التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5429 5762 - حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هشام بن يوسف، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناس عن الكهان، فقال: "ليس بشيء". فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تلك الكلمة من

[ ص: 525 ] الحق، يخطفها من الجني، فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة".
قال علي: قال عبد الرزاق: مرسل "الكلمة من الحق". ثم بلغني أنه أسنده بعده. [انظر: 3210 - مسلم: 2228 - فتح 10 \ 216]


ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث أبي هريرة من طريقين أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، وفي آخره: "إنما هذا من إخوان الكهان". (وهو من أفراده في الأول، والثاني يأتي في الديات، وأخرجه معه مسلم والنسائي قريبا في آخر الثاني عن ابن شهاب، عن ابن المسيب أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين. وهذا مرسل، وأخرجه كذلك النسائي ، وأسنده الإسماعيلي من طريق ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة وقال: أسنده ابن أبي ذئب ويونس، وأرسله مالك وفليح) .

ثانيها:

حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن. وقد سلف (في البيوع والإجارة والطلاق، وأخرجه مسلم والأربعة) .

[ ص: 526 ] ثالثها:

حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناس عن الكهان، فقال: "ليس بشيء" .. الحديث. وفي آخره: قال علي: قال عبد الرزاق: مرسل "الكلمة من الحق". ثم بلغني أنه أسنده بعد. (ويأتي في الأدب والتوحيد، وأخرجه مسلم أيضا) .

وفي هذه الأحاديث ذم الكهان، وذم من تشبه بهم في ألفاظهم; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كره قول ولي المرأة لما أشبه سجع الكهان الذي يستعملونه في الباطل ودفع الحق، ألا ترى أنه أتى بسجعة (سجعها) على الشارع في دفع شيء قد أوجبه عليه، فاستحق بذلك غاية الذم وشدة العقوبة في الدنيا والآخرة، غير أنه - صلى الله عليه وسلم - جبله الله على الصفح عن الجاهلين وترك الانتقام لنفسه فلم يعاقبه في اعتراضه عليه، كما لم يعاقب الذي قال له: إنك لم تعدل منذ اليوم، ولم يعاقب موالي بريرة في اشتراطهم ما يخالف كتاب الله وأنفذ حكم الله في كل ذلك.

فإن قلت: فالسجع كله مكروه؟

قلنا: لا، قد وقع في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: "يقول العبد مالي مالي، وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأبقيت" . نبه عليه ابن النحاس.

[ ص: 527 ] فصل:

قوله: (فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصابت بطنها وهي حامل فقتلت ولدها فقضى فيه بالغرة). فصلت المالكية فقالوا: إذا ضربها في بطنها وخرج الجنين بعد حيا ثم مات بعد أن استهل فعليه القود عند ابن القاسم، خلافا لأشهب، وإن ضربها في ظهرها فعليه القود عند ابن القاسم، وإن ضرب رأسها فخلاف بين ابن أبي زيد وأبي موسى بن مياس، فألحقه الأول بالرجل واليد، وألحقه الثاني بالبطن والظهر .

فصل:

قوله: (فقتلت جنينها الذي في بطنها). وقال بعد: فطرحت جنينها. يريد ميتا، كما فسره في مسلم.

فصل:

قال كافة العلماء بالغرة، وخالف فيه قوم فقالوا: لا شيء فيه; حكاه في "المعونة" ، وهو منابذ للنص فلا يلتفت إليه.

فصل:

الغرة: الخيار، فعبر عن الجسم كله بها، قال مالك: الحمران أحب إلى من السودان. يريد البيض، فإن لم يكن في البلد فالسود; قاله الأبهري.

وقال أبو عمرو بن العلاء: لا يؤخذ إلا من البيض; لقوله: غرة، وإلا لقال: عبدا أو وليدة.

[ ص: 528 ] فصل:

قال مالك عن ربيعة: يقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم.

قال أشهب: ولا يؤخذ من أهل الإبل غيرها كالدية وهي خمس فرائض: بنت مخاض، وبنت لبون، وابن لبون، وحقة، وجذعة .

وفي "المدونة": لا تؤخذ الإبل .

وقال ابن القاسم: تؤخذ من أهل الإبل، والعين من أهله.

وقال أشهب: كل جنس عليهم كسبهم .

وقال عيسى: القاتل مخير بين إعطاء غرة قيمتها ما سلف، أو يعطي الدراهم أو الدنانير.

ونقل ابن شعبان في "زاهيه" عن بعض أصحابهم أن الغرة أيضا: الخيل.

فصل:

قوله: (غرة عبد أو أمة). يروى بالتنوين والإضافة، وعزي الأول إلى سائر رواة "الموطأ" ، ورواية ("بغرة عبد أو وليدة") يحتمل - كما قال ابن التين - أن يكون شكا من الراوي، لكن مالكا قال: أو وليدة، قال: وهذا المعول عليه، زاد الشعبي: أو مائة وعشرين من الشاء. وقال مرة: قيمتها مائة من الغنم. زاد طاوس: أو فرس، وهو يؤيد ما سلف، (وجاء: أو فرس أو بغل.

[ ص: 529 ] قال البيهقي: وهي زيادة غير محفوظة وإن أخذ بها بعض السلف .

وقال ابن القطان: صحيحة لضعف الاعتلال .

قلت: وأخرجها ابن حبان في "صحيحه" من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة .

فصل:

وقوله: (فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل) .. إلى آخره. يريد من لم يشرب ولم يأكل، مثل قوله تعالى: فلا صدق ولا صلى .

فصل:

هذا دليل على أن الجانية غرمت الغرة وحدها، قال ابن التين : وهو مشهور مذهب مالك، وعنه أنها على العاقلة; لأنها دية، وبه قال الشافعي، وحجته رواية البخاري (فقال الذي قضي عليه: كيف أغرم .. ؟) إلى آخره، و(الذي قضي عليه) رجل من العصبة.

فصل:

وقوله: (بطل). روي بالموحدة وبالمثناة تحت، أي يهدر ولا تكون فيه دية.

قال الخطابي : والذي سمعت الأول.

[ ص: 530 ] قال صاحب "الأفعال": طل الدم وطل: إذا هدر ، قال الشاعر:


وما مات منا ميت في فراشه ولا طل منا حيث كان قتيل



وقد قيل: أطل الدم، بمعنى طل، ولم يعرفه الأصمعي.

(قال أبو زيد: طل دمه فهو مطلول، وأطل دمه) وطله الله وأطله، قال: ولا يقال: طل دمه بالفتح، وأبو عبيدة والكسائي يقولانه، قال أبو عبيدة: فيه ثلاث لغات: طل دمه وطل دمه وأطل دمه .

وقال ابن دريد: أهل الحديث يقولونه بالباء وهو تصحيف، وإنما هو بالياء.

فصل:

معنى استهل: صاح عند الولادة وهو البكاء.

فصل:

قد أسلفنا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعبه لأجل السجع، إنما كره سجعه بالباطل; لأن الكهان يموهون أباطيلهم بالأسجاع فيظن أن تحتها حقا وإلا فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". وسلف غيره أيضا .

فصل:

واختلف فيمن يرث الجنين، فقال مالك: هي موزونة على فرائض الله. وقال أيضا: هو كبضعة من أمه ترثه وحدها. وقال أيضا: هو بين

[ ص: 531 ] أبويه، الثلثان للأب، وللأم الثلث. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وأيهما خلا به فهو له. كذا في ابن التين، وإنما يخلو به الأب إذا ماتت المرأة من الضرب، ثم خرج الجنين ميتا، على قول أشهب والشافعي، وأما ابن القاسم فيقول: لا شيء فيه; لأنه مات بموت أمه، وتخلو به الأم إذا مات الأب قبل أن تطرحه. كذا فيه أيضا.

فصل:

واحتجاج العلماء بهذا الحديث وهو (سببها قضية في عين معلوم بشخصها) فعدوها، وهو كرجم ماعز لما علم سببها، فالعلم بالسبب كالتعليل، يرد إليه ما شابهه، وهذا فعل من يقول بالقياس في الأحكام على العلل، وهو كثير.

فصل:

استدل أبو سعيد الهروي بهذا الحديث على صحة قول مالك أن الرجل والمرأة سواء في عقل الجراح حتى تبلغ دية جرح المرأة بثلث دية الرجل، فيكون حينئذ للمرأة نصف ما للرجل، ووجهه أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة، ولم يفصل بين الذكر والأنثى; لأنه قليل من

[ ص: 532 ] الدية، فكذا ما حل محله في كونه قليلا دون الثلث، فالذكر والأنثى فيه سواء، فإذا بلغ الثلث صار كثيرا; لقوله: "الثلث والثلث كثير". وليس ظاهرا لما استدل له.

فصل:

النهي عن ثمن الكلب عندنا على العموم، وقال ابن التين : قيل: هو على كلب الدور، وقيل: على العموم.

و(البغي): الزانية، سمي ما يعطى لها مهرا من كونه قوبل بالوطء، وإلا فلا مهر لها.

و(حلوان الكاهن): ما يعطاه على كهانته، وقام الإجماع على تحريمه; لأنهم يأخذون أجرة ما لا يصلح فيه أخذ عوض، وهو الكذب الذي يخلطونه مع ما يسترقه الجني، فيفسدون تلك الكلمة بمائة كذبة أو أكثر، كما جاء في بعض الروايات، فلا ينبغي أن يلتفت إليهم، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : "ليسوا بشيء".

وقد جاء فيمن أتى الكهان آثار شديدة، فروينا من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ من محمد - صلى الله عليه وسلم - " .

وأخرجه ابن جرير بلفظ: "فقد كفر" ، بدل: "برئ".

[ ص: 533 ] وروى أيضا بإسناده من حديث عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى عرافا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ولم ينظر الله إليه أربعين ليلة" .

فصل:

قوله - صلى الله عليه وسلم - : "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني". بينه في الخبر الآخر: "إذا قضى الله الأمر تكلم به حملة العرش، فيسمعه الذين يلونهم ثم الذين يلونهم إلى الملائكة، فتسترق الجنة السمع بعضهم فوق بعض، فيقذفون بالشهب، فربما ألقى الأعلى الكلمة إلى من دونه قبل أن يصيبه الشهاب فيلقيها الجني إلى الكاهن، فيخلط معها مائة كذبة أو أكثر". كما ذكرنا .

وقوله: "فيقرها في أذن وليه". ضبط بضم الياء وكسر القاف على أنه رباعي من أقر، قال ابن التين : وكذا قرأناه. وقال الجوهري: قررت على رأسه دلوا من ماء، أي: صببته. قال: وقر الحديث في أذنه يقره كأنه صب فيها . وقال ابن الأعرابي: القر: ترديد الكلام في أذن الأبكم حتى يقضيه . ومن رواه: "كقر الدجاجة" أراد صوتها إذا قطعته، يقال: قرت الدجاجة تقر قرا وقريرا، فإن رددته قلت: قد قرت قرقرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية