التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5265 5587 - وعن الزهري قال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تنتبذوا في الدباء، ولا في المزفت". [مسلم: 1992] وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير. [مسلم: 1993 - فتح 10 \ 41]


ثم ساق حديث عائشة - رضي الله عنها - ، سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البتع، فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام". ثم قال: حدثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه، فقال - عليه السلام - : "كل شراب أسكر فهو حرام".

وعن الزهري حدثني أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنتبذوا في الدباء ولا في المزفت" وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير.

[ ص: 104 ] الشرح:

التعليق الأول أخذه البخاري عن (معن) مذاكرة ، ورواية أنس هذه معطوفة على شعيب وهو القائل: وعن الزهري، ولذلك ساغ لأبي نعيم الحافظ وأصحاب الأطراف أن يقولوا: رواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب، وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم والأربعة وسلف في الطهارة .

وقوله: (وكان أبو هريرة يلحق معهما الحنتم والنقير) رواه ابن سعد عن محمد بن بشير ومحمد بن عبيد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عنه بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننتبذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير.

وفي كتاب أحمد من حديث سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى فذكر حديثا، فقلت: يا رسول الله، إن شرابنا يصنع بأرضنا من

[ ص: 105 ] العسل يقال له: البتع، فقال: "كل مسكر حرام"
.

وفي حديث علي: نهى عن الدباء والحنتم والنقير والجعة .

وروى النهي عن مجموع هذه الأوعية أو بعضها ابن سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق ابن عباس وغيره كما ستعلمه.

قال ابن حزم: وصح عنه، ولفظه: نهى عن الانتباذ والشرب من الحنتم والنقير والمقير والدباء، والمراد المجبوبة وكل شيء يصنع من مدر، وصح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أيضا مثله من غير ذكر المزادة.

وصح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من غير ذكر المدر قال: وحديث أبي سعيد صحيح وكذا حديث علي وأنس وعبد الرحمن بن يعمر، وكذا حديث عائشة وصفية وحديثها: نهى عن نبيذ الجر، وابن أبي أوفى وحديثه: نهى عن الجر الأخضر والأبيض، وعبد الله بن الزبير، فهؤلاء أحد عشر من الصحابة رووا النهي، ورواه عنهم أعدادهم من التابعين، وهذا نقل متواتر .

قلت: وفي الباب عن سويد بن مقرن، أخرجه ابن أبي عاصم من حديث شعبة، عن أبي حمزة، عن هلال المازني عنه، ولأحمد من حديث مكحول عن بلال أنه كره نبيذ الجر، وعن ابن معقل مثله مرفوعا، وقال أبو العالية: نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر.

وعبد الله بن جابر العبدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن الدباء والمزفت والحنتم والنقير.

[ ص: 106 ] وحديث أبي أيوب الأنصاري وحديث عمران بن الحصين ذكره الحازمي .

وحديث أشعث بن عمير العبدي عن أبيه ذكره ابن سعد، وحديث عابد بن عمرو، وحديث زينب بنت أم سلمة، وفي الباب أيضا سمرة بن جندب، وجابر، وابن عمر، وقد سلف، وعمير العبدي، وثمامة بن عمرو، وزينب بنت أم سلمة، وعمران بن حصين، وفي كتاب أحمد: وميمونة، وعبيد الله بن جابر العبدي، وأبو قتادة. وعند ابن أبي عاصم: وعبد الله بن عمرو بن العاص.

وفي كتاب أحمد عن أبي (موسى) : قلت: يا رسول الله إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له: المزر من الشعير، وشرابا من العسل يقال له: البتع؟ فقال: "كل مسكر حرام" .

قال ابن محيريز: وسمعت أبا موسى يخطب على منبر البصرة يقول: ألا إن خمر أهل المدينة البسر والتمر، وخمر أهل فارس العنب، وخمر أهل اليمن البتع، وخمر الحبشة السكركة وهي الأرز، وقد سلف.

فصل:

البتع بكسر بائه، وتاؤه تسكن وتفتح: قمع وقمع: وهو نبيذ العسل كما فسر في الأصل.

وذكر أبو حنيفة الدينوري أن البتع خمر متخذة من العسل، والبتع أيضا الخمر يمانية.

[ ص: 107 ] قال ابن سيده: بتعها: خمرها، والبتاع: الخمار ، وعند القزاز هو أيضا مكسور الباء ساكن التاء يتخذ من عسل النحل صلب يكره شربه لدخوله في جملة ما يكره من الأشربة لفعله وصلابته، وفي " الواعي": صلابته كصلابة الخمر.

فصل:

وذكر ابن حزم أن الانتباذ في هذه الحنتم والنقير والمزفت والمقير والدباء والجرار البيض والحمر والسود والأسقية وكل ظرف حلال، وكذلك الشرب منها; لأنه - عليه السلام - روى عنه بريدة قال: "كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في (الظروف) فانتبذوا في كل وعاء غير أن تشربوا مسكرا". وعند مسلم : فإن الأوعية لا تحل شيئا ولا تحرمه .

وعن جابر: نهى رسول الله عن الظروف، فقال فتية من الأنصار: إنه لا بد لنا منها قال: "فلا إذا" ، فصح إباحة ما نهى عنه من الظروف وأن النهي نسخ .

وقال: ولم يأت النهي إلا من هاتين الطريقين فقط، قلت: أخرجه ابن أبي عاصم من حديث علي وعبد الله بن عمر وأبي بردة وأبي سعيد وعمران بن حيان الأنصاري عن أبيه، قال: وروي عن جابر وأبي سعيد وأنس وعن عثمان بن عطاء عن أبيه، ثم روي عن الزهري أنه كان يدعو على من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحل نبيذ الجر بعد أن حرمه.

[ ص: 108 ] وفي كتاب ابن أبي شيبة، عن رافع بن خديج: أنه كره نبيذ الجر، وكذا ذكره عن علي وأبي موسى وأبي هريرة وسعيد بن جبير وجابر بن زيد والحسن وابن عباس وعائشة وعمر بن عبد العزيز .

وقال الأثرم: هذه المسألة قل ما يوجد في السنن مثلها، وذلك أنه جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الظروف التي ينبذ فيها والرخصة في الأسقية التي تلاث على أفواهها، ثم جاءت الرخصة فيها إذا لم يكن الشراب فيها مسكرا، ثم جاء النهي عنها أيضا بعد الرخصة فرجع الأمر فيها إلى النهي .

وقال ابن عبد البر في حديث أبي سعيد يرفعه: "نهى عن الجر الأخضر" وهو عندي كلام جرى على جواب السائل، كأنه قال له: الجر الأخضر؟ فقال: "لا تنتبذوا فيه" فقال الراوي: نهى; الدليل على ذلك أن عائشة وابن الزبير وعليا وأبا بردة وأبا هريرة وابن عمر وابن عباس رووا النهي عن النبيذ في الجر مطلقا لم يذكروا الأخضر ولا غيره .

ولابن أبي عاصم من حديث عبد الله: "إني نهيتكم عن هذه الأوعية فإنها لا تحل شيئا ولا تحرمه فأشربوا فيها"، ولأحمد: "نهيتكم عن هذه الظروف فانتبذوا فيها" .

ولابن أبي شيبة بإسناد جيد عن أنس: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النبيذ في هذه الظروف ثم قال:

[ ص: 109 ] "نهيتكم عن النبيذ فيها فاشربوا فيما شئتم"
.

ومن حديث يحيى بن غسان التميمي عن ابن الرسيم وكان فقيها من أهل هجر، أنه حدث عن أبيه أنه - عليه السلام - نهاهم عن النبيذ في هذه الظروف، فرجعوا إليه فقالوا: يا رسول الله، إنك نهيتنا عن هذه الأوعية فتركناها فشق ذلك علينا، فقال - عليه السلام - : "اشربوا فيما شئتم" .

ومن حديث بشر بن صفوان، عن عمران بن أبي وقاص المكي وهو أبو عبد الرحمن، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رفعته: "كنت نهيتكم أن تنتبذوا في هذه الأوعية الدباء والنقير" . الحديث.

ومن حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره، عن عبد الله بن مغفل قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نهى عن نبيذ الجر وأنا شهدته حين رخص فيه .

ولابن أبي شيبة، عن صحار العبدي، قلت: يا رسول الله أتأذن لي في جرة أنتبذ لها؟ فأذن له .

وعن عاصم قال: سأل عبد الملك عكرمة عن نبيذ جرة رصاص، فقال: حرام، فوهبها عبد الملك لرجل فانحدر بها إلى البصرة، قال: وكان عكرمة يسأل عن الزجاج فيقول: (الدباء) أهون وأضعف

[ ص: 110 ] فكرهه أو نهى عنه، وقال سفيان بن حسين: سألت الحسن وابن سيرين عن النبيذ في الرصاص فكرهاه ونهياني عنه ، ورخص فيه ابن عباس وإبراهيم وخيثمة والمسيب بن رافع وأبو قلابة وعبد الله بن عمر والحكم .

وقال حميد: كان بكر بن عبد الله ينبذ له في القوارير، ورخص فيه الحسن وابن عمر وابن سيرين وأنس بن مالك وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وكره ذلك أبو برزة الأسلمي .

وروينا عن الحازمي أنه قال: إنما كان نهى عن هذه الأوعية; لأن لها ضراوة يشتد فيها النبيذ ولا يشعر بذلك صاحبها فيكون على غرر من شربها، وقد اختلف الناس في هذا الباب، فذهب بعضهم إلى أن الحظر باق، وكرهوا أن ينبذ في هذه الأوعية، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق .

قال الخطابي: وقد يروى ذلك عن عمر وابن عباس ، وذكره أحمد أيضا عن عمر بن عبد العزيز، وأنه كتب بذلك إلى عدي بن أرطاة بالبصرة .

قلت: أخرجه ابن أبي شيبة، عن عمر بإسناد جيد عن البراء قال: أمرني عمر أن أنادي يوم القادسية: لا ينبذ في دباء ولا حنتم ولا مزفت .

[ ص: 111 ] وروي أيضا من حديث عبد الملك بن نافع أن ابن عمر سئل في الطلاء فقال: لا بأس به، قلت: إنه في مزفت: قال: لا تشربه في مزفت ، وقاله أيضا أنس بن مالك بإسناد جيد، وفيه - أعني "المصنف" - أيضا أن معاذا وزيد بن أرقم وأبا مسعود البدري وابن مسعود وأبا برزة وعلي بن أبي طالب ومعقل بن يسار وقيس بن عباد وأنس بن مالك وأسامة بن زيد وأبا وائل وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابن عباس وابن الحنفية وعمران بن حصين ومسروقا وسعد بن عبيدة والشعبي وهلال بن يساف والأسود وأبا رافع والضحاك وأبا عبيدة بن عبد الله وسعدا كانوا يشربون بنبيذ الجر .

ولأحمد بن منيع البغوي، عن أبي معاوية: ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا عاصم بن عمر العنبري: سألت أنس بن مالك: أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - نبيذ الجر؟ قال: كيف يحرمه والله ما رآه قط .

قال الحازمي: وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحظر كان في مبدأ الأمر ثم رفع وصار منسوخا، ودلت الأحاديث الثابتة أن النهي كان مطلقا عن الظروف كلها، ودل بعضها أيضا على السبب الذي لأجله رخص فيها وهو أنهم شكوا إليه الحاجة إليها فرخص لهم في ظروف الأدم لا غير، ثم أنهم شكوا إليه أن ليس كل أحد يجد سقاء، فرخص لهم في الظروف كلها، ليكون جمعا بين الأحاديث كلها سيما بين قول بريدة: "نهيتكم عن الظروف وإنها لا تحرم شيئا ولا تحله". وفي لفظ: "نهيناكم عن الشرب في الأوعية فاشربوا في أي سقاء

[ ص: 112 ] شئتم"
، وبين حديث ابن عمر: نهى عن الحنتم والدباء والمزفت وقال: "انتبذوا في الأسقية" .

فصل:

في حد السكر: قال ابن حزم: سئل أحمد بن صالح عن السكران؟ فقال: أنا آخذ بما رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن يعلى بن منبه، عن أبيه قال: سألت عمر بن الخطاب عن حد السكران؟ فقال: هو الذي إذا استقرئ سورة لم يقرأها، وإذا خلط ثوبه في ثياب لم يخرجه. قال ابن حزم: وهو نحو قولنا: لا يدري ما يقول .

وقال أبو حنيفة: لا يكون سكرانا حتى لا يميز الأرض من السماء . وأباح كل سكر دون هذا، وهذا عجيب.

وقال ابن المنذر : قال مالك: هو أن يتغير في طباعه التي هو عليها، وهو قول أبي ثور، وقال الثوري: لا يجلد إلا في اختلاط العقل، فإن استقرئ فقرأ أو سئل فتكلم بما يعرف لم يحدوا ولا حد.

وقال أبو حنيفة: هو أن لا يعرف الرجل من المرأة، وقال مرة: لا يعرف قليلا ولا كثيرا.

وقال أبو يوسف: لا يكون هذا ولا يحد سكرانا إلا وهو يعرف شيئا، فإذا كان الغالب عليه اختلاط العقل واستقرئ سورة فلم يفهمها وجب عليه الحد .

[ ص: 113 ] وقال الشافعي: أقل السكر أن يغلب على عقله في بعض ما لم يكن عليه قبل (الشراب) .

قال ابن المنذر : وهذا أولى بالصواب؛ لقوله تعالى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [النساء: 43]، وقد كان الذين خوطبوا بهذه الآية قبل نزول تحريم الخمر يقربون الصلاة قاصدين لها في حال سكرهم عالمين بالصلاة التي لها يقصدون، وسموا سكارى لأن في الحديث أن أحدهم أمهم فخلط في القراءة فأنزل الله الآية . فقصدهم إلى الصلاة دلالة أن اسم السكران قد يستحق من عرف شيئا، وذهب عليه غيره ولو كان السكران لا يكون إلا من لا يعرف شيئا ما اهتدى سكران بمنزله أبدا; لأنه معروف أن السكران يأتي منزله، ويقال: جاءنا وهو سكران.

فصل:

هذا الباب حجة لقول مالك وأهل الحجاز أن المسكر كله من أي نوع كان من غير العنب فهو الخمر المحرم في الكتاب والسنة، ألا ترى أنه - عليه السلام - سئل عن البتع فقال: "كل شراب أسكر حرام" فعلمنا أن المسألة إنما وقعت على ذلك الجنس من الشراب ودخل فيه كل ما كان (في معناه) مما يسمى شرابا مسكرا من أي نوع كان.

فإن قال الكوفي: إن قوله: "كل شراب أسكر" يعني به: الجر الذي يحدث بعقبه السكر فهو حرام.

[ ص: 114 ] فجوابه: أن الشراب اسم جنس فيقتضي أن يرجع التحريم إلى الجنس وهذا كما نقول: هذا الطعام مشبع والماء مرو ويريد به الجنس وكل جزء منه يفعل ذلك الفعل، فاللقمة تشبع العصفور، وما هو أكبر منها يشبع ما هو أكبر من العصفور، وعلى هذا حتى تشبع الكبير، وكذا جنس الماء يروي الحيوان على هذا الحد، فكذلك النبيذ.

قال الطبري: يقال لهم: أخبرونا عن الشربة التي كان يعقبها السكر أهي التي أسكرت شاربها دون ما تقدمها أو من الاجتماع معها وأخذت كل شربة بحظها من الإسكار؟ فإن قالوا بالأول قيل لهم: وهل هذه التي حدث له ذلك عن شربها إلا لبعض ما تقدم من الشربات قبلها في أنها لو انفردت دون ما تقدم قبلها كانت غير مسكرة وحدها، وإنها إنما أسكرت باجتماعها واجتماع عملها، فحدث عن جميعها السكر، يوضحه لو أن رطلا من ماء العنب ألقيت فيه قطرة من خل فلم يتغير طعمه إلى الحموضة ثم تابعنا ذلك بقطرات كثيرة كل ذلك لا يتغير لها طعم الماء، ثم ألقينا آخر ذلك قطرة منه فتغير طعمه وحمض أترونه حمض من الآخرة أم حمض منها وغيرها؟

فإن قالوا: من الأخير، فقد قالوا ما يعلم العقلاء خلافه، فكابروا العقول; لأن أمثالها قد ألقيت فيه ولم يحدث ذلك فيه، فكان معلوما بذلك أن الحموضة حدثت عن جميع ما ألقي من الخل، وأنه لولا قوة عمل ما تقدم من قطرات الخل المتقدمة مع عمل الآخرة فيه لم يحدث ذلك فيه، وإن قالوا: حمض بالكل ولكنه ظهرت بالآخرة، قيل لهم: فهلا قلتم ذلك في الشراب الذي أسكر كثيره إنما أسكر باجتماع قوة الكل، ولكن السكر إنما ظهر فيه عند الأخيرة مع سائرها، كما [ ص: 115 ] قلتم في الماء الذي ظهرت فيه حموضة الخل، فتعلموا بذلك أن كل شراب أسكر كثيره يستحق بذلك قليله اسم سكر، وكذلك الزعفران والكافور المغير في أن قليل ذلك مستحق من الاسم والصفة فيما عمل فيه من التغيير مثل الذي هو مستحق كثيره.

قال المهلب : وإنما دخل الوهم على الكوفيين من حديث رووه عن ابن عباس: " حرمت الخمر بعينها والمسكر من غيرها"، وكذلك رواه شعبة وسفيان عن مسعر، عن أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد، وعن ابن عباس و(السكر) من غيرها ، هكذا رواية أبي نعيم عن مسعر، وإنما الحديث كما رواه ابن شبرمة، عن ابن شداد: السكر بغير ميم أيضا على الوهم، وهذا قد أسلفناه واضحا.

قال الأصيلي: وشعبة وسفيان أضبط ممن أسقط الميم على أن الحديث لم يسمعه ابن شداد من ابن عباس، قاله أحمد وقد بينه هشيم فقال: عن الثقة، عن ابن عباس، وقال مرة أخرى: عمن حدثه، عن ابن عباس: فهذا كله يدل على الوهم .

[ ص: 116 ] وقال النسائي: لم يسمعه ابن شبرمة من ابن شداد ، قلت: وقد سلف حديث نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " وأن مالكا وغيره أوقفه .

وعن نافع، عن ابن عمر وقيل: هو أقعد وأولى ممن أسنده عن نافع، وقد روى: "كل مسكر حرام" عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة منهم: أبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وبريد الأسلمي، ووائل بن حجر، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمرو، وأبو سعيد الخدري، ومعاوية، وأم سلمة، وعائشة، وابن مسعود، ذكرها الطبري في " تهذيبه".

وإن قال الكوفي: الدليل على صحة قولنا في التفريق بين عصير العنب وبين سائر الأشربة أن الآية كفرت مستحل عصير العنب دون نقيع التمر، فاعتلالهم بالتكفير ليس بشيء; لأنه إنما يقع فيما ثبت بالإجماع لا فيما ثبت من جهة الآحاد، ألا ترى أنه لا يكفر القائل بأن الصلاة تجوز بغير أم القرآن، ولا يكفر من أجاز النكاح بغير ولي، ولا من قال: الوضوء جائز بغير نية وأمثاله، وكذا من قال: لا يقطع سارق ربع دينار مع ثبوته عن رسول الله في أخبار الآحاد، ولا يسع أحد من العلماء أن يحرم ما قام له الدليل على تحريمه من الكتاب والسنة، وإن كان غيره يخالفه فيه لدليل استدل به ووجه من العلم أداه إليه وليس في شيء من هنا خروج من الدين ولا يكفر بما فيه الخطأ والصواب.

[ ص: 117 ] فصل:

إن قلت: ما وجه إدخال حديث أنس في الباب وليس فيه إلا النهي عن الانتباذ؟ أجاب عنه المهلب قال: هو موافق للتبويب، وذلك أن الخمر من العسل لا يكون إلا منبذا في الأواني بالماء الأيام حتى يصير خمرا، فإنه - عليه السلام - إنما نهى عن الانتباذ في الظروف المذكورة; لسرعة كون ما ينبذ فيها خمرا من كل ما ينبذ فيها.

فصل:

أوضح ابن التين أيضا الرد على المخالف، فقال: فيه رد على من قال: إن الإشارة بالمسكر في قوله: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" إنما وقعت الشربة الأخيرة أو إلى الجر الذي يظهر السكر على شاربه عند شربه، وذلك أنه معلوم من طريق العادة أن الإسكار لا يختص بجزء من الشراب دون جزء، وإنما يؤخذ آخر السكر في آخر المشروب على سبيل التعاون كالشبع بالمأكول وكل أمر يؤدي إلى نقص المتعارف فهو منقوص وليس في المتعارف أن يكون فعل الجر من الشيء أكثر من فعله كله، هذا محال وليس يخلو الشراب الذي يسكر كثيره إذا كان في الإناء أن يكون حلالا أو حراما، فإن كان حراما لم يجز أن يشرب منه قليل، فإن كان حلالا لم يجز أن يحرم منه شيء.

فإن قلت: الشراب حلال في نفسه ونهى الله أن يشرب منه ما يزيل العقل، قيل: ينبغي أن تكون الشربة التي تزيله ويسكر معلومة يعرفها كل شارب، إذ غير جائز أن يحرم الله تعالى على خلقه شيئا ويتعبد به ولا يحصل لهم السبيل إلى معرفة ما حرم الله.

[ ص: 118 ] ومعلوم أن طباع الناس مختلفة في مقدار ما يسكرهم منه، والتعبد لا يقع إلا بمعلوم.

فإن قيل: لما اختلف الناس في الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنب، حرمنا ما أجمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه.

قيل: أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وكل مختلف فيه من الأشربة مردود إلى تحريم الله ورسوله الخمر، وقد ثبت عنه - عليه السلام - : "كل شراب أسكر فهو حرام" وأشار إلى الجنس بالاسم العام والنعت الخاص الذي هو علة الحكم، فكان ذلك حجة على المختلفين، ولو لزم ما قاله هذا القائل للزم منه في الربا والصرف ونكاح المتعة; لأن الأمة قد اختلفت فيه، فلو كان كما سلف كان الربا محرما قبل تحريمه، فلما حرم نظرنا إلى ما أجمعوا عليه فحرمناه وأبحنا ما اختلفوا فيه، ولا بأس بالدرهم بالدرهمين يدا بيد، وإنما يحرم منه ما كان غائبا بناجز، وكذلك المتعة، فلما لم يلزم هذا وكان الحكم لما ورد به التحريم الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل يدا بيد، ولما ثبت من تحريم المتعة ولم يلتفت إلى الاختلاف ولم يعتد به وليس الاختلاف حجة وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين.

وقال الزجاج: قياس كل ما عمل من الخمر المجمع عليها أن يقال له: خمر وأن يكون بمنزلتها في التحريم; لأن إجماعهم أن يقال للقمار: كله حرام وإنما ذكر الميسر من بينه فجعله كله قياسا على الميسر، وهو إنما كان قمارا خاصة، فلذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.

التالي السابق


الخدمات العلمية