التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
39 [ ص: 80 ] 29 - باب: الدين يسر

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة".

39 - حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". [5673، 6463، 7235 - مسلم: 2816 - فتح: 1 \ 93]


ثنا عبد السلام بن مطهر نا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

التعليق الأول أسنده أحمد من حديث ابن عباس بإسناد لا بأس به، وكذا ابن أبي شيبة في "مسنده" وأسنده الطبراني بنحوه بإسناد ضعيف من حديث عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، ومن حديث عفير بن معدان، عن [ ص: 81 ] سليم بن عامر عنه.

ثانيها:

أخرج البخاري طرفا من الحديث الثاني في الرقاق عن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رفعه: "لن ينجي أحدا منكم عمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا". وله في حديث آخر: "وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل".

ثالثها: في التعريف برواة الحديث:

أما أبو هريرة فسلف.

وأما سعيد فهو أبو سعد -بإسكان العين- سعيد بن أبي سعيد، واسمه كيسان المقبري المدني، والمقبري يقال: بضم الباء وفتحها نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاورا لها، وقيل: كان منزله عند المقابر وهو بمعنى الأول، وقيل: جعله عمر على حفر القبور; فلذلك قيل له: المقبري، حكاه الحربي وغيره، ويحتمل أنه اجتمع فيه ذلك كله فكان على حفرها و (كان) نازلا عندها، والمقبري صفة لأبي سعيد، وكان مكاتبا لامرأة من بني ليث بن بكر.

سمع جمعا من الصحابة منهم أبو هريرة وابن عمر وخلقا من التابعين منهم أبوه، وعنه يحيى الأنصاري، وغيره من التابعين، [ ص: 82 ] ومالك، وغيره من الأعلام. قال أبو زرعة : ثقة. وقال أحمد: لا بأس به.

وقال (محمد) بن سعد: كان ثقة كثير الحديث، ولكنه كبر وبقي حتى اختلط قبل موته، وقدم الشام مرابطا وحدث ببيروت. وقال غيره: اختلط قبل موته بأربع سنين.

قلت: فلعل معن بن محمد سمع من سعيد قبل اختلاطه; فلذا أخرج البخاري عنه. مات سنة خمس وعشرين ومائة، وقيل: سنة ست وعشرين.

وأما معن فهو ابن محمد بن معن بن نضلة الغفاري الحجازي، سمع جمعا، وعنه جمع منهم: ابن جريج، أخرج له البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه، وذكره ابن حبان في "ثقاته".

وأما عمر فهو أبو حفص عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري، سمع جمعا من التابعين منهم: هشام بن عروة، وعنه خلق من الأعلام منهم: ابنه عاصم، وعمرو بن علي، وهو أخو أبي بكر وكان مدلسا.

قال أحمد: ثقة. وقال ابن سعد : كان ثقة يدلس تدليسا شديدا يقول: سمعت وحدثنا، ثم يسكت ثم يقول: هشام بن عروة، الأعمش . وقال عفان: كان رجلا صالحا، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس، ولم [ ص: 83 ] أكن أقبل منه حتى يقول: ثنا.

قال البخاري : قال ابنه عاصم: مات سنة تسعين ومائة. وقيل: سنة اثنتين وتسعين.

قلت: فلعل البخاري ثبت عنده سماع (عمر) (من) معن وإن أتى فيه بالعنعنة.

وأما عبد السلام (خ. د) فهو أبو ظفر -بفتح الظاء المعجمة والفاء- ابن مطهر بن حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي البصري، روى عن جمع من الأعلام منهم شعبة، وعنه الأعلام: البخاري وأبو داود .

قال أبو حاتم: صدوق. مات في رجب سنة أربع وعشرين ومائتين.

فائدة: هذا الإسناد ما بين مدني وبصري.

رابعها: في ألفاظه:

قوله: ("الدين يسر") أي: ذو يسر. كما قال تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج [الحج: 78]، وقال: ويضع عنهم إصرهم [الأعراف: 157]، واليسر -بإسكان السين وضمها: نقيض العسر، ومعناه: التخفيف.

[ ص: 84 ] وقوله: ("ولن يشاد الدين إلا غلبه") هكذا وقع للجمهور من غير لفظة "أحد"، وأثبتها ابن السكن وهو ظاهر، والدين على هذا منصوب، وأما على الأولى فروي بنصبه، وهو ضبط أكثر أهل الشام على إضمار الفاعل في "يشاد" للعلم به، ورفعه وهو رواية الأكثر كما حكاه صاحب "المطالع"، وهو مبني لما لم يسم فاعله.

قال أهل اللغة: المشادة: المغالبة، يقال: شاده يشاده مشادة إذا غالبه وقاواه (ومعناه): لا يتعمق أحد في الدين ويترك الرفق إلا غلبه الدين، وعجز ذلك المتعلم وانقطع عن عمله كله أو بعضه.

ومعنى "سددوا": اقصدوا السداد في الأمور، وهو: الصواب، "وقاربوا" في العبادة، "وأبشروا": أي بالثواب على العمل وإن قل، والغدوة: السير أول النهار.

قال في "المحكم": الغدوة البكرة، وكذا الغداة.

قال الجوهري : (الغدوة) ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، يقال: أتيته غدوة غير مصروفة; لأنها معرفة مثل سحر إلا أنها من الظروف المتمكنة، تقول: سير على فرسك غدوة وغدوة وغدوة وغدوة فما نون من هذا فهو نكرة، وما لم ينون فهو معرفة، والجمع: غدا. والغدو: نقيض الرواح.

وفي شرح شيخنا قطب الدين أن الغدو: السير أول النهار إلى الزوال.

[ ص: 85 ] والروحة: آخر النهار; وذكر ابن سيده: أنه العشي. وقيل: من لدن زوال الشمس إلى الليل، ورحنا رواحا وتروحنا: سرنا ذلك الوقت أو عملنا.

"والدلجة" -بضم الدال وإسكان اللام- هكذا الرواية، ويجوز في اللغة فتحها، ويقال: بفتح اللام أيضا، وهي بالضم: سير آخر الليل، (وبالفتح سير الليل)، وأدلج بالتخفيف: سير الليل كله، وبالتشديد: سير آخر الليل، هذا هو الأكثر، وقيل: يقال (فيهما بالتخفيف والتشديد.

قال ابن سيده: الدلجة: سير السحر، والدلجة: سير الليل كله، والدلج والدلجة والدلجة -الأخيرة عن ثعلب- الساعة) من آخر الليل. وأدلجوا: ساروا الليل كله، وقيل: الدلج: الليل كله من أوله إلى آخره، وأي ساعة سرت من الليل من أوله إلى آخره فقد أدلجت على مثال أخرجت.

والتفرقة بين أدلجت وادلجت قول جميع أهل اللغة إلا الفارسي، فقد حكى أدلجت وادلجت لغتان في المعنيين جميعا.

[ ص: 86 ] وفي "جامع القزاز": الدلجة والدلجة لغتان بمعنى وهما: سير السحر.

وقال قوم: الدلجة: سير السحر، والدلجة بالفتح سير [أول الليل، كلاهما بمعنى عند أكثر العرب، كما تقول: مضت برهة من الدهر وبرهة، وغلط ابن درستويه ثعلبا في تخصيص ادلج بالتشديد بسير أول الليل، وبالتخفيف بسير آخره، قال: وإنما هما عندنا جميعا: سير الليل في كل وقت، من أوله ووسطه وآخره.

خامسها: في معنى الحديث:

ومعناه كالأبواب قبله، أن الدين اسم يقع على الأعمال، والدين والإيمان والإسلام بمعنى، والمراد بالحديث: الحث على ملازمة [ ص: 87 ] الرفق في الأعمال، والاقتصار على ما يطيق العامل ويمكنه المداومة عليه، وأن من شاد الدين وتعمق انقطع وغلبه الدين وقهره.

ثم أكد - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى فقال: "سددوا") إلى آخره، أي: اغتنموا أوقات نشاطكم وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدوام لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط واستعينوا بها على تحصيل السداد والوصول إلى المراد، كما أن المسافر إذا سار الليل والنهار عجز وانقطع عن مقصده، وإذا سار غدوة -وهي أول النهار- وروحة -وهي آخره- ودلجة -وهي آخر الليل- حصل له مقصوده بغير مشقة ظاهرة، وأمكنه الدوام على ذلك.

وهذه الأوقات الثلاثة هي أفضل أوقات المسافر للسير، فاستعيرت هذه الأوقات لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" فشبه - صلى الله عليه وسلم - الإنسان في الدنيا بالمسافر، وكذا هو في الحقيقة; لأن الدنيا مطية الآخرة، فنبه - صلى الله عليه وسلم - على اغتنام أوقات الفراغ، وإنما قال: "وشيء من الدلجة" ولم يقل: والدلجة; تخفيفا عنه لمشقة عمل الليل، اللهم هون علينا هذه الأعمال في التبكير والآصال.

التالي السابق


الخدمات العلمية