقضوا قولهم فقالوا: نقيع التمر والزبيب خمر; لأنه لم يطبخ.

وقد ذكر النسائي عن النعمان بن بشير يرفعه: "الخمر من خمسة؛ من الحنطة والشعير والتمر والزبيب والعسل، وما خمرته فهو خمر" ، وكذا ذكره عمر بن الخطاب على المنبر ، زاد الدارقطني في حديث النعمان: "وأنهاكم عن كل مسكر" .

وفي لفظ: "إن من التمر خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر والشعير خمرا، وإن من العسل خمرا" .

قلت: وفي الباب أيضا حديث أم حبيبة ابنة أبي سفيان وابن مسعود وطلق بن علي وأبي قتادة ومعقل بن يسار وعبد الله بن مغفل ومعاذ بن

[ ص: 42 ] جبل
ذكرها أحمد في "الأشربة" ، ومعاوية بن أبي سفيان والأشج العصري وأبي وهب الجيشاني ووائل بن حجر وعلي بن أبي طالب وأبي بردة بن نيار والضحاك بن النعمان. ذكرها ابن أبي عاصم في كتاب "الأشربة" بعضها مقو لبعض.

قال أبو جعفر : وفي هذه الأحاديث تصحيح قول من قال: إن ما أسكر كثيره فقليله حرام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة.

وعبارة أبي الليث السمرقندي في "التنبيه" أخبر - عليه السلام - أن كل مسكر فهو حرام؛ يعني: ما كان مطبوخا أو غير مطبوخ، وشارب المطبوخ أعظم ذنبا وإثما من شارب الخمر; لأن من شرب الخمر يكون عاصيا فاسقا، ومن شرب المطبوخ يخاف أن يكون كافرا; لأن شارب الخمر مقر بأنه حرام وشارب المطبوخ معتقد حله .

قال أبو جعفر: ثم كان الصحابة على ذلك وبه يفتون، أشدهم فيه علي بن أبي طالب يخاطبهم بأن ما أسكر كثيره فقليله حرام.

ثم إن ابن عمر لما سئل عن نبيذ ينبذ بالغداة ويشرب بالعشي فقال للسائل: أنهي عن قليل ما أسكر كثيره، وإني أشهد الله عليك، فإن أهل خيبر يشربون شرابا يسمونه كذا وهي الخمر، وإن أهل فدك يشربون شرابا يسمونه كذا فهي الخمر، وإن أهل مصر يشربون شرابا من العسل يسمونه البتع وهي الخمر . ثم عائشة لما سئلت عن غير عصير العنب فقالت: صدق الله ورسوله سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:

[ ص: 43 ] "يشرب قوم الخمر يسمونها بغير اسمها".
فلم يزل الذين يروون هذه الأحاديث يحملونها على هذا عصرا بعد عصر، حتى عرض فيها قوم فقالوا: المحرم الشربة الأخيرة التي تسكر .

وقالوا: قد قالت اللغة: الخمر المشبع والماء المروي، فإن صح هذا في اللغة فهو عليهم لا لهم; لأنه لا يخلو أن يكون من أحد جهتين: إما أن يكون معناه للجنس كله، أي صفة ذلك كذلك، فيكون هذا القليل الخمر وكثيره; لأنه جنس فكذا قليل ما يسكر، أو يكون الخمر المشبع فهو لا يشبع إلا بما كان قبله، وكله مشبع، فكذا قليل المسكر وكثيره، وإن كانوا قد تأولوه على أن معنى المشبع هو الآخر الذي يشبع، وكذا الماء الذي يروي.

فيقال لهم: ما حد ذلك الماء المروي والماء الذي لا يروي؟ فإن قالوا: لا حد له فهو كله إذن مروي، إن حدوه قيل لهم: ما البرهان على ذلك؟ وهل يمتنع الذي لا يروي مما حددتموه أن يكون يروي عصفورا وما أشبهه؟ فبطل الحد، وصار القليل مما يسكر كثيره داخل في التحري.

وعارضوا بأن المسكر بمنزلة القاتل لا يسمى مسكرا حتى يسكر، كما لا يسمى القاتل قاتلا حتى يقتل . وهذا لا يشبه من هذا شيئا; لأن المسكر جنس وليس كذا القاتل، ولو كان كما قالوا لوجب أن

[ ص: 44 ] لا يسمى الكثير من المسكر حتى يسكر، فكان يجب أن يحلوه، وهذا خارج عن قول الجميع.

وقالوا: معنى "كل مسكر حرام" على القدح الذي يسكر ، وهذا خطأ من جهة اللغة وكلام العرب; لأن كلا معناها العموم، فالقدح الذي يسكر مسكر والجنس كله مسكر، وقد حرم الشارع الكل، ولا يجوز الاختصاص إلا بتوقيف، وشبه بعضهم هذا بالدواء والبنج الذي يحرم كثيره ويحل قليله، وهذا تشبيه بعيد; لأنه - عليه السلام - قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، فالمسكر هو الجنس الذي قال الله فيه: إنما يريد الشيطان الآية [المائدة: 91]، وليس هذا في الدواء والبنج وإنما هذا في كل شراب هو هكذا، وعارضوا بأن قالوا: فليس ما أسكر كثيره بمنزلة الخمر في كل أحواله، وهذه مغالطة وتمويه على المنافع; لأنه لا يجب من هذا إباحة، وقد علمنا أنه ليس من قتل مسلما غير نبي بمنزلة من قتل نبيا، فليس يجب إذا لم يكن بمنزلته في جميع الأحوال أن يكون مباحا، كذا من شرب ما أسكر كثيره وإن لم يكن بمنزلة من شرب عصير العنب الذي قد نش فليس يجب من هذا أن يستباح له ما قد شرب، ولكنه بمنزلته في أنه قد شرب محرما وشرب خمرا، وأنه يحد في القليل منه كما يحد في القليل من الخمر، وهذا قول من لا يدفع قوله، منهم عمر وعلي.

ومعنى: "كل مسكر خمر" يجوز أن يكون بمنزلته في التحريم، وأن يكون المسكر كله يسمى خمرا، كما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذكرنا من الصحابة والتابعين بالأسانيد الصحيحة، والعجب من معارضتهم بما [ ص: 45 ] لا يسوغ مما يذكر به بعد مع أحدهم بما رواه أبو فزارة زعموا عن أبي زيد، عن ابن مسعود حديث النبيذ ، وأبو زيد لا يعرف ولا ندري من أين هو .

وقد روى إبراهيم، عن علقمة، قال: سألت عبد الله هل كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال: لا .

ويحتجون بحديث رووه عن أبي إسحاق، عن ابن ذي لعوة أن عمر حد رجلا شرب من إداوته، فقال: أحدك على السكر. وهذا من عظيم ما جاءوا به، وابن ذي لعوة لا يعرف به .

[ ص: 46 ] قال أبو جعفر: وهكذا قول أبي بكر بن عياش لعبد الله بن إدريس، ثنا أبو إسحاق عن أصحابه: (أن) ابن مسعود كان يشرب الشديد، فقال له ابن إدريس: استجيب لك ما نسخ من أصحابه، وأبو إسحاق إذا سمى من حدث عنه، ولم يقل: سمعت لم يكن حجة، وما هذا الشديد؟ أهو خل أم نبيذ؟ ولكن حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر وأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".

وحدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل شراب أسكر فهو حرام". فأفحم أبو بكر بن عياش.

وقال الأوزاعي: قلت للثوري: إن الله لا يسألني يوم القيامة لم لم تشرب النبيذ ويسألني: لم شربته، فقال: لا أفتي به أبدا. وقال أبو يوسف: في أنفسنا الفتيا به أمثال الجبال ولكن عادة البلد .

قال أبو عمر: عند أبي يوسف من قعد يريد السكر فالقدح الأول عليه حرام، كما أن الزنا عليه حرام، والمشي إليه حرام، وإن قعد وهو لا يريد السكر فلا بأس .

قال أبو جعفر: فأما الأحاديث التي احتجوا بها فما علمت أنها تخلوا من إحدى جهتين: إما أن تكون واهية الأسانيد، وإما أن تكون لا حجة لهم فيها إلا التمويه، فمن ذلك ما رواه أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون، قال: شهدت عمر حين طعن، فجاءه الطبيب فقال:

[ ص: 47 ] أي الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ، فأتي بنبيذ، فشربه فخرج من إحدى طعناته، فكان يقول: إنما نشرب من هذا النبيذ لنقطع لحوم الإبل، قال عمرو: وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ ، قال ابن حزم: هذا خبر صحيح ولا حجة لهم فيه; لأن النبيذ الحلو اللفيف الشديد للفته الذي لا يسكر يقطع لحوم الإبل في الجوف، وأيضا فإن عمر لم يأت أنه شرب منه فآذاه فليس لذلك، فلا متعلق لهم فيه أصلا، قال: ولا يصح لهم إلا هذا الخبر وخبرعتبة بن فرقد، وحديث نبيذ الطائف ولا حجة لهم فيه .

وأما ما رده به أبو جعفر فغير جيد؛ بيانه أنه قال: هذا حديث لا تقوم به حجة; لأن ابن إسحاق لم يقل: ثنا عمرو وهو مدلس، فلا تقوم بحديثه حجة حتى يقول: ثنا، وما أشبهه .

قلت: قد سلف عن ابن حزم تصحيحه، فرجاله ثقات عدول متصل، ومنها حديث حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن علقمة قال: أتي عمر بنبيذ قد أخلف واشتد، فشرب منه ثم قال: إن هذا الشديد، ثم أمر بماء فصب عليه، ثم شرب هو وأصحابه . وهذا الحديث فيه غير علة؛ منها أن حبيبا على محله لا تقوم بحديثه حجة لمذهبه، وكان مذهبه أنه قال: إذا قال: حدثني رجل عنك بحديث ثم حدثت به عنك كنت صادقا، ومن هذا أنه روى عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - حديث القبلة .

[ ص: 48 ] وقال الشافعي: لا يثبت بهذا حجة لانفراد حبيب به، ومنها أن نافعا ليس بمشهور بالرواية .

قلت: بلى قد ذكره ابن عبد البر في "استيعابه" في جملة الصحابة، وقال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله.

وقيل: إن حديثه مرسل .

وفي كتاب ابن أبي حاتم يقال: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت أبي يقول: لا أعلم له صحبة، وذكره المديني في "معرفة الصحابة" وقال: ذكره ابن شاهين، قال أبو جعفر: ولو صح عن عمر لما كان فيه حجة; لأن اشتداده قد يكون من حموضته.

وقد اعترض بعضهم فقال: من أين لكم كان يمزجه كان يحمضه، إنما تقولونه ظنا، والظن لا يغني من الحق شيئا؟ فجوابه أن نافعا مولى عبد الله قال: كان ذلك لتخلله، وقد روى عتبة بن فرقد قال: أتي عمر بعس من نبيذ قد كاد يكون خلا. الحديث.

فزال الظن بالتوقيف ممن شاهد عمر وهو من روايتهم، ثم رووا حديثا إن كانت فيه حجة فهي عليهم.

ثم رووا من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث: أتي عمر بنبيذ فشرب منه فقطب، ثم قال: إن نبيذ الطائف له عرام، ثم

[ ص: 49 ] ذكر شدة لا أحفظها، ثم دعا بماء فصب عليه ثم شرب .

قال الأثرم في "ناسخه ومنسوخه": فسره عبد الله بن عمر العمري فقال: إنما كسره عمر من شدة حلاوته قال: ولذلك قال الأوزاعي قال: وأهل العلم أولى بالتفسير .

وقال أبو جعفر: هذا لعمري إسناد مستقيم، ولا حجة لهم فيه بل عليهم; لأنه إنما يقال: قطب لشدة حموضة الشيء أو معناه: خالطت بياضه حمرة، مشتق من: قطبت الشيء أقطبه إذا خلطته .

قلت: (قال) أبو المعالي في " المنتهى": قطب بين عينيه قطوبا؛ أي: جمع، وقطب وجهه تقطيبا: عبس، وقطب الشراب وأقطبه؛ إذا مزجه فهو قاطب، والشراب مقطوب.

وفي "جامع القزاز": قطب الرجل يقطب قطبا وقطوبا: إذا جمع بين حاجبيه، وقطب تقطيبا مثله، وقد قطب بين عينيه وقبط، وقطبت الخمر بالماء: إذا مزجتها، والقطيب هو المزج في كل الأشربة ليس في الخمر خاصة.

وقال ابن سيده في " المحكم": قطب يقطب قطبا وقطوبا وقطب؛ زوى ما بين عينيه، كذلك قال أبو جعفر.

وروينا من حديث ابن إسحاق عن سعيد بن ذي حدان أو ابن ذي لعوة فذكر حديث الرجل الذي شرب من سطيحة عمر، وقول عمر:

[ ص: 50 ] أنا أضربك على السكر; وهو من أقبح ما روي في الباب، وعلته بينة لمن لم يتبع الهوى؛ فمنها أن ابن ذي لعوة لا يعرف - كما سبق - ولم يرو عنه إلا هذا الحديث، ولم يرو عنه إلا أبو إسحاق، ولم يذكر أبو إسحاق فيه سماعا، وهو مخالف لما نقله أهل العدالة عن عمر.

ثم روي عن السائب، عن يزيد، أن عمر خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، وقد زعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عنه، فإن كان يسكر جلدته، قال: فجلده ثمانين. قال: فهذا إسناد لا مطعن فيه. وقال أبو عمر: هذا الإسناد أصح ما يروى من أخبار الآحاد، وفيه من الفقه وجوب الحد على من شرب مسكرا، أسكر أو لم يسكر، خمرا كان أو نبيذا .

قال أبو عمر: والمحدود هو عبيد الله بن عمر، ذكره ابن عيينة وغيره.

وروى علقمة أن عبد الله وجد من رجل ريح الخمر فحده، وكذا فعلته ميمونة أم المؤمنين وعبد الله بن الزبير.

قال: وهذه الآثار عن السلف ترد ما ذكره ابن قتيبة وغيره من أصحاب أبي حنيفة أن مالكا تفرد برأيه في حد الذي يوجد منه ريح الخمر; وأنه ليس له في ذلك سلف، فهذا جهل واضح أو مكابرة .

قال أبو جعفر: والسائب رجل من الصحابة، فهل تعارض هذا بابن ذي لعوة؟

[ ص: 51 ] قلت: قال الدارقطني: إنه حديث لا يثبت . وعمر يجيز بحضرة الصحابة أنه يجلد في الرائحة من غير سكر; لأنه لو كان سكرانا لما احتاج أن يسأل عما يشرب، فرووا عن عمر ما لا يحل لأحد أن يحكيه عنه من غير جهة لوهاء الحديث، وإنه شرب من سطيحته، وإنه يحد على السكر وذلك ظلم; لأن السكر ليس من فعل الإنسان وإنما هو شيء يحدث عن الشراب، وإنما الضرب على الشرب كما أن الحد في الزنا إنما هو على الفعل لا على اللذة؛ ولهذا قيل لهم: تحريم السكر محال; لأن الله تعالى إنما يأمر وينهى بما في الطاقة، وقد يشرب الإنسان يريد السكر فلا يسكر، ويريد أن لا يسكر فيسكر؛ لتباين طباع الناس.

قال: ثم تعلقوا بما رويناه من حديث أبي نعيم عن مسعر، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، أنه قال: حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب ، وهذا الحديث رواه شعبة - على إتقانه وحفظه - على غير ملأ عن مسعر، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس: حرمت الخمر بعينها، والمسكر من كل شراب ، أي بالميم.

[ ص: 52 ] وصححه ابن حزم ، وفيه علة.

قال الأصيلي: لم يسمع عبد الله هذا الحديث من ابن عباس قاله أحمد ، وفيه: بينه هشيم فقال: أخبرني الثقة عن ابن عباس ، ورواه ابن شبرمة، عن ابن شداد متابعا لأبي نعيم وليس متصلا.

قال النسائي: لم يسمعه ابن شبرمة من ابن شداد .

ورواه ابن أبي عاصم، عن محمد بن بشر، عن مسعر كرواية أبي نعيم، قال ابن أبي عاصم: ثبت عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم السكر، ورواه عن ابن عباس جماعة من قوله أيضا.

ورواه أحمد في "الأشربة" عن إبراهيم بن أبي العباس، ثنا شريك، عن عباس العامري، عن ابن شداد، عن ابن عباس قال: الخمر حرام بعينها قليلها وكثيرها وما أسكر من كل شراب. قال أبو عبد الله: ربما حذف المسكر وربما حذف السكر .

ثنا محبوب، ثنا خالد، عن عكرمة أن ابن عباس قال: حرمت الخمر

[ ص: 53 ] وهو الفضيخ، وفي لفظ: حرمت يوم حرمت وما هي إلا فضيخكم هذا .

وثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن علي بن بذيمة قال: حدثني قيس بن حبتر قال: قال ابن عباس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كل مسكر حرام" ، وفي "مسند البزار": هذا أصح إسناد في هذا .

وفي "أحكام عبد الحق": وقد روي عن أنس مرفوعا وأبي سعيد وعلي، وكلهم ما بين ضعيف ومجهول، والصحيح هو الموقوف .

وقال ابن حزم في "محلاه": شعبة بلا خلاف أضبط (وأحفظ) من أبي نعيم.

وقد روى زيادة على رواية أبي نعيم، وزيادة العدل لا يحل تركها، وليس في رواية أبي نعيم ما يمنع من تحريم غير ما ذكر تحريمه إذا جاء بتحريمه نص صحيح، وقد صح من طريق ابن عباس تحريم المسكر كله، وصح عنه - كما ذكرنا - من تحريم نبيذ البسر ، وعاب الحديث وضعفه بعلي بن بذيمة ولا يصلح ذلك; لأنه ممن اتفق

[ ص: 54 ] عليه الشيخان ، ووثقه غير واحد، وإن سلمنا له قوله فقد رويناه عند أحمد من حديثه عن [زكريا بن عدي] ، عن عبيد الله، [عن] عبد الكريم، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس بلفظ: أنه - عليه السلام - قال: "إن الله حرم عليكم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام".

وفي "سنن الدارقطني": قال موسى بن هارون الحمال: هذا هو الصواب عن ابن عباس، يعني: بالميم; لأنه روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كل مسكر حرام". وروي عن طاوس وعطاء ومجاهد: ما أسكر كثيره فقليله حرام ، ولأبي داود: "كل مخمر فهو خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخس صلاته أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال" ، وهي صديد أهل النار.

[ ص: 55 ] ولما ذكره أبو حاتم في "علله " قال: هذا حديث منكر .

فصل:

وقد استدل بعض من جوز شرب النبيذ بأحاديث:

أحدها: حديث النسائي: عن الحسن بن إسماعيل بن سليمان، عن يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد مولى أبي مسعود الأنصاري، قال: عطش النبي - صلى الله عليه وسلم - حول الكعبة فاستسقى، فأتي بنبيذ من نبيذ السقاية، فشمه فقطب، فصب عليه من ماء زمزم ثم شربه، فقال رجل: أحرام هو؟ قال: "لا". وهو حديث ضعيف باتفاق الحفاظ.

قال النسائي: خبر ضعيف، انفرد به يحيى بن يمان دون أصحاب سفيان، ويحيى لا يحتج به; لسوء حفظه وكثرة خطئه .

وقال أبو القاسم بن عساكر: رواه الأشجعي وغيره عن سفيان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب، قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بنبيذ، نحو هذا.

وقال يحيى بن سعيد عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود، فعله. قال منصور: ثم حدثني خالد بن سعد، يعني به.

وقال الأعمش: عن إبراهيم، عن همام، عن أبي مسعود نقله.

وقال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا يحل لأحد من أهل العلم أن يحتج به; لأن ابن يمان انفرد به عن الثوري دون أصحابه وليس

[ ص: 56 ] بحجة، وأصل هذا الحديث أنه من رواية الكلبي، فغلط يحيى، فنقل متن حديث إلى حديث آخر، وقد سكت العلماء عن كل ما رواه الكلبي، فلم يحتجوا بشيء منه .

والشراب الذي بمكة لم يزل في الجاهلية والإسلام لا يطبخ بنار، وقد أجمع العلماء، منهم أبو حنيفة وصاحباه أن ما نقع ولم يطبخ بالنار وكان كثيره مسكرا; فهو خمر، والخمر إذا صب فيها الماء أو صبت على الماء، فلا اختلاف بين المسلمين أنها قد نجست الماء إذا كان قليلا، فقد صار هذا حكم الخمر إذا أسكر كثيره فقليله حرام بالإجماع فزالت الحجة به لو صح .

ولما رواه ابن أبي عاصم بلفظ: فقال رجل: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "بل حلال". قال: لا خلاف بين أهل الحديث والمعرفة أن هذا حديث منكر، ثم خالد بن سعد مجهول عندي لا يروي عنه إلا منصور، ومن لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول، حدث عن أبي مسعود في النهاية، وعن أم ولد لأبي مسعود أنها كانت تنبذ له في جر أخضر، ولم يقل: سمعت أبا مسعود، ولا: ثنا، فأراني أن يكون بينهما إنسان، فيوقف حتى يصرح بالتحديث. وقد ذكروا أن الثوري رواه عن أبان، عن الضحاك، عن ابن عباس. وقالوا: الوهم من ابن يمان، ولا اختلاف بين المسلمين في أن نبيذ السقاية زبيب ينقع، ونقيع الزبيب عند من أحل المسكر إذا صار في هذه الحالة فهو مسكر، ولا اختلاف بينهم في أن الخمر لا يحلها المزاج بالماء قل أو كثر.

[ ص: 57 ] قلت: وروى أحمد عن أبي عبد الرحمن الحنفي: شهدت عطاء سئل عن النبيذ، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كل مسكر حرام" فقلت: يا ابن أبي رباح إن هؤلاء يسقون في المسجد نبيذا شديدا، فقال لهم: والله لقد أدركتها وإن الرجل ليشرب منها فتلتزق شفتاه من حلاوتها .

وروى أحمد أيضا في كتاب " الأشربة" من حديث الحسن، عن نافع، عن أم إياس بنت عمرو بن سبرة أنها سألت عائشة - رضي الله عنها - فقالت: إن أهلي ينتبذون لي في جر غدوة فأشربه عشية، وينتبذون لي عشية فأشربه غدوة، فقالت: حلوه وحامضه حرام .

وفي رواية عن عبد الله بن الأحمر العبدي عن امرأة منهم، فذكره ، وقال ابن عبد البر: آثار أهل الحجاز في تحريم المسكر أصح مخرجا وأكثر تواترا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأكثر أصحابه .

وقال النسائي: أول من أحل المسكر إبراهيم، قال ابن عبد البر: يصحح هذا قول ابن سيرين: لقيت بخباء أصحاب ابن مسعود علقمة وشريحا ومسروقا وعبيدة، فلم أرهم يشربون نبيذا بجر، فلا أدري أين غاص هؤلاء على هذا الحديث ؟

قلت: وقول ابن أبي عاصم: خالد بن سعد مجهول، لم يرو عنه غير منصور; ليس كما ذكر، فقد روى عنه إبراهيم النخعي وأبو حصين

[ ص: 58 ] عثمان بن عاصم،
ووثقه ابن معين وابن حبان واحتج به البخاري مع قوله في "تاريخه الأوسط": وقال يحيى بن يمان: عن سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود: أنه - عليه السلام - أتي بنبيذ فصب عليه الماء. ولا يصح ، وقال أبو أحمد الجرجاني: الذي ينكر على خالد حديث النبيذ، وحديث: "لا يتم على عبد نعمة إلا بالجنة".

وفي موضع آخر: يروى عن أبي مسعود في النبيذ، ولا يصح، هو موقوف ، وقال الدارقطني: هذا الحديث معروف بيحيى بن يمان، ويقال: انقلب عليه الإسناد واختلط عليه بحديث الكلبي عن أبي صالح، وهذا سلف، قال: ورواه اليسع بن إسماعيل، عن زيد بن حباب، عن الثوري، واليسع ضعيف، ولا يصح عن زيد .

قال ابن أبي حاتم في "علله": قال أبو زرعة: هذا إسناد باطل عن الثوري، عن منصور، ووهم فيه يحيى، وإنما ذاكرهم سفيان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب بن أبي وداعة، مرسل، ولعل الثوري إنما ذكره تعجبا من الكلبي حين حدث بهذا الحديث، ومنكرا عليه.

قال: وقال أبي: أخطأ ابن يمان في إسناده، والذي عندي أن يحيى دخل له حديث في حديث رواية الثوري عن منصور عن خالد مولى أبي مسعود أنه كان يشرب نبيذ الجر، وعن الكلبي عن أبي صالح عن

[ ص: 59 ] المطلب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان يطوف بالبيت .. الحديث . فسقط عنه [إسناد] الكلبي وجعل إسناده منصور، عن خالد، عن أبي مسعود لمتن حديث الكلبي .

وقال الدارقطني: متروك، وأبو صالح اسمه باذان وهو ضعيف .

وقال الأثرم في "ناسخه ومنسوخه": هذا حديث يحتج به من لا فهم له في العلم ولا معرفة له بأصوله، وقد سمعت من أبي عبد الله و(من) غيره من أئمة الحديث كلاما كثيرا، وبعضهم سيزيد على بعض في (تفسير) قصته، فقال بعضهم: هذا حديث لا أصل له ولا فرع، قال: وإنما أصله الكلبي وهو متروك.

وكان ابن يمان عندهم ممن لا يحفظ الحديث ولا يكتبه، فكان يحدث من حفظه بإعادته، وهذا من أنكر ما روي، وإنما الذي رواه عنه فقد غير عليه ما هو أعظم من الغلط مما قد كتبنا عنه لصعوبته وسماجة ذكره.

وفي الحديث بيان عند أهل المعرفة أجمعين لضعفه; لأنه زعم أنه شرب من نبيذ السقاية نبيذا شديدا، فجعلوه حجة في تحليل السكر، وإنه لا يقطب إلا من شدة، وإنه لا يكون شديدا غير مسكر، فرجعوا إلى الأخذ بالتأويل فيما تشابه، فيقال لهم: أيكون من النقيع ما يشتد وهو حلو قبل غليانه؟ فيقولان له: لا، فيقال لهم: أرأيتم نبيذ السقاية أنقيع هو أو مطبوخ؟ فيقولون: نقيع، فإذا هم قد تكلموا بالكفر أو شبهه

[ ص: 60 ] حين زعموا أنه - عليه السلام - شرب نقيعا شديدا وإنه لا يشتد حتى يغلي وإنه إذا غلا النقيع فهو خمر، فهم يرون بأنه خمر ويزعمون بأنه - عليه السلام - قد شربه، ثم يحتجون بذلك في غيره ولا يأخذون به بعينه، وتفسير هذا الكلام أنهم احتجوا بشرب الشارع، زعموا أن النقيع الشديد في تحليل المسكر الممزوج ولا يرون شرب المسكر الشديد من النقيع، فأي معاندة للعلم أبين من هذه ؟

وقال ابن حزم: رواه يحيى بن يمان وعبد العزيز بن أبان، وكلاهما متفق على ضعفه ، قلت: يحيى قال فيه يحيى: ليس به بأس.

وقال ابن المديني: صدوق.

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": ثقة، أحد أصحاب سفيان، ولما ذكره ابن شاهين في "ثقاته" قال: قال عثمان بن أبي شيبة: كان صدوقا ثقة ، وقال الخليلي: ثقة ، وذكره ابن حبان في "ثقاته" ، وقال العجلي: كان ثقة جائز الحديث معروفا بالحديث صدوقا .

الحديث الثاني: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : "الظروف لا تحل شيئا ولا تحرمه ولا لتسكروا" قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : يا رسول الله، فما قولك: "كل مسكر حرام" قال: "اشرب، فإذا خفت فدع" .

[ ص: 61 ] قال ابن حزم: هو من طريق المشمعل بن ملحان وهو مجهول، عن النضر بن عبد الرحمن أبي النضري، وهو منكر الحديث ضعفه البخاري وغيره، وقال يحيى بن معين: لا تحل الرواية عنه، ولو صح لم تكن فيه حجة; لأن فيه النهي عن السكر، ويكون قوله: "فإذا خفت فدع" أي: إذا خفت أن يكون مسكرا فسقط التعلق به .

قلت: حكمه بالجهالة على ابن ملحان ليس بجيد.

قال ابن الجنيد: سألت ابن معين عنه، فقال: كان هاهنا ما أرى به بأسا.

وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فقال: كوفي لين إلى الصدق ما هو .

وذكر ابن شاهين في "ثقاته" وقال: قال يحيى: إنه صالح الحديث إلا أن ابن إياس بصري ثقة أوثق منه كثيرا .

وأخرجه الدارقطني من حديث القاسم بن مهران، ثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوم بالمدينة فعرضوا عليه شرابهم، فلما قربه من فيه قطب، فقال للذي جاء به: أهرقه، فقال: يا رسول الله، هذا شرابنا إن كان حراما لم نشربه، فدعا به فأخذه، ثم دعا بماء فشنه عليه ثم شرب وسقى، وقال: "إذا كان هكذا فاصنعوا به هكذا". تفرد به ابن بهرام، وابن حبان يقول فيه: لا يجوز الاحتجاج به بحال.

[ ص: 62 ] وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عكرمة، عنه أنه - عليه السلام - أتي بقدح من نبيذ السقاية فقطب فقال: "هلموا بماء" فصبه عليه، ثم قال: "زد فيه" مرتين أو ثلاثا، ثم قال: "إذا أصابكم هذا فاصنعوا به كذا" .

وعند ابن حزم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كل مسكر حرام"، فقال له رجلان: هذا الشراب إذا أكثرنا منه سكرنا، قال: "ليس كذلك، إذا شربت تسعة ولم تسكر لا بأس، وإذا شربت العاشر فسكرت فذاك حرام". ثم قال: هذا الحديث فضيحة الدهر موضوع بلا شك، رواه أبو بكر بن عياش عن الكلبي الكذاب، عن أبي صالح الهالك .

الحديث الثالث: حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اشربا ولا تسكرا" .

قال ابن حزم: لا يصح، وروي أيضا بلفظ: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا" ولا يصح أيضا; لأنه من رواية سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة، عن أبي موسى، ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة; لأنه إنما فيه النهي عن السكر وليس فيه مانع من تحريم ما يصح تحريمه بما لم يذكر في هذا الخبر .

وقال الأثرم في "ناسخه": له علل بينة، وقد طعن فيه أهل العلم قديما، فبلغني أن شعبة طعن فيه، وسمعت أبا عبد الله يذكر أن هذا الحديث إنما رواه سماك عن القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه

[ ص: 63 ] مرفوعا: "كنت نهيتكم عن ثلاث" الحديث، قال: فدرس كتاب أبي الأحوص فلقنوه الإسناد والكلام، فقلب الإسناد والكلام، ولم يكن أبو الأحوص يقول: أبو بردة بن نيار، وكان يقول: أبو بردة، وإنما هو ابن بريدة، فلقنوه أبا بردة بن نيار فقاله، وقد سمعت سليمان بن داود الهاشمي يذكر أنه قال لأبي الأحوص: من أبو بردة؟ فقال: أظنه، ثم قال: يقولون: ابن نيار، فقال: ثم جاءت الأحاديث بمثل ذلك على أبي بريدة، فلو لم يجئ هذا الحديث معارض من كتاب الله وسنة نبيه لم يكن هذا مما يصح؛ لبيان ضعفه .

وقال أبو عمر في "استذكاره": هذه اللفظة - يعني: ولا تسكر - إنما رواها شريك وحده، والذي روى غيره "ولا تشربوا مسكرا" .

وقال ابن أبي حاتم في "علله": سألت أبا زرعة عن حديث أبي الأحوص، عن [سماك] ، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة يرفعه: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا"، فقال: وهم أبو الأحوص فقال: عن سماك، عن القاسم، عن أبيه، عن أبي بردة، قلب في الإسناد موضعا وصحف في موضع، أما القلب فقوله: عن أبي بردة، وإنما هو ابن بريدة، عن أبيه، فقلب الإسناد بأسره وأفحش في الخطأ، وأفحش من ذلك وأشنع تصحيفه في متنه: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا".

[ ص: 64 ] وقد روى الحديث عن ابن بريدة أبو سنان ضرار بن مرة وزبيد اليامي [عن] محارب بن دثار وسماك والمغيرة بن سبيع وعلقمة بن مرثد والزبير بن عدي ، وعطاء الخراساني ، وسلمة بن كهيل ، كلهم عن ابن بريدة، عن أبيه مرفوعا: "نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فأشربوا في الأسقية ولا تشربوا مسكرا" .

وفي حديث بعضهم: "واجتنبوا كل مسكر" ولم يقل أحد منهم: ولا تسكروا، فقد بان وهم حديث أبي الأحوص من اتفاق هؤلاء المسمين على ما ذكرنا من خلافه.

قال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أبي الأحوص خطأ في الإسناد والكلام، فأما الإسناد فإن شريكا وأيوب ومحمد [ابني] جابر رووه عن سماك، عن القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه

[ ص: 65 ] مرفوعا كما رواه الناس: "فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرا" قال أبو زرعة: وكذا أقول .

وقال ابن أبي عاصم: لا اختلاف فيه أنه خطأ وهم فيه أبو الأحوص، وقد رواه شريك، عن سماك، عن القاسم، عن أبيه، عن [ابن] بريدة، عن أبيه وقال: "اجتنبوا ما أسكر، وكل مسكر حرام"

وقال الدارقطني: قال يحيى بن يحيى النيسابوري - وهو إمام - عن محمد بن جابر فقال فيه: "ولا تشربوا مسكرا"، هذا هو الصواب ، وعند أحمد في "الأشربة" من حديث بلال بن أبي بردة، عن أبيه وعمه عن سرية لأبي موسى قالت: قال أبو موسى: ما يسرني أن أشرب نبيذ الجر ولي السواد سنين .

وله بإسناد جيد: "كل مسكر حرام" .

وفي رواية: قلت: يا رسول الله، إن لأهل اليمن شرابا يسمونه البتع من العسل والمزر من الشعير فما تأمرني فيها؟ قال: "أنهاكم عن كل مسكر". وللنسائي: قال معاذ: يا رسول الله، إنك تبعث بنا - يعني: هو وأبا موسى - إلى بلد كثير شراب أهله، فما نشرب؟ قال: "اشرب، ولا تشرب مسكرا" .

[ ص: 66 ] قال أبو جعفر النحاس: هذا هو الصحيح في حديث أبي موسى، والذي رواه شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة عنه: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ومعاذ إلى اليمن. الحديث، وفيه فقال: "اشربا ولا تسكرا" أتى من قبل شريك في الحرف الذي بيناه قبل .

ولابن أبي عاصم من حديث محمد بن أبي موسى، عن أبيه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بنبيذ فقال: "اضرب بهذا الحائط؛ فإنه شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر".

ومن حديث عمرو بن شعيب، عن أبي موسى: لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال: إن قومي يصيبون من شراب من الذرة يقال له: المزر، فقال رسول الله: "يسكر؟ " قال: نعم، قال: "فانههم عنه"، قال: ثم رجع إليه فسأله فقال: "انههم عنه". ثم سأله الثالثة فقال: قد نهيتهم عنه فلم ينتهوا، فقال: "من لم ينته فاقتله".

ولأحمد في "الأشربة الصغير" من حديث ابن لهيعة عن دراج، عن عمر بن الحكم، عن أم حبيبة: أن أناسا من اليمن قدموا على رسول الله فسألوه عن شراب يصنع من القمح والشعير، قال: "الغبيراء؟ " (قال) : نعم، قال: "لا تطعموه". ثم لما أرادوا أن ينطلقوا سألوه عنها، فقال: "لا تطعموه" قالوا: فإنهم لا يدعونها، قال: "من لم يتركها فاضربوا عنقه" .

الحديث الرابع: حديث سوار بن مصعب وسعيد بن عمارة، قال سوار: عن عطية، عن أبي سعيد، وقال سعيد: عن الحارث بن

[ ص: 67 ] النعمان،
عن أنس قالا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب" .

قال ابن حزم: سوار مذكور بالكذب، وعطية هالك، وسعيد والحارث مجهولان لا ندري من هما .

قلت: تجهيله الحارث عجيب، فقد روى عنه ثابت بن محمد ويزيد بن عمارة وأبو النضر الأكفاني. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ليس بقوي في الحديث، وعرفه غير واحد بأنه ابن أخت سعيد بن جبير ، وذكره ابن حبان في "ثقاته" ، وقد ضعفه ابن حزم في موضع آخر ، ورميه سوار بالكذب غريب.

وقال ابن سعد - في عطية - : كان ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة .

وقال ابن عدي: يكتب حديثه ، وكذا قال أبو حاتم ، وخرج الحاكم حديثه في "مستدركه" ، وذكره ابن شاهين في "ثقاته" .

[ ص: 68 ] وقال البزار: روى عنه جلة الناس نحو من أربعين، منهم نحو من ثلاثين جليلا.

وتجهيله سعيد بن عمارة ليس كما ذكر، فقد روى عنه جماعة: بقية بن الوليد ومسلم بن بشير وعلي بن عياش وغيرهم.

قال ابن عساكر: وكان جده صفوان الكلاعي على عمل لعبد الملك بن مروان.

وقال ابن الجوزي: الحديث موقوف، ولا يتصل إلى أبي سعيد ، قلت: قد عرفته متصلا بما فيه.

ولأحمد بإسناد لا بأس به، عن أبي سعيد مرفوعا: "نهيتكم عن النبيذ ولا أحل مسكرا" .

الحديث الخامس: حديث أخرجه ابن أبي شيبة ، عن ملازم بن عمرو، عن عجيبة بن عبد الحميد، عن عمه قيس بن طلق، عن أبيه طلق، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لوفد عبد القيس: "اشربوا ما طاب لكم" قال ابن أبي عاصم: هذا من الأسانيد التي لا تتشاغل بها.

وقال ابن حزم: هذا لا حجة فيه; لوجوه:

أولها: أنه من رواية عجيبة وهو مجهول لا أدري من هو، ثم لو صح لما كانت فيه حجة; لأن ما طاب لنا هو ما حل لنا كما قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم [النساء: 3].

[ ص: 69 ] قلت: عجيبة مذكور في "الثقات" لابن حبان في أتباع التابعين .

وقوله: ابن عبد الحميد: كذا وقع فيه، والذي في ابن حبان: ابنة بدل "ابن" وأسقط ابن أبي عاصم عن أبيه، وذكر أبو موسى المديني أن العسكري وعبيد بن غنام روياه عن ابن أبي شيبة فقالا: عن قيس عن أبيه.

الحديث السادس: حديث عبد الملك، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه - عليه السلام - أتي بشراب فدعا بماء فصبه عليه حتى كسره بالماء ثم شرب، ثم قال: "إن هذه الأسقية تغتلم، فإذا فعلت ذلك فاكسروها بالماء"، أخرجه النسائي، وقال: عبد الملك ليس بالمشهور ولا يحتج بحديثه، والمشهور عن ابن عمر خلاف حكايته ، وقال أبو حاتم في "علله": هذا حديث منكر وعبد الملك بن نافع راويه عن ابن عمر شيخ مجهول ، وقال في " تجريحه وتعديله": عبد الملك بن نافع ابن أخي القعقاع بن شور، روى عن ابن عمر، روى عنه سليمان الشيباني والعوام بن حوشب وإسماعيل بن أبي خالد وحصين وليث بن أبي سليم، سألت أبي عنه فقال: شيخ مجهول لم يرو إلا حديثا واحدا فبلغ الشيباني ذلكم الحديث فجعله حديثين، لا يثبت حديثه، منكر الحديث .

وعن يحيى بن معين: أنه قال: قرة العجلي عن عبد الملك ابن أخي القعقاع ضعيف لا شيء .

[ ص: 70 ] وفي رواية: يضعفونه، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه ، ولما ذكره ابن شاهين في "ثقاته" قال: قال أحمد بن صالح: لا يجوز أن يأتي إلى رجل مثل هذا قد روى عنه الثقات فيضعفه بلا حجة; إذ لم يضعفه أحد ، وذكره ابن الجارود في الضعفاء.

وقال الدارقطني: ورواه من حديث مالك بن القعقاع، قال: سألت ابن عمر عن النبيذ الشديد، فقال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فوجد من رجل ريح نبيذ .. الحديث، وفيه: "إذا اغتلمت أسقيتكم فاكسروها بالماء". كذا قال مالك بن القعقاع، وقال غيره: عبد الملك بن نافع، وهو رجل مجهول ضعيف، والصحيح عن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما أسكر كثيره فقليله حرام". ولفظ ابن أبي شيبة من حديث قرة العجلي عن عبد الملك بن القعقاع: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدح فرده، ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب وقال: "انظروا هذه الأشربة إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء" .

وفي كتاب أحمد: حدثنا حجاج، (عن) شريك، عن زيد بن جبير: سأل رجل ابن عمر عن الأشربة فقال: اجتنب كل شيء ينشي ، وله من حديث رجل عنه أنه - عليه السلام - مر على نشوان شرب زبيبا وتمرا فجلده الحد، ونهى عن الجمع بينهما.

[ ص: 71 ] وفي لفظ: سئل عن السكر فقال: "الخمر ليس لها كنية" .

وقال ابن أبي عاصم: اختلف الشيباني وقرة العجلي في كلامه، وعبد الملك مجهول، ورواه عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كل مسكر حرام " طاوس وعبد الله بن دينار ومغيرة بن مخادش وغيرهم، وقد روى ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أتي بشراب فقال: "اضرب به الحائط، فإنما هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر" .

وذكر الخلال في " الأشربة": حدثنا عبد الله بن أحمد، ثنا أبي، وسألته عن حديث الشيباني عن عبد الملك في النبيذ فقال: عبد الملك مجهول، ويروى عن ابن عمر خلافه، وأخبرنا عيسى بن محمد بن سعيد قال: سمعت أبا بكر يعقوب بن يوسف المطوعي وقد حدث بحديث عبد الملك في النبيذ فقال: قال يحيى بن معين: عبد الملك بن القعقاع كان خمارا بطيزناباذ .

وأما ابن حزم فقال: أسباط بن محمد القرشي وليث بن أبي سليم وقرة العجلي والعوام كلهم ضعيف ، وليس كما ذكر في (الكل)

[ ص: 72 ] فأسباط حديثه عند الجماعة، ووثقه يحيى بن معين ويعقوب بن شيبة. وفي رواية عنه: ثبت، وقال العجلي: لا بأس به جائز الحديث ، فقال ابن وضاح: لا بأس به، وذكره ابن خلفون في "ثقاته" وقال: وثقه أبو أحمد المروزي وابن السكري وأبو بكر الحضرمي، وقال ابن سعد: كان ثقة ، وكذا قاله قاسم وذكره ابن حبان وابن شاهين في "الثقات" .

وليث: مختلف فيه، ووثقه خلق، وقرة العجلي: وثقه ابن حبان وغيره .

ولأحمد من حديث ليث عن حرب، عن ابن جبير سئل عبد الله عن نبيذ الزبيب الذي يعتق الشهر والعشر، فقال: الخمر اجتنبوها .

الحديث السابع: حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي، أنه - عليه السلام - نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، وقال: "كل مسكر حرام". وفرق بين الكوبة والغبيراء وبين الخمر فليس خمرا.

قال ابن حزم: لا يصح; لأنه من طريق الوليد بن عبدة وهو مجهول، ولو صح لكان - عليه السلام - قد ساوى بين كل ذلك في النهي عن

[ ص: 73 ] الخمر وسائر الأشربة سواء في النهي عنها؛ إذ ليس في التفريق في بعض المواضع في الذكر دليلا على أنهما متغايران، قال تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال [البقرة: 98] فلم يكن هذا موجبا أنهما ليسا من الملائكة، وكذا إذا صح أن الخمر في كل مسكر لم يكن ذكر الخمر والكوبة والغبيراء مانعا من أن تكون الكوبة والغبيراء خمرا، وقد صح أن كل مسكر خمر لا سيما وفي آخره: "كل مسكر حرام" وهو خلاف قولهم، فكيف يسوغ الاحتجاج ببعض خبر ويعرض عن بعض ؟!

قلت: حكمه على الوليد بالجهالة عجيب، فقد ذكره ابن يونس في "تاريخه"، وقال: كان ممن شهد فتح مصر، روى عنه يزيد بن أبي حبيب، والحديث معلول، وكان من أهل الفضل والفقه.

قال ابن عفير: مات سنة ثلاث ومائة، وذكره يعقوب بن سفيان الفسوي ، وابن حبان في "ثقاته" قال الدارقطني: اختلف على يزيد في اسمه، فقيل: عمرو بن الوليد، وقيل: الوليد بن عبدة، وقال ابن سعد لما ذكره في الطبقة الثالثة من أهل مصر: الوليد بن أبي عبدة مولى عمرو بن العاص، له أحاديث ولم يسمه بعضهم في الحديث إنما قال: مولى لعبد الله بن عمرو، عن ابن عمرو، وسماه أحمد في "الأشربة" عمرو بن عبدة ، ثم قال: حدثنا هشام، ثنا فرج، ثنا [ ص: 74 ] إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو يرفعه: "إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة وهي كل شيء يكب عليه" .

ولابن أبي عاصم من حديث أبان بن عبد الله البجلي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعه: "كل مسكر حرام"

وحدثنا زحمويه، حدثنا الفرج بن فضالة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو يرفعه: "إن الله حرم على أمتي الخمر والمزر والكوبة" .

وله أيضا: حدثنا (زكريا بن عدي) ، ثنا عبد الله، فذكر حديث ابن عباس بهذا اللفظ: إلا الغبيراء، وقد سلف .

الحديث الثامن: حديث سفيان بن سعيد الثوري، عن أبيه، عن لبيد بن شماس قال: قال عبد الله بن مسعود: إن القوم ليجلسون على الشراب وهو حل لهم، فما يزالون حتى يحرم عليهم .

[ ص: 75 ] قال أبو جعفر: لا يصح; لأن لبيدا اختلفوا في اسمه، فقيل ما أسلفناه، وقيل عكسه، وهو لا يعرف، ولم يرو عنه أحد إلا سعيد بن مسروق، ولا روى عنه إلا هذا الحديث، والمجهول لا تقوم به حجة، وروى أيضا حديث عبد الله من رواية الحجاج بن أرطاة ، قلت: شماس بن لبيد ليس مجهولا; لأن ابن حبان ذكره في "ثقاته" .

قال ابن حزم: وروي عن لبيد، عن رجل، عن عبد الله، وحديث الحجاج رواه ابن حزم مرفوعا من حديث علقمة: سألت ابن مسعود عن قوله - عليه السلام - : ما المسكر؟ قال: "الشربة الأخيرة" وقال: الأظهر فيه أن قوله: "الشربة الأخيرة" من قول ابن مسعود تأويل منه.

قال ابن حزم: قال أبو وائل: كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذا شديدا، ولا يصح; لأنه من رواية أبي بكر بن عياش عنه، وهو ضعيف .

قلت: في رده به نظر. قال: وتعلقوا بخبر رواه علقمة قال: أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين، فشربوا منه، وسيرين هذه أم عبيدة، وهذا خبر صحيح، وليس في شيء مما أوردوا لقولهم وثاق إلا هذا الخبر وحده، إلا أنه يسقط تعلقهم به بثلاثة وجوه.

أحدها: أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ثانيها: صح عن ابن مسعود تحريم كل ما قل أو كثر مما يسكر كثيره وعن غيره من الصحابة، فإذا اختلف قوله وخالفه غيره من الصحابة فليس بعضه أولى من بعض.

[ ص: 76 ] ثالثها: يحتمل أن علقمة عبر بالتشديد عن الخاثر اللفيف الحلو، قال: وروى النضر بن مطرف وهو مجهول، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه: كان ابن مسعود ينبذ له في جر ويجعل فيه عكرا، قال: وهذا باطل ومنقطع .

فصل:

قال أبو جعفر: وقد عارض قوم إذ ذكر لهم حديث أبي عثمان الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، رفعته: "كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" ، فإن قالوا: أبو عثمان مجهول، قيل: لا; لأن الربيع بن صبيح روى عنه وليث بن أبي سليم ومهدي بن ميمون.

ومن روى عنه اثنان فليس بمجهول ، قلت: وذكره ابن حبان في "ثقاته" وزاد في الرواة عنه مطرف بن طريف وسماه عمر بن سالم، قال: وقيل: عمرو، قال: وكان قاضيا على مرو، وذكره أيضا في "ثقاته" ابن شاهين وابن خلفون لفظه في كتاب أحمد: فالوقية منه حرام.

ورواه أيضا من حديث ابن عقيل عن القاسم عنها ، واعترضوا [ ص: 77 ] أيضا حديث الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عامر بن سعد، عن أبيه مرفوعا: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره". فإن قالوا: الضحاك مجهول قيل: لا، روى عنه عبد العزيز بن محمد وعبد العزيز بن أبي حازم ومحمد بن جعفر بن أبي كثير وابن أبي فديك والوليد بن كثير.

واعترضوا حديث داود بن بكر بن أبي الفرات، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". فإن قالوا: داود مجهول، قيل: لا، روى عنه إسماعيل بن جعفر وأنس بن عياض. قلت: الضحاك ومطرف بن طريف، وقيل: وكان على قضاء، ووثقه أبو داود، ويضعفه ابن الزبير وابن حبان وأحمد ويحيى بن معين وغيرهم، وأما داود بن بكر فوثقه ابن معين.

وقال أبو حاتم: شيخ لا بأس به ، وذكره ابن حبان في "ثقاته" وكذا ابن خلفون.

فصل:

ومن الأحاديث التي تعلق بها من أجاز شربه حديث [أبي] هريرة مرفوعا: " اشربوا ما طاب لكم، فإذا خبث فردوه" مع ما رويناه في كتاب ابن أبي عاصم بإسناد جيد عن أبي هريرة مرفوعا: "كل مسكر حرام".

[ ص: 78 ] وما في كتاب أحمد مما سنذكره بعد، قال ابن حزم: فيه عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب وكلاهما ساقط، ثم لو صح لكان حجة قاطعة عليهم; لأن معنى خبثه: سكره، لا يحتمل غيره، وإلا فليعرفونا ما معناه .

قلت: عبد الحميد، وثقه أحمد وغيره، وقال شعبة: صدوق نعم الشيخ.

وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "ثقاته" وكذا ابن شاهين ونقل عن أحمد بن صالح المصري: يعجبني حديثه، حديثه حديث صحيح ، وشهر مختلف فيه لإسقاطه.

قال أحمد: ليس به بأس وأثنى عليه وقال: ما أحسن حديثه ووثقه، وقال ابن القطان: لم أسمع لمضعفه حجة ، وصحح الترمذي حديث عن أم سلمة: "اللهم هؤلاء أهل بيتي" ، وقال البخاري: حسن الحديث، وقوى أمره ، وذكره ابن شاهين في "ثقاته" .

وقال البرقاني عن أبي الحسن: يخرج حديثه، وقال البزار: تكلم فيه شعبة، ولا نعلم أحدا ترك الرواية عنه، وقد حدث شعبة عن رجل عنه،

[ ص: 79 ] ونقل الأونبي في "ثقاته" توثيقه عن ابن نمير وغيره.

وقال يعقوب بن سفيان: ثقة وطرق حديثه صالحة رواها الشاميون ، وفي "تاريخ نيسابور: وثقه ابن معين وأبو زرعة والعجلي، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة.

فصل:

ومنها حديث علي - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - أتي بمكة بنبيذ فذاقه فقطب ورده، فقيل له: هذا شراب أهل مكة، فصب عليه الماء حتى رغى وقال: "حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب".

قال ابن حزم: هذا لا حجة فيه; لأنه من طريق محمد بن الفرات الكوفي وهو ضعيف باتفاق مطرح، ثم عن الحارث وهو كذاب، ومن طريق شعيب بن واقد وهو مجهول عن قيس بن مطر، ولا يدرى من هو .

وفي "الأشربة الصغير" لأحمد من حديث أبي إسحاق عن هبيرة عن علي: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجعة شراب يصنع من الشعير والحنطة فيكون شديدا حتى يسكر ، وفيه أيضا عن طاوس أنه - عليه السلام - تلى آية الخمر وهو على المنبر فقال رجل: كيف بالمزر يا رسول الله؟ قال: "وما المزر؟ " قال: شراب يصنع من الحب قال: "أيسكر؟ " قال: نعم، قال: "كل مسكر حرام" .

[ ص: 80 ] فصل:

ومنها حديث سمرة أنه - عليه السلام - أذن في النبيذ بعد ما نهى عنه، قال أبو بشر الدولابي في كتابه : منذر بن حسان أبو حسان، عن سمرة أنه - عليه السلام - فذكره يرمى بالكذب ، وكذا قال أبو العرب في "تاريخه"، وقال ابن حبان: كان حجاجيا يقول: من خالف الحجاج فقد خالف الإسلام ، وقال ابن حزم: منذر هذا ضعيف وسماه ابن أبي حسان، ثم لو صح لكان معناه: أذن في الانتباذ في الظروف بعد ما نهى عنه، لا أنه نهى عن الخمر ثم أذن فيها فصل:

ومنها خبر فيه النهي عن الانتباذ في الجرار الملونة، فإذا خشي فليسجه بالماء.

قال ابن حزم: لا يصح; لأنه من طريق أبان الرقاشي وهو ضعيف عن أبيه، ثم لو صح لكان حجة عليهم; لأن فيه إذا خشي فليسجه بالماء، ومعناه: إذا خشي أن يسكر بإجماعهم لا يحتمل غير هذا، فإذا أبيح بالماء بطل إسكاره، وهذا لا يخالفهم فيه، وليس فيه أن بعد إسكاره يسج، إنما فيه إذا خشي، وهذا بلا شك قبل أن يسكر ، قلت: قال

[ ص: 81 ] محمد بن إسماعيل: أبان والد يزيد لم يصح حديثه ، وقال أبو حاتم الرازي، روى حديثا واحدا ولا يصح .

وقال الدارقطني: له حديث واحد ، وقال ابن عدي: لا يحدث عنه إلا أبيه يزيد بحديث مظلم المخرج ، قلت: لعله هذا.

فصل:

ومنها مرسل سعيد بن المسيب أنه - عليه السلام - قال: "الخمر من العنب، والسكر من التمر، والمزر من الحنطة، والبتع من العسل، فكل مسكر حرام".

قال ابن حزم: فيه إبراهيم بن أبي يحيى وهو مذكور بالكذب، ولو صح لكان حجة عليهم؛ لأن فيه "كل مسكر حرام"، وليس في قوله: الخمر من العنب مانع أن يكون من غيره إذا صح بذلك نص، وقد صح .

فصل:

ومنها مرسل مجاهد رواية ابن جريج عن رجل لم يسم عنه: أنه - عليه السلام - شرب من نبيذ سقاية زمزم فقطب وجهه ثم صب عليه الماء مرة بعد مرة ثم شرب منه.

ومنها ما رواه سماك وهو ضعيف عن قرصافة امرأة منهم وهي مجهولة، عن عائشة أنها قالت: اشربوا ولا تسكروا .

[ ص: 82 ] ورواه إسرائيل عن سماك بلفظ: "اشربي، ولا تشربي مسكرا". قال: وسماك عن قرصافة، ومرة [قال] : لنا عليهم، ومرة: لا لنا ولا لهم .

وقال أحمد: الحديث الذي روته غير ثابت، وقرصافة لا ندري من هي والمشهور عن عائشة - رضي الله عنها - خلاف ما روت .

وقال النسائي بعد أن روى هذا الأثر: حديثها في الأوعية لا يصح، ومنها خبر رواه ابن جريج عن (الإسماعيلي) مرسلا: (أن رجلا عب في نبيذ خمر فسكر، فضربه عمر الحد لما أفاق، ومنها خبر من حديث ابن أبي مليكة قال) : حدثني وهب بن الأسود ولا ندري من هو كما قال ابن حزم - وإن ذكره ابن حبان في "ثقاته" - قال: أخذنا زبيبا فأكثرنا منه في (إدواتنا) وأقللنا الماء، فلم يلق عمر حتى عدى طوره فأخبرنا بأنه عدى طوره وأريناه إياه، فوجده شديدا وكسره بالماء ثم شرب.

[ ص: 83 ] ومنها خبر رواه ابن شهاب عن عمر - ولم يسمع منه، ولا يمكن - أتي بسطيحة فيها نبيذ قد اشتد بعض الشدة، فذاقه، ثم قال: بخ بخ، (اكسروا) بالماء.

ومنها خبر رواه سعيد بن منصور، ثنا ابن علية، عن الحذاء، عن أبي المعدل، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر ينبذ له في ذي خمسة عشر قائمة، فجاء فذاقه، فقال: كأنكم أقللتم عكره. قال ابن حزم: أبو المعدل مجهول .

قلت: قد عرفه الحاكم أبو أحمد، ووثقه ابن حبان.

ومنها خبر رواه شريك عن فراس، عن الشعبي، عن علي - قال ابن حزم: ولم يسمع منه - أن رجلا شرب من إدواة فسكر فجلد الحد، ولو صح لم تكن فيه حجة لهم; لأنه ليس (فيه) أن عليا شرب من تلك الإدواة بعد ما أسكر ما فيها. وفي رواية مجالد عن الشعبي: أن رجلا شرب من طلاء فضربه علي الحد، فقال الرجل: إنما شربت ما أحللتم، فقال علي: إنما جلدتك; لأنك سكرت .

قلت: عدم سماعه من علي فيه وقفة; لأنه محتمل فإن الشعبي ولد سنة عشرين كما قال ابن السمعاني ، أو سنة إحدى وعشرين كما قال الشمشاطي، وقال ابن البطال: سنه محتملة لإدراك علي .

وقال الحاكم: رآه، وقال الدارقطني في "علله": سمع منه حرفا، وقد احتج به ابن حزم نفسه في حديث ذكره في الحيض.

ومنها خبر رويناه صحيحا، كما قال ابن حزم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إذا أطعمك

[ ص: 84 ] أخوك المسلم طعاما فكل، وإذا سقاك شرابا فاشرب، فإن رابك فاسججه بالماء، قال: ولا حجة لهم فيه; لأنه ليس فيه إباحة النبيذ المسكر بنص ولا بدليل ولا إباحة ما حرم كالخمر وغيره ولا إباحة الخمر، وإنما فيه لا تفتش على أخيك المسلم وأن يسج النبيذ إذا خيف أن يسكر بالماء، وهم لا يقولون بهذا، وهو موافق لقولنا: إذا كان يحيله عن الشدة إلى إبطالها، وصح عن أبي هريرة تحريم المسكر جملة .

ولابن أبي عاصم بإسناد جيد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنبيذ فقال: "ادنه" فإذا هو ينش، فقال: "اضرب بهذا الحائط فإنه شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر" .

ومن حديث مسلم بن خالد، عن زيد بن أسلم، عن شمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : "كل مسكر حرام" فإن كان الشراب مسكرا فقد ثبت تحريمه بنص حديث أبي صالح أن يكسره بالماء; لأنه يسكر أو لعلة غير ذلك.

ولابن سعد: ثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم: سمع أبا هريرة يقول: من رابه من شدة فليشن عليه الماء فيذهب حرامه ويبقى حلاله.

ومنها خبر رواه ابن أبي شيبة عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عثمان بن قيس أن جرير بن عبد الله سقاهم عسلا وشرب هو الطلاء،

[ ص: 85 ] وقال: هذا يستنكر منكم ولا يستنكر مني، قال: وكانت رائحته توجد من هنالك وأشار إلى أقصى الحلقة .

قال ابن حزم: عثمان مجهول ، قلت: قد ذكره ابن حبان في "ثقاته" .

ومنها خبر رواه ابن أبي ليلى - وهو سيئ الحفظ - عن أخيه عيسى أنه أبصر عند أنس بن مالك طلاء شديدا، وهو مع ضعفه يحتمل أن يريد بالتشديد الخاثر وهي صفة الزبيب المطبوخ الذي لا يسكر .

قال ابن حزم: ومنها خبر رواه ابن أبي شيبة من حديث سماك عن رجل أنه سأل الحسن بن علي عن النبيذ، فقال: اشرب، فإذا رهبت أن تسكر فدعه .

قال ابن حزم: لا يصح هذا عن الحسن أصلا، قال: وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى من طريق أبي فروة أنه شرب معه نبيذ جر فيه دردي.

وعن ابن أبي وائل مثله.

وعن النخعي والشعبي وعن الحسن أنه كان يجعل في نبيذ عكرا، وقد خالف هؤلاء ابن سيرين وابن المسيب فصح عنهم المنع من العكر.

قال ابن المسيب: هو خمر .

[ ص: 86 ] فصل:

وذكر إباحته ابن أبي شيبة في "مصنفه"، عن أبي الدرداء وسويد بن غفلة وزر بن حبيش وابن أبي ليلى عن جماعة من أهل بدر وأبي ذر وعمرو بن شرحبيل وعبد الله بن ذئب وعمارة ومرة الهمذاني وعمرو بن ميمون ومحمد وعلي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن وهبيرة بن يريم والحارث الأعور وعلقمة بن قيس وعبد الرحمن بن يزيد وماهان الحنفي وإبراهيم وبكر بن ماعز والشعبي ، وقد أسلفنا عن ابن المبارك لم يصح إباحة النبيذ عن أحد إلا عن إبراهيم النخعي وحده، وقد بسطنا هذا الموضع على خلاف العادة لتدفع هذه المقالة العجيبة ويتقرر ردها ولله الحمد.

التالي السابق


الخدمات العلمية