التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5321 5645 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه قال: سمعت سعيد بن يسار أبا الحباب يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يرد الله به خيرا يصب منه". [فتح: 10 \ 103]


ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها". وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي .

[ ص: 255 ] ثانيها:

حديث أبي سعيد الخدري سعد بن مالك وأبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه". وأخرجه مسلم والترمذي وحسنه .

ثالثها:

حديث سفيان، عن سعد - وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - ، عن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل المؤمن كالخامة من الزرع، تفيئها الريح مرة، وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة".

وقال زكرياء: حدثني سعد، ثنا ابن كعب، عن أبيه كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وأخرجه مسلم والنسائي ، وأغفله ابن عساكر.

والخامة: الطاقة الغضة اللينة من الزرع، وألفها منقلبة عن واو.

والأرزة: - بسكون الراء وفتحها - شجرة الأرز وهو خشب معروف، وقيل: الصنوبر.

وانجعافها: انقلاعها، يقال: جعفته فانجعف إذا قلعته فانقلع، وهو مطاوع جعفه جعفا.

قاله ابن سيده .

[ ص: 256 ] وقال الداودي : يريد كسرها من وسطها وانقلاعها. وأهل اللغة على ما سلف لكن يوضحه قوله في الحديث: "حتى يقصمها الله" أي: يكسرها.

رابعها:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء". وأخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح.

خامسها:

حديث أبي هريرة أيضا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من يرد الله به خيرا يصب منه". وأخرجه النسائي .

الشرح:

حديث أبي هريرة وأبي سعيد لما رواه الترمذي قال: قال ابن الجارود: وسمعت وكيعا يقول: لم يسمع في الهم أنه كفارة إلا في هذا الحديث .

وفي الباب أحاديث مثل أحاديث الباب، أخرجه مسلم من حديث جابر، ثنا أم المسيب: "لا تسبي الحمى فإنها تذهب بخطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" .

[ ص: 257 ] وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا يزال البلاء بالعبد المؤمن والمؤمنة حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة".

قال أبو هريرة: ما من وجع يصيبني أحب إلي من الحمى إنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم، وإن الله تعالى ليعطي كل مفصل قسطا من الأجر .

وأخرجه الترمذي مصححا من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا "ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" .

وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث أنس مرفوعا "إن الله إذا ابتلى المسلم ببلاء في جسده قال للملك: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه" .

ومن حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: "ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي" .

وسلف في البخاري في الجهاد من حديث أبي موسى مرفوعا: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل مقيما صحيحا" .

[ ص: 258 ] وفي لفظ: "إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فيشغله عنه مرض أو سفر كتب له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم" .

ولابن أبي شيبة أيضا من حديث أبي عبيدة يرفعه: "من ابتلاه الله ببلاء في جسده فهو حظه" .

ولابن بنت منيع من حديث خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد القسري، عن جده أسد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المريض تحات خطاياه كما يتحات ورق الشجر" .

وروينا في جزء القنطري داود بن علي : حدثنا ابن أبي مريم: ثنا نافع بن زيد: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن السائب، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن أزهر، عن أبيه أنه - عليه السلام - قال: "إنما مثل المؤمن حين يصيبه الوعك أو الحمى كمثل الحديدة المحماة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها" .

وللطبراني من حديث أبي المليح، عن محمد بن خالد، عن أبيه، عن جده - وكانت له صحبة - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن

[ ص: 259 ] العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها فعله ابتلاه في جسده وماله وولده ثم صبر على ذلك حتى تبلغه المنزلة التي سبقت له من الله"
.

وأخرجه أبو داود بمعناه من حديث عبد الله بن أبي إياس الضمري، عن أبيه، عن جده. ومن حديث إبراهيم السلمي، عن أبيه، عن جده، وكانت له صحبة .

ولأبي الليث، عن علي - رضي الله عنه - قال: لما نزل من يعمل سوءا يجز به [النساء: 123] خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لقد أنزلت علي آية هي خير لأمتي من الدنيا وما فيها" ثم قرأها ثم قال: "إن العبد إذا أذنب ذنبا فتصيبه شدة أو بلاء في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعذبه ثانيا". فقلنا: ما أبقت هذه الآية من شيء، فقال: "إنها لكما أنزلت".

[ ص: 260 ] وهذه الآية التي استفتح البخاري بها الباب.

وذكر ابن أبي شيبة : أن أبا هريرة - رضي الله عنه - (قال) : لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا، فقال: "إنها لكما أنزلت". فقال - عليه السلام - : " أبشروا وسددوا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عنه" .

زاد ابن التين بعد ("يشاكها"): "في قدمه"، قال: وروي عن ابن عباس من يعمل سوءا [النساء: 123] أي: من يشرك.

وعن الحسن: ذلك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد كرامته فلا. قال تعالى: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا [الأحقاف: 16] الآية .

ونقل ابن بطال، عن كثير من أهل التأويل أن معنى الآية: أن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة .

روي عن أبي بن كعب وعائشة ومجاهد، وروي عن الحسن وابن زيد: أنه في الكفار خاصة .

وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - وأبي سعيد وأبي هريرة [ما] يشهد بصحة الأول.

قال أبو الليث: وروى الحسن أن رجلا من الصحابة رأى امرأة كان يعرفها في الجاهلية فجعل يلتفت إليها فضربه حائط في وجهه، فأتى [ ص: 261 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: "إذا أراد الله بعبد خيرا يعجل عقوبة ذنبه في الدنيا" .

وروى ابن زنجويه حميد في كتابه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا "ما من مسلم يصيبه أذى مرض فما سواه إلا حط به من سيئاته".

وعن أبي أمامة مرفوعا: "ما من مسلم يصرع صرعة من مرض إلا بعث منها طاهرا" .

وعن شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة الأنصاري مرفوعا "الحمى كير من جهنم وهي نصيب المؤمن" .

وعن الحسن أنه قال: إن الله تعالى ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة.

وعن ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن أبي عثمان الأصبحي - وله صحبة - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: "لو كان الله يريد به خيرا لطهر جسده بالمرض".

وعن (ابن) إسحاق، عن رجل من أهل الشام، عن عمه، عن عامر الرام أخي الخضر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن المؤمن

[ ص: 262 ] إذا أصابه السقم ثم عافاه منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل"
.

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا: "عجبا للمؤمن لو كان يعلم ما له في السقم أحب أن يكون سقيما حتى يلقى ربه، وإن عبدا مرض فقال الله للحفظة: اكتبوا لعبدي الذي كان يعمل في يومه وليلته ولا تنقصوه شيئا فله أجر ما حبسته وله أجر ما كان يعمل" .

وعن شداد بن أوس مرفوعا: "قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الله تعالى للحفظة: اجزوا لعبدي بما كنتم تجزون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح" .

ورواه أيضا من حديث عقبة بن عامر وفيه ابن لهيعة.

وما ذكرناه من حديث ابن مسعود يخالف ما ذكره ابن بطال عنه حيث قال: وروي عن ابن مسعود أنه قال: الوجع لا يكتب به الأجر ولكن تكفر به الخطيئة.

ثم قال: فإن قيل: إن ظاهر هذه الآثار تدل على أن المريض إنما تحط عنه بمرضه السيئات فقط دون الزيادة.

[ ص: 263 ] وقد ذكر البخاري في الجهاد حديث أبي موسى السالف وظاهره مخالف لآثار الباب; لأن في حديث أبي موسى يزاد على التكفير.

قيل له: ليس ذلك بخلاف وإنما هو زيادة بيان على آثار الباب التي جاءت بتكفير الخطايا بالوجع لكل مؤمن.

وفي حديث أبي موسى معنى آخر وهو: أن من كانت له عادة من عمل صالح ومنعه الله منه بالمرض أو السفر وكانت نيته أن لو كان صحيحا أو مقيما أن يدوم عليه فإن الله يتفضل عليه بأن يكتب له ثوابه.

فأما من لم يكن له تنفل ولا عمل صالح فلا يدخل في معنى الحديث; لأنه لم يكن يعمل في صحته أو إقامته بما يكتب له في مرضه أو سفره، فحديث أبي موسى المراد به: الخصوص، وأحاديث الباب المراد بها: العموم وكل واحد منها يفيد معنى غير معنى صاحبه فلا يخالف وقد سلف الكلام على حديث أبي موسى في الجهاد .

فصل:

وقوله: ("حتى الشوكة يشاكها") أي: يصاب بها. وحقيقة هذا اللفظ: أن تكون الشوكة يدخلها غيره في جسده.

قال الكسائي: شكت الرجل الشوكة: إذا دخلت في جسده شوكة . وشيك هو على ما لم يسم فاعله يشاك شوكا، وقال الأصمعي: يقال: شاكتني الشوكة تشوكني إذا دخلت في جسده .

[ ص: 264 ] فلو كان أراد أن تصيبه الشوكة لقال: حتى الشوكة تشوكه ولكنه جعلها - أعني الشوكة - مفعولة وجعله هو مفعولا به، أيضا، نبه عليه ابن التين .

والنصب والتعب والوصب: المرض. يقال: منه وصب يوصب فهو موصب.

وقوله: (من هم ولا غم) معناهما واحد، وكرر لاختلاف اللفظ. وقيل: الهم المرض من: همه المرض إذا أذابه فيكون كمثل الوصب.

فصل:

وقوله: (وقال زكريا: حدثني سعد ..) إلى آخره هذا التعليق أخرجه مسلم عن أبي بكر، ثنا عبد الله بن نمير ومحمد بن بشر قالا: ثنا زكريا به.

ثم رواه من حديث جماعة، عن سفيان، عن سعد به وسمي مرة ابن كعب، فقال: عن عبد الله بن كعب بن مالك . كما ساقه أولا، والنسائي لما ذكر حديث ابن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان قال عبد الله بن كعب بن مالك فأسقط سعد بن إبراهيم .

فصل:

والخامة: بالخاء المعجمة وتخفيف الميم أسلفنا تفسيرها وهي ورقة الزرع الغضة الرطبة، وقيل: الضعيفة.

[ ص: 265 ] وقال ابن سيده في "محكمه": هي أول ما تنبت على ساق واحدة ، وبه جزم صاحب "العين" وقيل: هي الطاقة الغضة منه. وقيل: الشجرة الغضة الرطبة .

قال القزاز: وروي الخافة بالفاء وهي: الطاقة من الزرع.

وقوله: ("تفيئها") أي: تميلها.

وقال أبو عبد الملك: ترقدها، حكاه ابن التين .

قال: والذي في اللغة أن فاء: إذا رجع، وأفاء غيره رجعه، قال صاحب "المطالع": وفي رواية أبي ذر: تفيأها بفتح التاء والفاء.

ومعنى ("تعدلها") بفتح التاء وكسر الدال: ترفعها.

والأرزة بفتح الهمزة وسكون الراء وفتحها كما أسلفته. قال صاحب "المطالع": الرواية بالسكون.

وقال أبو عبيدة: إنما هو الآرزة على وزن فاعلة، ومعناها: الثابتة في الأرض، وأنكر هذا أبو عبيد ، وقال أبو حنيفة: راؤه ساكنة وليس هو من نبات العرب ولا السباخ، والأرز مما يطول طولا شديدا ويغلظ، وأخبرني الخبير أنه ذكر الصنوبر وأنه لا يحمل شيئا، ولكن يستخرج من أعجازه وعروقه الزفت .

وقال القزاز: رواها أصحاب الحديث بالسكون على فعلة. (ورواها قوم الآرزة على فاعلة .

[ ص: 266 ] وروى قوم: الأرزة على فعلة محركة العين، قالوا: وهو ضرب من الشجر، يقال له: الأرزن له صلابة.

وفسره قوم على لفظ الحديث بالسكون، وقالوا: الأرز شجر معروف، واحده: أرزة وهو الذي يقال له: الصنوبر، (وإنما الصنوبر) ثمر الأرز، سمي صنوبرا من أصل ثمره.

وقال الخطابي : الأرزة مفتوحة الراء من الشجر، واحده: الأرزة. قال: ويقال: هو شجر الصنوبر .

وقال ابن فارس: هي شجرة بالعراق تسمى: الصنوبر .

وأما قول الداودي : هي شجرة الأرز فلا أعلم له معنى. وفي "المحكم": والأرز: العرعر، وقيل: هو شجر بالشام. يقال لثمره: الصنوبر، والأرزة والأرزة جميعا .

وقال الجوهري أبو عمرو: الأرزة بالتحريك: شجر الأرزن. وقال أبو عبيدة: الأرزة بالتسكين: شجر الصنوبر، والجمع أرز .

وعبارة ابن بطال: الأرز من أجل الخشب .

فصل:

وقوله: ("من حيث أتتها الريح كفأتها") أي: قلبتها مهموز ووقع في بعض النسخ بغير همز وكأنه سهل الهمزة.

[ ص: 267 ] وقوله: ("صماء") أي: صلبة ليست مجوفة.

وقوله: ("حتى يقصمها الله إذا شاء") أي: يكسرها حتى تبين.

ومعنى الحديث: أن المؤمن ملقى بالأمراض وغيرها كالزرع كثير الميلان لضعف ساقه، والمنافق لا يعرض له مرض يؤجر فيه حتى يصرع للموت مرة واحدة.

قال المهلب : معنى الحديث أن المؤمن من حيث جاءه أمر الله انطاع له ولان ورضيه، وإن جاءه مكروه رجا فيه الخير والأجر، فإذا سكن البلاء منه اعتدل قائما بالشكر له على البلاء والاختبار وعلى المعافاة من الأمر المختبر به، منتظرا لاختيار الله له ما شاء مما حكم له بخير به في دنياه أو كريم مجازاته في أخراه.

والكافر كالأرزة صماء معتدلة لا يتفقده الله باختبار، بل يعافيه في دنياه وييسر عليه أموره ليعسر عليه في معاده حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه قصمة الأرزة الصماء فيكون موته أشد عذابا عليه وأكثر ألما في خروج نفسه من ألم النفس المبتلية بالبلاء المأجور عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية