التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5424 5756 - حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة" [5776 - مسلم: 2224 - فتح 10 \ 214]


ذكر فيه حديث أبي هريرة أيضا وقال: "الكلمة الصالحة".

وحديث أنس مرفوعا: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح؛ الكلمة الحسنة".

(وأخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح ) .

قال الخطابي : الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل مأخوذ من طريق حسن الظن بالله تعالى، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه .

وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل، فقال: هو أن يكون مريضا فيسمع: يا سالم أو يكون غائبا فيسمع: يا واجد.

قلت: وكان - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن اسم الأرض والجبل والإنسان، فإن كان حسنا سر به واستبشر، وإن كان سيئا ساءه ذلك، كما سأعقد له فصلا.

[ ص: 507 ] وزعم بعض المعتزلة أن قوله: ("لا طيرة") يعارض قوله: ("الشؤم في ثلاث")، وهو تعسف وبعد عن العلم، فحديث الطيرة مخصوص بحديث الشؤم، فكأنه قال: لا طيرة إلا في هذه الثلاثة لمن التزم الطيرة، يوضحه حديث زهير بن معاوية، عن عتبة بن حميد، عن عبد الله بن أبي بكر أنه سمع أنسا يقول: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا طيرة، والطيرة على من تطير، وإن تكن في شيء ففي الدار والمرأة والفرس" أخرجه ابن حبان في "صحيحه" .

وفي "مسند أبي الدرداء" لإبراهيم بن محمد بن عبيد: شؤم الفرس: أن لا يحمل عليها في سبيل الله. وقد سلف، فبان بهذا الحديث أن الطيرة إنما تلزم من تطير بها، وأنها في بعض الأشياء دون بعض، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: الطيرة في هذه الثلاثة، فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة فلم ينتهوا، فبقيت في الثلاثة التي كانوا يلتزمون التطير فيها، ومثله قوله تعالى: إنا تطيرنا بكم قالوا طائركم معكم أي: حظكم من الخير والشر معكم ليس هو من شؤمنا، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الدار: "اتركوها ذميمة" فإنما قال ذلك لقوم علم منهم أن

[ ص: 508 ] الطيرة والتشاؤم غلب عليهم وثبت في نفوسهم; لأن إزاحة ما ثبت في النفس عسير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق" .

وفي "علل الدارقطني" من حديث أبي ذر مرفوعا: "من خرج من بيته ثم رجع من الطيرة رجع كافرا". وقال: الأشبه وقفه .

وليس في قوله: "دعوها ذميمة" أمر منه بالتطير، كيف وقد قال: "لا طيرة" وإنما أمرهم بالتحول عنها لما قد جعل الله في غرائز الناس من استثقال ما نالهم فيه الشر وإن كان لا سبب له في ذلك، وحب

[ ص: 509 ] من جرى لهم الخير على يديه، وإن لم يردهم به، وكان الشارع يستحب الاسم الحسن والفأل الصالح، وقد جعل الله تعالى في فطرة الناس محبة الكلمة الحسنة والفأل الصالح والأنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبشرى والمنظر الأنيق، وقد يمر الرجل بالماء الصافي فيعجبه وهو لا يشربه وبالروضة المنورة فتسره وهي لا تنفعه. وفي بعض الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الأترج والفاغية وهي نور الحناء، وهذا مثل إعجابه بالأسماء الحسنة والفأل الحسن، وعلى حسب هذا كانت كراهته للاسم القبيح، كبني النار وبني حزن وشبهه، وقد كان كثير من أهل الجاهلية لا يرون الطيرة شيئا ويمدحون من كذب بها، قال المرقش:


ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحائم     فإذا الأشائم كالأيا
من والأيامن كالأشائم



كذا عزاه ابن بطال إلى المرقش ، وعزاه غيره إلى حرز بن ذكوان، فلعله هو، وأوله:


ولا يقعدنك عن بغا     ء الخير تعقاد التمائم



وبعد البيتين:


وكذاك لا خير ولا     شر على أحد بدائم
قد خط ذاك في كتا     ب الأوليات القدائم



وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس - رضي الله عنهما - ، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير فقال ابن عباس: ما عندها لا خير ولا شر .

[ ص: 510 ] فصل:

قال ابن الأثير: الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن، وهي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تطير، يقال: تطير طيرة، وتخير خيرة، ولم يجئ من المصادر هكذا غير هذين، وأصل التطير - فيما يقال - هو التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، ومنه الحديث: "الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل" . كذا جاء مقطوعا ولم يذكر المستثنى فحذف اختصارا واعتمادا على فهم السامع، وهذا كالحديث الآخر: "وما منا إلا من هم أو لم إلا يحيى بن زكريا" فأظهر المستثنى.

[ ص: 511 ] وقيل : إن قوله: "وما منا" من قول ابن مسعود أدرجه في الحديث. وإنما جعلها من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم خيرا إذا عملوا بموجبه، فكأنهم أشركوه مع الله في ذلك.

وقوله: ("ولكن الله يذهبه بالتوكل"). معناه: إذا خطر له عارض التطير فتوكل على الله وسلم إليه ولم يعمل بذلك الخاطر لم يؤاخذ به .

فصل:

قوله هنا: ("الشؤم في ثلاث"). وفي رواية: "إن كان الشؤم في شيء ففي" . كذا مع قوله: "لا طيرة". قال ابن الجوزي: غلطت عائشة - رضي الله عنها - على من روى هذا الحديث، وقالت: إنما كان

[ ص: 512 ] أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في كذا وكذا. وهو رد (لصريح خبر رواه ثقات) ، والصحيح أن المعنى: إن خيف من شيء أن يكون سببا لما يخاف شره ويتشاءم به فهذه الأشياء، لا على سبيل الذي يظنه أهل الجاهلية من الطيرة والعدوى. وقال الخطابي : لما كان الإنسان لا يستغني عن هذه الأشياء الثلاثة، ولكن لا يسلمن من عارض مكروه فأضيف إليها الشؤم إضافة محل .

فصل:

الشؤم مهموز: نقيض اليمن، تقول: ما أشأم الرجل. قال الجوهري: والعامة تقول: ما أشأمه .

ويسمى كل محذور ومكروه مشؤما ومشأمة، والشؤمى: الجهة اليسرى، وأصحاب المشأمة: الذين سلك بهم طريق النار; لأنها على الشمال. وقيل: لأنهم مشائيم على أنفسهم. وقيل: لأنهم أخذوا كتابهم بشمالهم.

فصل:

نقل ابن التين عن معمر أنه سمع من يقول: شؤم المرأة أن لا تلد، والدابة إذا لم يغز عليها، والدار جار السوء . قال: إنه حسن; لأنه - صلى الله عليه وسلم - نفى الشؤم والطيرة، فقال: "لا شؤم ولا طيرة". قال: وقيل: لم يسمع الراوي الحديث، وأوله: "إن الجاهلية تقول: الشؤم في ثلاث" فحكى [ ص: 513 ] ما سمع، وقيل: يكون الشؤم لقوم دون قوم.

فصل:

الفأل مهموز، وجمعه: فئول.

قال الخطابي : وإنما صار خير أنواع هذا الباب لأن مصدره عن نطق وبيان، فكأنه خبر جاءك عن غيب، وأما سنوح الطير وبروحها فليس فيه شيء من هذا المعنى، وإنما هو تكلف من المتطير، وتعاط لما لا أصل له في نوع علم وبيان; إذ ليس للطير والبهائم نطق ولا تمييز يستدل بنطقها على مضمون معانيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل، فلذلك تركت واستؤنس بالفأل . ومعنى سنوحها وبروحها أن الأول: ما ولاك ميامنه، وذلك إذا مر من مياسرك إلى ميامنك، والعرب تتيمن به، وتتشاءم بالسارح; لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف إليه. وفي المثل: من لي بالسانح بعد البارح.

فصل:

حكى ابن العربي في تأويل قوله: "لا طيرة" قولين: هل معناه الإخبار عما تعتقده الجاهلية، أو الإخبار عن حكم الله الثابت في الثلاثة; بأن الشؤم فيها عادة أجراها الله، وقضاء أنفذه يوجده حيث شاء فيها متى شاء.

قال: والأول ساقط; لأن الشارع لم يبعث ليخبر عن الناس ما كانوا يعتقدونه، إنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعلموه ويعتقدوه.

[ ص: 514 ] فصل: سلف الوعد به:

روى الترمذي - صحيحا - عن أنس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا نجيح، يا راشد .

وهذا من التفاؤل.

ولأبي داود عن بريدة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث (عاملا) سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها، فإن أعجبه فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رئي كراهة ذلك في وجهه .

وفي رواية: "من عرض له من هذه الطيرة شيء، فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله" .

[ ص: 515 ] وروى قاسم بن أصبغ أن بريدة لما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قاصد المدينة، قال: "ما اسمك"؟ قال: بريدة. فالتفت إلى أبي بكر، فقال: "برد أمرنا وصلح، ممن"؟ قال: من أسلم. فقال لأبي بكر: "سلمنا". ثم قال: "ممن"؟ قال: من بني سهم. قال: "خرج سهمنا" .

وروى ابن صاعد في "مناسكه" عن أبي حدرد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الحديبية: "من يسوق إبلنا"؟ فقال رجل: أنا. فقال: "ما اسمك"؟ قال: فلان. قال: "اجلس". فقام آخر، فقال: "ما اسمك"؟ قال: ناجية. قال: "سقها" .

وفيه عن يعيش الغفاري قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بناقة، فقال: "من يحلبها"؟ فقام رجل، فقال: "ما اسمك"؟ قال: مرة. قال: "اقعد".

ثم قام آخر، فقال: "ما اسمك"؟ قال: (جمرة) . قال: "اقعد". فقام يعيش، فقال: "ما اسمك"؟ قال: يعيش. قال: "احلبها" .


[ ص: 516 ] ولابن عدي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا" .

وعند الزمخشري: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له" .

وفي رواية عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعا: "ويعجبني الفأل الصالح". قالوا: وما الفأل الصالح؟ قال: "الكلمة الطيبة" .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة فأعجبته فقال: "أخذنا فألك من فيك" .

[ ص: 517 ] وقال عروة بن عامر: ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله" .

وعن قبيصة مرفوعا: "العيافة والطيرة والطرق من الجبت" .

فصل:

أخذ مالك بظاهر قوله: "الشؤم في ثلاث" وحمله على ظاهره. قال القرطبي: ولا يظن بمن قال هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الثلاثة الأشياء (هو على ما كانت الجاهلية تعتقد فيها فإن ذلك خطأ، وإنما يعني بذلك أن هذه الأشياء) أكثر ما يتشاءم الناس به; لملازمتهم إياها - ولذلك خصها بالذكر. وقد سلف ذلك، وقد يصح حمله على أعم من ذلك فيدخل فيه الدكان والفندق و(الحارة) وغيرها - فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه، ولم يلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه أو امرأة يكرهها، بل قد فسح الله له في ترك ذلك كله، لكن مع اعتقاد أن الله هو الفعال لما يريد .

[ ص: 518 ] وأنشد المبرد في "كامله":


يعلم المرء ليلا ما يصبحه     إلا كواذب ما يخبر الفال
والفأل والزجر والكهان كلهم     مضللون ودون الغيب أقفال



وقال صابئ بن الحارث البرجمي هذه الأبيات:


وما عاجلات الطير تدني من الفتى     نجاحا ولا عن ريثهن يخيب
ورب أمور لا تضيرك ضيرة     وللقلب من مخشاتهن وجيب
ولا خير فيمن يوطن نفسه     على نائبات الدهر حين تنوب



وللبيد بن ربيعة:


لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى     ولا زاجرات الطير ما الله صانع
فسلهن إن أحدثن علما متى الفتى     يذوق المنايا أم متى الغيب واقع



ورأى أعرابي في دهليز عبيد الله بن زياد صورة أسد وكلب وكبش، فقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح. فقال: أما - والله - لا يتمتع بهذه الدار أبدا. فما لبث عبيد الله أياما حتى قتل.

وتفاءل هشام بن عبد الملك بنصر بن سيار فقلده خراسان، فكان بها عشرة أحوال.

ولما سار عامر بن إسماعيل صاحب السفاح في طلب مروان بن محمد اعترضه بالفيوم ناس، فسأل رجلا منهم عن اسمه فقال: منصور بن سعد من سعد العشيرة. فتبسم تفاؤلا به، فظفر بمروان في تلك الليلة .

[ ص: 519 ] وتفاءل المأمون (بنصر) بن بسام فكان ذلك سبب مكانته عنده.

وقال بعضهم: خرجت في بغاء ناقة لي ضلت، فسمعت قائلا يقول:


ولئن نعت لنا النعا     ة فما النعاة بواجدينا

فلم أتطير منه ومضيت، فلقيني رجل قبيح الصورة به ما شئت من عاهة، فما ثناني ذلك وتقدمت، فلاحت لي أكمة فسمعت منها: والشر يلقى مطالع الأكم. فلم أكترث له، فلما علوتها وجدت ناقتي تفاجت للولادة فنتجتها وعدت إلى أهلي مع ولدها.

وقال بشير غلام حرب الراوندي للمنصور يوم قتل أبي مسلم: يا أمير المؤمنين، رأيت اليوم ثلاثة أشياء تطيرت لأبي مسلم منها. قال: وما ذاك؟ قال: ركب فوقعت قلنسوته عن رأسه، وكبا به فرسه، وسمعته يقول: إني مقتول وإنما أخادع نفسي، فإذا رجل ينادي في الصحراء: لآخر اليوم آخر الأجل بيني وبينك. فقال المنصور: الله أكبر، ذهب أجله وانقطع من الدنيا أثره. فكان كذلك.


ألا أيها العادي على دين طائر     ليكذبه حزما وليس له حزم
وما لغراب البين بالبين خبرة     ولا لغراب البين بالملتقى علم



وخرج النابغة الذبياني - واسمه زياد - مع زبان بن سيار الفزاري للغزو، فلما أراد الرحيل نظر إلى جرادة سقطت عليه فقال:


جرادة تجردت وذات     لونين غيري من حرج



فلم يلتفت زبان إلى طيرته وسار فرجع غانما، فقال زبان:


تخير طيرة فيها زياد     لتخبره وما فيها خبير
[ ص: 520 ] أم كان لقمان بن عاد     أشار له بحكمته مشير
يعلم أنه لا طير إلا     على متطير وهو البتور
بلى شيء يوافق بعض شيء     أحايينا وباطله كثير

التالي السابق


الخدمات العلمية